ثم ضغط على يدها بعد أن سكت طويلا وقال: إني تعب في هذه الحياة الدنيا، فلا يمكنني قط احتمال هذه المعيشة. نعم، لن تكوني قرينة لي فيما بعد فإن سعادتي قد انتهت كما يظهر لي، ومالت شمس الهناء والصفاء إلى المغيب، وأضحت التعاسة أليفي، والشقاء سميري، والعذاب المبرح ألزم إلي من ظلي، وذلك من يوم انفصالك عني، فمن كانت حالته هذه فموته خير له؟ نعم يا مرغريت، إنك ستكونين نظيري في التعاسة جزاء عملك هذا، ومن يعش ير. - أنا لا أكون كذلك لأني لا أستحق. - كنت معي أسعد حظا ولا يمكنك إنكار هذا؛ لأنك قد أقررت بما أقول مرارا عديدة، ولا يقوم الإنكار بعد الإقرار.
نعم، قد قضينا معا أياما ما كان أحلاها وأشهاها، ولم يبق سوى أن نتمناها! - أنا لا أنكر ذلك ، إنما كنت أرى أني سعيدة وأنت تحبني. - أنا وحقك قد أحببتك دائما، ولم أفتر عن حبك قط من عهد معرفتي بك، فكوني إذا على ثقة من هذا؛ لأن صاحب البيت أدرى بالذي فيه. - لو كنت تحبني لما مالت نفسك إلى ارتكاب الخيانة ومخالفة شروط المحبة. - رأيتك أليفة الأحزان والأشجان على فقد إيڤون، تنوحين وتعولين آناء الليل وأطراف النهار، وهذا مخالف لطبيعة الرجل على خط مستقيم، وقد سئمت نفسي طول البكاء والأنين؛ فجرى ما جرى على غير إرادة تامة مني.
وفي غضون ذلك كانت مرغريت صامتة تفكر بمعاملة روجر لها، وكيف أنه وقف حياته وأوقاته وأثمن ما بين يديه لأجل مرضاتها وسعادتها، مع أن ألبير هذا قد ذاقت في أيامه كئوس العذاب أشكالا وألوانا، ويصعب عليها أن تنسى كل ذلك، ثم رفعت رأسها وقالت: قد أتممت وعدي اليوم وأتيت إلى هنا؛ لأني أقسمت بابنتي إيڤون، لكني لن أعود بالمستقبل إلى ذلك، وهأنذا أستودعك الله. قالت هذا وهمت بالانصراف. - أعيريني أيضا نظرة واحدة، أما آخر كلامي معك فهو أني كما قلت لك: إذا شئت أن تريني، فأنا في كل مساء هنا، وإذا أردت يوما ما أن تري رسم إيڤون ... - رسم إيڤون؟! - نعم. - وأين هذا الرسم؟ - عندي، وأما مكان سكناي فهو بيت والدتي القديم، حيث لا يأتي إلي أحد، فتعالي يا مرغريت هلمي وانظري صورة ابنتك إيڤون، والآن أستودعك الله.
ثم ذهب لا يلوي على شيء، أما مرغريت فهمت أن تتبعه، لكن قواها لم تطاوعها، وجلست على مقعد هناك وأجهشت بالبكاء لائمة نفسها على قساوتها في معاملة ألبير بالماضي إلى هذه الدرجة، وكيف أنها طلبت الطلاق واتخذت روجر قريبا لها فيما بعد، كل ذلك كان يجول بفكرها، ولو لم تكن مرتبطة بسنة الزواج ثانية، لعادت إلى ألبير لتقضي معه باقي حياتها.
الفصل الخامس
إن مرغريت لم تفتكر منذ ذلك اليوم بألبير إلا نادرا، وقليلا ما كان يخطر في بالها، وكانت تستخدم كل الوسائط لتسلوه ولا تبالي به، وقد أخذت تزداد اهتماما وتعتني بنوع خاص بإرضاء زوجها الذي لم يأل جهدا في تكثير الأسباب لإسعادها في شئون هذه الحياة، وكانت تقضي أكثر أوقاتها في ملاعبة طفلها وملاحظة أمور بيتها.
