ليس من ينكر أن مشاكل الحياة ومطالبها عديدة، وأن حاجة الإنسان إلى الاقتصاد ماسة، وأنه مرغم على ابتكار أساليب النظام في العمل للكسب والتوفير؛ حتى يتسنى له حفظ مركزه الاجتماعي وكسب قوت عائلته وأطفاله. وإن من لا يراعي هذه الظروف المتجددة، ولا يحفل بالطوارئ فيعد لها العدة قبل أن تفاجئه، وإن من لا يحسب للدهر تقلباته ليس إلا قليل التبصرة. ويجوز أن تفاجئه ظروف تلجئه إلى التسول ممن كان يعيب عليهم الحرص والتدبر والشح.
ليس من ينكر كل ذلك، ولكن إلى أي حال يصل المرء، وعند أي حد يقف إذا هو حصر أفكاره في أمثال هذه المخوفات؟ وماذا يعمل أو يتمم من العمل إذا قصر همه على أن يقارن بين العمل والأجر الذي يريده لنفسه، أو إذا أصر على أن كل ما لا يأتي بفائدة مادية يكون تعبا ضائعا على غير طائل؟
ألا إن الوالدات لا يتقاضين أجرا على إرضاع وتربية ومحبة أولادهن، ويرى الأبناء من واجبات البنوة احترام ومحبة ومساعدة الوالدين. والرجل الشريف لا يزال يعلن الحقيقة ولو أنه لا يجني من ذلك غير كره الناس له ونفورهم منه واضطهادهم إياه. والناس تدافع عن الأوطان وما وراء ذلك غير التعب والجراح، وربما الموت أيضا. وفاعل الخير يسديه إلى الغير بدون أن ينظر إلى ما يكون من نكران الفضل، وحسد البعض له وحقدهم عليه. كل هذا يتم بدون أجر وبدون تطلع إلى ربح مادي، والإخلاص وحده هو سر هذه الأعمال الجليلة، ورقة الشعور هي التي تبعث على انفعال النفس وتأثر العواطف وتدفع الإنسان إلى ما يحمد عليه من الواجبات الإنسانية.
أمكتنز المال، حول بصرك عن شعاعه الوهاج فإنه يبهره فيزيغه عن الحقائق، وتأمل في كيف جمعت ما استغواك وأبعدك عن جادة الاعتدال، تجد أن معظم ما وصل إلى يدك لم يكن ليصل إليها لولا سذاجة الآخرين، أو إخلاصهم لك. ولو كان كل من صادفت في حياتك من الماكرين ذوي الخبث والأنانية لما كنت في مركزك الحاضر، ولا جمعت هذا القد مما كان للغير وتسرب من يدهم إليك. إن جلال العالم ليس بأمثالك، بل بأولئك الذين لا تحفل بهم ولا تلوح قيمتهم الحقيقية واضحة للعيان. وإن الخدمات التي يؤدونها للاجتماع ليعجز عنها من تجردت نفوسهم من مشاعر الإنسانية، حتى إنهم ليجودون أحيانا بأموالهم وراحتهم وحياتهم لنفع الهيئة الاجتماعية، بينما أنت تحاسبهم على ما تربح وتحصي عليهم ما يعملون وما يأخذون. إنهم ليعملون كثيرا لمعاونة مثلك مدفوعين بعوامل الرأفة والإشفاق والطيبة والإنسانية، وكثيرا ما يكون جزاؤهم على ذلك نكران الفضل والمسبة والتحقير، فلا يقابلون هذا الجحود بما يستحقه، بل بلوم أنفسهم على خير أسدوه إلى غير أهله ومعروف زرعوه في غير مكانه. وإنهم لعلى حق في ذلك؛ فإن اللآلئ لا تطرح في القاذورات. ولولا أن مصلحة الهيئة الاجتماعية قائمة بوجود هذا النوع من الناس، وتعدد هذا الخطأ المفيد رحمة بالخلائق لأقحلت القلوب من الرأفة والإنسانية مما يعزي البائس ويلطف آلام المنكوب. •••
المال روح الحياة! هذا هو المبدأ الفاسد الذي تشبعت به النفوس والأفكار، وكان سببا لما نسمعه متناقلا على مثال الحكم من قولهم: القوة للمال، هو البرهان القاطع واللسان الناطق ... هو مفتاح الآمال وحلال المعضلات، هو سلطان العالم، وأمثال ذلك مما نظم وقيل مدحا في المال ورفعا لشأنه.
المال يلوح أنه روح الحياة لمن يصيبه الإفلاس التام يوما أو أكثر، ويكون في بيئة لم يعرفها ومكان لم يطرقه بعيدا عن ذوي صداقته وقرباه. وإن ما يقاسيه من نكد العيش وآلام الحياة، وما يمر عليه من التجاريب في هذا الزمن القصير؛ ليمكنه من معرفة ودرس فلسفة الفقر والفقراء درسا لا يتسنى له على أحسن مدرس حكيم.
ومما يؤسف له أن هذا الدرس المفيد قد يتسنى للبعض مكرهين على تلقيه في مدرسة الشقاء، وقد يطول أمده عليهم وهم - مع ذلك - في أوطانهم، وبين ذويهم وأصدقائهم ورفقاء حياتهم، بل وبين من سبق أن أفاضوا عليهم مما كان لهم من نعم الله، وغمروهم بالأفضال والحسنات. ولكن هذا لا يمنع أن يكون الدرس أكثر إفادة، والتجربة أبلغ عظة وعبرة؛ فإن العوز يذهب بالصداقة ولحمة القرابة وعهود الصبا وذكرى المنة والمعروف، حتى لينكر الناس معرفة المفلس ويفرون منه فرارهم من الموبوء.
إن الذباب ليتهافت على الجيف المنتنة، وكذلك الناس يترامون على المال، فإذا ما ذهب انفض المترامون وتوارى المتحببون. ومن يصل به الشقاء والبؤس إلى هذا الحد من مواقف الحياة، لهو وحده من يستطيع أن يعرف قدر المال، ويسخط على المبدأ السالف، ويقدر كثرة أضراره بالهيئة الاجتماعية، ولو أنه كان في زمان سعوده من أنصاره ومن عباد العجل الذهبي.
هذا المبدأ فاسد بكل معنى الكلمة، وليس أيسر على العقل من إثبات فساده بأدلة، ليس منها ما جاء في القصص من ذكر الضال في الصحراء، ولا تمثيل الغني الكانز في ضعف الشيخوخة وانحلال الكبر، وإنما بأدلة تجعل الحقيقة واضحة ملموسة، وتظهر بطلان هذه الأكذوبة التي جرت مجرى الحكم والنظريات البديهة.
ليس أقرب إلى التذكر من حال الإنسان في دور البداوة، وقبل تطرق هذا الخبث إلى الأفكار والقلوب، فإنه كان أسعد حالا منه بعد كثرة المال وتوفر الحاجات المادية ووصول العمران والمدنية إلى هذا الحد المبهج، وقل أن صادف المعوز - في ذلك العصر الهمجي - ما يلاقيه اليوم من أخيه المتمدين من دلائل القسوة، وإقفار القلوب من الرحمة، وقبض الأيدي عن الجود، بدون أن يمنع الكرم في ذلك العهد تقدم الاجتماع أو يخل بنظام العالم، وبدون أن يكون الشح وحب المال في هذا العصر واسطة للإثراء والحصول على السعادة، أو من عوامل الرقي الحقيقي وأسباب السلام.
Shafi da ba'a sani ba