Rousseau: Gabatarwa Ta Gajeren Lokaci
روسو: مقدمة قصيرة جدا
Nau'ikan
الدين والتربية والجنس
أشار روسو في الفصل الثامن من الكتاب الرابع من «العقد الاجتماعي» أنه في العصور القديمة الوثنية، كان لكل دولة آلهتها، وأن سلطة آلهتها تحددها حدود الدولة السياسية. لكن اليهود أولا ومن بعدهم المسيحيون قدسوا إلها مملكته ليست على هذه الأرض، إلها أخفقت سطوته الدنيوية أحيانا في مضارعة هيمنته الروحانية؛ مما أدى إلى انقسام بسبب فصله النظام اللاهوتي عن النظام السياسي في الدولة. وإذ وسع الرومان عقيدتهم مع اتساع رقعة إمبراطوريتهم، فقد شكوا في عدم الاكتراث بالسياسة الذي أبداه المسيحيون الروحانيون، وخوفا من ثورتهم عليهم في نهاية المطاف، فقد قاموا باضطهادهم. ولاحظ روسو أنه في الوقت المناسب تخلى المسيحيون حقا عن خضوعهم، وشددوا على حقهم في السيطرة على الجوانب الدنيوية، فأسسوا أعنف الدول الاستبدادية على الإطلاق في العالم الحديث. في عصر روسو، حدث خلط بين الهويات السياسية والدينية في كل مكان، حتى بين المسلمين، لدرجة أن «الروح المسيحية سادت تماما». وحيثما اكتسب رجال الدين سلطة مؤسسية، كانوا يسعون إلى بسط نفوذهم على الأمراء بموجب الأحكام التي تفرضها مكاناتهم المقدسة، ومن خلال حقوق الحرمان الكنسي التي يتمتعون بها، بينما في إنجلترا وروسيا في المقابل، جعل الأمراء أنفسهم سادة على الكنيسة مخاطرين بإحداث شقاق مماثل محفوف بالمخاطر بين الادعاءات المقدسة والدنيوية للسيادة. أدرك هوبز وحده بين الكتاب المسيحيين مثل هذه المخاطر التي تتهدد السلام المدني، وكان على حق إذ اقترح وضع السلطة الدنيوية والدينية في يد واحدة. لكنه أخفق في أن يضع في الحسبان الأخطار التي تمثلها المسيحية على نظامه، وحقيقة، أيا كانت الجهة المحصورة فيها السلطة، فإن المصلحة الخاصة لأي حاكم ستراعيها حكومته أكثر بكثير من المصلحة العامة للدولة.
بعد هذه التأملات حول تقويض المسيحية للأسس المقدسة للسلطة المدنية، ميز روسو بين ثلاثة أنواع أساسية للمعتقد الديني في بعده الاجتماعي: دين الإنسان، ودين المواطن، ودين القس. يقوض النوع الأول، وهو دين الإنجيل البسيط، أي ولاء للدولة، أما الثاني، بمزجه بين العبادة الإلهية وحب القانون، فيصيب الناس بالسذاجة والتعصب، أما الثالث، بإخضاع الناس لالتزامات متضاربة تجاه الكهنوت والحكومة الأميرية، فيغرس الشقاق بين المرء وذاته وبينه وبين جيرانه. وكل من هذه الأنواع مضر للدولة ككيان سياسي، بحسب استنتاج روسو، وما من نوع أكثر ضررا من النوع الأول الذي يفترضه الآخرون، وهم واهمون في افتراضهم، أفضل نوع على الإطلاق نظرا لمعتقداته المجمعة وصلاحه العميق. وحقيقة الأمر أن مجتمعا من المسيحيين الحقيقيين سيتسم بالكمال الروحاني الشديد لدرجة أن أعضاءه لن يكترثوا كثيرا بالنجاح أو الفشل الدنيوي. وسيؤدي المواطنون واجباتهم باعتبارها نوعا من الإذعان الديني وحسب، وهدفهم هو ضمان خلاص أرواحهم وحسب. تساءل روسو كيف يمكن لجمهورية مسيحية مواجهة المحاربين الوطنيين لأسبرطة أو روما «المفعمين بحب المجد وعشق بلادهم»؟ كيف يمكن حقا لجمهورية حقيقية أن تكون مسيحية إذا كان «المسيحيون الحقيقيون يتحولون إلى عبيد»، وإذا كانت عقيدتهم أكثر انقيادا للاستبداد منها إلى السعي وراء المصلحة العامة؟
