وخير لذي المنصب والنفوذ، ولمن في يده شيء من أمور العباد وتدبير النظام والإدارة أن يكون متواضعا لا غليظا فظا؛ لأن الواجبات الجمة التي يتطلبها المركز أكبر من قوته مهما أوتي من المقدرة والكفاءة. والعاقل من يحكم على نفسه بالتقصير بدلا من الدعوى الكاذبة والفخر.
وليكن الاتضاع من صفات العالم الضليع؛ لأن العلم وكثرة الاطلاع تدل المرء على قدر نفسه وحقارة معلوماته الكثيرة بالنسبة للمجهول الغامض، فما العلم إلا خضم عجاج لم يغترف منه الناس غير قطرة واحدة، ليكن الاتضاع من صفات ذوي الحكمة والفضائل؛ لأنه ليس من يعرف عيوب نفسه حق المعرفة. فالعين لا ترى سيئات النفس ولا تعرف ما يخبئه القدر بين ثنايا المستقبل. وإن اعوجاج المستقيم أسهل من تقويم المعوج، وتحطيم الصحيح أيسر من إصلاح المحطم، فكذلك السقوط أكثر إمكانا وأسرع تحقيقا من القيام والارتقاء. ومن لا يعذر الناس ومن لا يشفق على الغير تقس عليه القلوب. ومن لا يلبي دعوة المستغيث تصم الآذان عن سماع صوته حتى يبح ويتلاشى. •••
ليس الغرض مما مر محو الفروق الضرورية بين طبقات الهيئة الاجتماعية، وإزالة كل مميز للمراكز عن بعضها؛ لأن ذلك ضروري للنظام العام، ومحتم وجوده لكمال الاجتماع، ولكنني أرى أن الفارق الذي يميز فردا عن آخر ليس هو في المركز ذاته، ولا في المنصب، ولا في الرتبة، ولا في الثروة، وإنما في ذات الإنسان وشخصه.
ولم تظهر صحة هذا القول في عصر من العصور مثل وضوحها في هذا الزمن الحاضر، ولهذا رسخ في كل الأذهان تقريبا فساد الاعتقاد بضرورة سمو المميزات العرضية، ولم يعد للتاج والعرش تأثير على العقول والقلوب، ولا عاد القروي يرتجف ويهلع أمام سيف الضابط ورداء الجندي، ولا عاد للرتب والأوسمة تأثيرها الأول في النفوس؛ لأن العالم أدرك أن لا قيمة لها في ذاتها، وأن قيمتها الحقيقية إنما تكون في شخص حاملها. وأصبح من الهين على الشعوب خلع من لا يحسن سياسة الملك، بعد أن طال العهد بالاستكانة لشهوات الحاكمين وجور المتعسفين. وصار من الأمور العادية معاقبة الضابط الذي يهين الناس بغير وجه حق اعتمادا على هيبة وكرامة ردائه العسكري. كل ذلك صار من الهينات؛ لأن الغشاوة التي كانت تحجب عن البصائر نور الحقيقة والتمييز أزالها مرور الزمن والتعليم وكثرة التجارب.
وقد كان للاستبداد والظلم أكبر تأثير في رفع حجاب الجهل عن العيون، ودفع الناس لاطراح رداء الرق وكسر قيود العبودية، فلم يعد للأوهام قيمة إلا في مخيلة المجانين والأطفال والأغبياء. وأصبحت الأقدار على قدر الكفاءات الشخصية والمميزات الذاتية، ومن رام إعنات الناس وإرغامهم على احترام ذوي المناصب لوجودهم فيها، أو الأغنياء لمجرد الغنى والثروة يرهق هذه النفوس، ويولد فيها الكراهية بدلا من الحب، والاحتقار بدلا من الاحترام.
مما يؤسف له انتشار روح خبيثة في كل أفكار الشعوب، نشأ منها الاحتقار العام ومقت ذوي المناصب وأفراد الطبقات العالية، وليس ذلك لعدم وجود المميزات الشخصية الجديرة بالإكبار والإعجاب. وإنما لغطرسة أولئك الكبراء وتعمدهم تناسي واجباتهم نحو الاجتماع وروابطهم بالإنسانية، ولعدم احترامهم الناس إلا من يكون معهم في مستوى واحد أو يسمو عنهم جاها وسؤددا.
إن الرفعة لا تخلي العظيم من المسئولية ولا تكبر به عن الاستسلام للقوانين والنظام العام؛ لأنها فوق كل عظمة وجاه، ومن الغرور والجهل نبذ التواضع والوداعة تظاهرا بالارتقاء والرفعة. واللوم راجع إلى الإنسان نفسه إن لم يعرف كيف يكتسب احترام الناس.
ومن الثابت عقلا وتجربة استحالة وفاء من لا تصدق في معاملته، وحب من تبغضه، واحترام من تحتقره وتنكر عليه كرامة النفس، فلا بد لحفظ نظام الاجتماع من وجود الاحترام بين الأفراد، وذلك لا يكون إلا بوجود المميزات بينهم، والمميز الحقيقي بين الفرد والناس إنما هو التفوق بالكفاءة، وحسن الخلق، وسلامة الضمير، وشرف النفس.
والمشاهد أن كل ذي رغبة في الرفعة والارتقاء يخفض من كبر النفس والغلواء، ويقوم من اعوجاجه بقدر ما يستطيع، ويظهر ودودا وديعا حتى مع من يتحتم عليهم احترامه وطاعته، وعلى قدر تساهله في إنكار ذاته والتخفيض من كبريائه تكون منزلته في القلوب والأنظار. فكأن الاحترام والكبر خلقا على نسبة عكسية في كل أدوار الحياة، وبين كل أفراد الهيئة الاجتماعية مهما اختلفت الأزمان والظروف والأسباب.
التربية والاعتدال
Shafi da ba'a sani ba