وفي صباح أحد الأيام من شهر نوفمبر خرجت المرضع مع مكسيم حسب العادة للتنزه، لكنها لم ترجع في الوقت المعين لرجوعها، بل تأخرت نصف ساعة تقريبا، فقلقت مرغريت من هذا التأخر، واضطرب بلبالها، وأخذت تحسب ألف حساب، فقصد روجر أن يذهب بنفسه للبحث عنهما لأجل تسكين روعها؛ لأنها كانت منحرفة الصحة منذ أيام، وهي تتأثر من أقل انزعاج. وبينما هما يتجاذبان أطراف الحديث بهذا الموضوع، إذا بالمرضع حاملة مكسيم على ذراعيها وهي تلهث تعبا؛ لأنها كانت تمشي بسرعة، فقالت لها مرغريت: قد قلت لك غير مرة أن لا تتأخري في الرجوع عن الوقت المعين لك، ومع ذلك فقد تأخرت اليوم نصف ساعة فاشتغل بالنا، فما سبب تأخرك هذا؟ - نسيت ساعتي هنا يا سيدتي، فأرجو منك المعذرة هذه المرة، وفضلا عن ذلك أني صادفت رجلا في الطريق استوقفني بسبب ملاعبته مكسيم، وقد ظهر لي أنه يحب الأطفال كثيرا. - ومن هو هذا الرجل؟ وتبادر إلى ذهن مرغريت في الحال أنه هو ألبير، فاكفهر وجهها. فقال لها روجر: لا تعكري صفاء مزاجك يا عزيزتي. ثم قال للمرضع: وأنت من صادفك بالطريق؟ - لقيت رجلا لابسا ثياب حداد، وهو كثيرا ما يلاعب الأولاد الصغار ويلاطفهم، وقد سألني بنوع خصوصي عن عمر مكسيم وأحواله، وأظن أنه فاقد ابنا له! - مهما كانت حالته فلا يلزم أن تكلمي أحدا بالطريق من الآن فصاعدا، لا سيما الذين لا تعرفينهم. - أنا لا أكلم أحدا حتى الذي أعرفه، ولكن هذا الرجل هو الذي استوقفني وتكلم معي، وبدأ يلاعب الطفل مظهرا له سائر أنواع الملاطفة، فأراني والحالة هذه لم أقترف إثما ولم أجن ذنبا. ثم خرجت مقطبة الوجه. - لا أهمية لتأخرها هذا يا عزيزتي مرغريت، وكثيرا ما يحدث ذلك في كل زمان ومكان، ولا بد من أن يكون كلامها صحيحا، وأن ذلك الرجل توفي له حديثا ولد من عمر مكسيم. - أفهم كل هذا، ولكن قصدي أن لا تكلم أحدا بالمستقبل؛ لأن الآداب توجب على الإنسان - ولا سيما المرأة - أن تكون في غاية الاحتشام كما لا يخفى عليك. - لا فض فوك ونعم الرأي رأيك. ها إني أراك قد تعافيت من الزكام وملكت تمام الصحة التي هي أغلى من كنوز الأرض عندي، فإذا كان الجو نهار غد صافيا، فلا بد من الخروج للتنزه. وفي أثناء ذلك دخل الخادم وبيده رسالة برقية باسم روجر يطلب بها مرسلها من الدكتور روجر الاهتمام ببعض الشئون، فخرج على الفور، وعلى أثر ذلك دخلت المرضع إلى قاعة الطعام وهي لم تزل مقطبة الوجه متمتمة، فأجلست الطفل بالقرب من أمه وأحضرت له الطعام قائلة في نفسها: يظهر أنه لا ثقة لهم بي، فأي شيء ارتكبت من سوء الأدب يا ترى؟ - صادفت رجلا بالطريق، فسألني باهتمام عن عمر الولد، وبما أن الآداب تقضي علي بمجاوبته جاوبته، ولا أراني مخطئة في ذلك. - ما مضى قد مضى، دعينا من هذه القصة. الآن اذهبي لإتمام شغلك كما كنت أفهمتك.
وكانت يد مرغريت تنتفض انتفاض العصفور بلله المطر عندما كانت تلقم الصغير؛ لأنها فهمت من كلام المرضع ووصفها بأن الرجل هو ألبير بعينه، فغلت مراجل الشوق والهيام في قلبها، وتساقطت دموعها الغزيرة، وحنت إلى ألبير حنين الظمآن إلى الماء والعليل إلى الشفاء، ثم ضمت ولدها إلى صدرها وانهالت عليه باللثم والتقبيل أكثر من عادتها.
الفصل السادس
إن حال مرغريت قد تغيرت تغيرا كليا مذ أخبرتها المرضع بأن رجلا صادفها في الطريق، وعادت لا تذوق الراحة ولا طعم الكرى؛ لأن ذكر ألبير لازمها ملازمة الظل، وفي أكثر الأيام كانت تخرج للتنزه مع المرضع ومكسيم على أمل أن تصادف بغيتها وغاية غاياتها، غير أنها لم تجد له عينا ولا أثرا، مع أنها كانت تكثر من الترداد إلى الحديقة المذكورة. وفي ذات يوم خطر في بالها - بعد أن عيل صبرها - تسأل المرضع: ألم تزل تصادف الرجل المذكور؟ فأجابتها بأنفة: نعم، أجده مرارا لكني كل مرة ألمحه عن بعد أسير في طريق آخر حتى لا ألتقي به، ولولا ذلك لكنت حضرتك تقولين إني أنا التي أفتش عنه لأستميله إلي. قلت - والشيء بالشيء يذكر - إن اللواتي يرمن استمالته إليهن كثيرات من ذوات الجاه والوجاهة والجمال الرائع، ولعمري إني لا أصلح أن أكون خادمة عندهن، ويظهر لي أن الرجل جدير بالاعتبار، حري بأن يكون من رجال الأعمال المهمة، ولا يخطئ ظني لأنا نرى غالبا أن المنظر دليل على المخبر، ولكن يا ليت صحته أحسن منها الآن؛ فإنه ضئيل الجسم نحيفه.
Shafi da ba'a sani ba