المستقبل وحده هو الذي يتقلب وتمر أدواره على الحدث الناشئ، إلا أنه يجب تذكيره بالماضي، وحمله على احترام السلف وتقديسهم؛ لأن الفضل راجع إليهم في كل التقاليد الحسنة، وتكوين المدنية والرقي الاجتماعي. فيجب على الآباء إحياء ذكرى الماضي في نفوس الأبناء؛ لأن فيه العبرة والموعظة والهداية في طريق المستقبل المظلم، ولا شيء أوقع في نفس الطفل ولا أنجع لخلق روح التواضع في قلبه إلا مشاهدته الوالد والوالدة يؤديان واجب الاحترام والإجلال لجده الشيخ الفاني مثلا، وإلا تحققه تبادل الاحترام بين أفراد البيت جميعا؛ لأن وجود هذه العاطفة بين الرجال يكون سببا لغرسها في نفس الناشئ، فيشب على حب الاحترام والشعور بكونه من مقتضيات التربية والواجبات.
ولا يفوت العاقل أن الخادم آدمي له جميع حقوق الإنسان، وأن افتقاره للارتزاق من خدمة الغير ليس من دواعي التحقير والامتهان. فكل تحقير له وازدراء به شذوذ عن الأدب الصحيح، ونقص في التربية والأخلاق، ومن أهمل ردع ولده عن الإغلاظ للخادم لا يلبث أن يرى النقص يتطرق إلى نفسه من حيث لا يشعر ولا يدري، ثم تظهر نتيجته بعد قليل في معاملته لذات الوالدين ولسائر الناس.
والاعتقاد بأن الطفل الصغير لا يعرف الاحترام ولا يدرك معناه خطأ؛ لأن الطفل يعجب ويستحسن وينفر ويستقبح، ومن يدرك ذلك يعرف كيف يحترم. والاحترام ضروري ومن الحاجات التي يجب أن تتشبع بها نفس الصبي وينطبع عليها خلقه، والإهمال يقتل هذه العاطفة وينزعها من القلب والعقل، ولعدم تحققها بين الكبار تأثير سيئ في نفوس الصغار، ولهم منها نموذج فاسد يثبت لهم فساد التعاليم والمبادئ الصحيحة التي تقتضيها التربية.
وإذا كانت بساطة القلب وسلامة النية من الخصائص المحترمة، فإن الاعتدال في الحياة هو خير الوسائل الإعدادية لهذه التعاليم. والحكيم من يجتنب كل الأسباب التي تؤدي إلى نفخ روح الخيلاء والكبر في نفوس الأطفال مهما عظم جاهه وكثر ماله. واختيار الملابس الأنيقة وكثرة الزينة مما تساعد على انتشار هذه الروح الخبيثة، وتغري الطفل على الاعتقاد بأن المراتب في المناصب والأقدار بالدرهم والدينار.
وهنالك كثير من أنواع الفخفخة والحمق في التعليم تكون نتيجتها إفساد الصغار، وتعويدهم احتقار الوالدين والعادات القومية والعمل المفيد، والوسط الذي نشئوا وعاشوا فيه. والتعليم على هذا الشكل المشوه مصيبة عظيمة وخطب جسيم؛ فإنه لا يخرج إلا أفرادا يتذمرون من كل شيء، وينفرون من أصلهم وأرومتهم ودينهم وبلادهم، فإذا ما انفصلوا عن الجذع الذي تفرعوا عنه وخرجوا من أصله يقلبهم الطمع والغرور في كل المهاب، كما تقلب الريح الشديدة أوراق الشجر اليابس.
كل شيء في نظام الكائنات يتم بالهدو والتؤدة لا بالطفرة والقفز، فليقتد الإنسان بالطبيعة في سيرها المعتدل، ولا يخلط النجاح والارتقاء بهذه المناورات العنيفة الحادة والقفزات الخطرة، وليبعد كل البعد عن تربية الأولاد لتعويدهم احتقار العمل والرقي والاعتدال والأهل والأقران والفقر؛ لأنه لا يكون أتعس من حال الأمة التي تكون نتيجة التربية فيها تأفف أبناء الفلاحين من المزارع، والبحارين من البحر وحرف الآباء والجدود، ولا يكون أشقى من حال المجتمع الذي يزدري به الأبناء آباءهم، ويخشون من الظهور معهم أمام الجمهور خشية انتسابهم إليهم. ولا يكون أحسن من حال الأمة، ولا أسعد من البلاد التي يفتخر بنوها بآبائهم، وأحفادها بجدودهم، والناس بحرفهم كل في مهنته عن رضاء ورغبة في العمل والإجادة، ويؤدي مقتضيات عمله بأمانة مع الاقتناع بالحاضر وحسن الظن بالمستقبل. •••
الغرض من التربية كما مر تخريج رجال أحرار، فمن شاء أن يربي أبناءه على مبادئ الحرية، فلينفث فيهم من روح الاعتدال والبساطة، ولا يخشى تأثير ذلك في السعادة، فإن الاعتدال من أسباب الحصول عليها، لا من الوسائل المؤدية إلى الشقاء والنكد.
من الواضح أنه كلما كثرت لعب الطفل ووسائل السرور واللهو، كلما كان أكثر ميلا إلى الكدر والبكاء، وفي هذا دليل على أن كثرة الوسائل الموضوعة والأسباب المختلقة للحصول على السعادة لا تنيلها ولا تأتي بالغرض منها، ودليل على أن قلة هذه الأسباب أو عدمها لا ينفي وجود السعادة وتمتع الفقير المقل بها. فليكن من اهتمام المربي عنايته بتعويد الطفل القناعة، والاكتفاء بالقليل، وعدم التورط في ابتداع الأسباب الوهمية للسرور، وليضاعف جهده لإقناعه بضرورة بقاء الملابس والمساكن والملاهي، وكل حاجات الإنسان على أبسط أشكالها التي تؤدي الغرض المقصود منها.
إن البعض ليجتهد في إرضاء رغبات أبنائه، فيفعل ما يعلمهم الشراهة والكسل، ويثير فيهم ثوائر نفسية وميولا لا تتفق مع أعمارهم، ولا توافق طبيعة الجسوم، فيجعلونهم أرقاء مستعبدين للشهوات والعادات لا أحرارا مستقلين.
ومع كون الترف يضني ويسئم الجسم، فهو إذا قل بعد اعتياده يكون سببا من أسباب الشقاء وعدم الرضاء بالمآل. وكثيرا ما دفع الإنسان إلى نسيان الكرامة الشخصية وبذل ماء الوجه، وإلى تجاهل الحقيقة والواجب جبنا وسفالة.
Shafi da ba'a sani ba