فلكي تستقي الدولة قوة حقيقية من أعضائها، يجب أن تقوم على عقيدة تجعل كل مواطن يعشق واجبه دون التطفل على معتقداته بشرائع وطقوس وتعاليم. ويجب أن تطلب الدولة من رعاياها اعتناق دين مدني بحت، يفرضه صاحب السيادة فقط لإثارة المشاعر العامة للارتباط الاجتماعي، وينبغي أن تضم عقائده وحسب وجود إله قاهر لبيب وخير، وقداسة العقد الاجتماعي والقانون، وتحريم التعصب. وبما أن الإيمان ليس بحد ذاته عرضة للإجبار، فليس بمقدور صاحب السيادة إلا أن يقصي من أراضيه كل الذين يهدد تعصبهم تجاه الآخرين لا محالة نسيج المجتمع. وقد يسمح حتى صاحب السيادة بإعدام الذين يخونون يمين ولائهم المدني؛ أي الذين يحنثون بأيمانهم ويبدون استعدادهم لمخالفة القانون، ومن ثم استعدادهم لا لارتكاب المعاصي بل لغرس بذور الفتنة، بحسب تأكيد روسو أكثر ما يكون في ملاحظاته على الموضوع نفسه في رسالته إلى فولتير عن العناية الإلهية عام 1756 (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم 424)، متنبئا بتلك الفكرة التي سيذكرها لاحقا في «العقد الاجتماعي». وذهب روسو إلى أن التعصب الديني من شأنه أن تكون له تبعات سياسية مشئومة. وفي ملاحظة أرفقها بالفصل قبل الأخير لهذا العمل، التي ربما حاول روسو أن يكبتها بدافع الحذر غير المعتاد، حتى أثناء طباعة عمله، شكا روسو من التهديد الذي يحدق بأسس الدولة نفسها، في تنظيمها للمناصب العامة والمواريث الخاصة، بسبب السيطرة الدينية على عقود الزواج المدنية. إن الفقرة المقابلة في «مخطوطة جنيف» أكثر وضوحا في هجومها على التعصب الذي تعرض له البروتستانتيون في فرنسا إثر إلغاء مرسوم نانت عام 1685، وتشريع عام 1724 الذي فرض ضرورة حصول الزيجات والتعميدات البروتستانتية على المباركة الكاثوليكية. ونظرا لأن البروتستانتيين في فرنسا لم يكن يمكنهم الزواج دون ترك دينهم، فإنه كان يتم التسامح معهم وحظرهم في الوقت نفسه، بحسب زعم روسو، وكأن السياسة الرسمية تقضي بأنه ينبغي عليهم العيش والموت في إطار علاقة زوجية محرمة، وإنجاب أطفال غير شرعيين محرومين من ممتلكاتهم. انتهى روسو إلى أنه «من بين جميع الطوائف المسيحية، البروتستانتيون هم الأكثر حكمة ورقة ومهادنة ومخالطة للآخرين.» وهي الكنيسة المسيحية الوحيدة التي تسمح بسيادة حكم القانون وسلطة القوى المدنية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث).
وإذ شدد روسو على عدم ملاءمة الكاثوليكية الرومانية باعتبارها دينا للدولة، فإن دعوته للتسامح في «العقد الاجتماعي » تشبه بعض الشيء «رسالة عن التسامح» للوك التي خطها عام 1689، ولو أن عرض فصله للعلاقات الداعمة سياسيا التي يخلقها مشرعو الجمهوريات القديمة يدين بقدر أكبر بعض الشيء إلى كتاب «القوانين» لأفلاطون، والأهم من ذلك «نقاشات» مكيافيللي الذي وجد بالمثل الدين المدني لروما أكثر جاذبية بكثير من طائفة المسيحية الرومانية لمدينة الرب. لم يبهر أي مفكر حديث روسو كما أبهره مكيافيللي، لا لعشقه للحرية وحسب، بل وأيضا لفهمه الثاقب لمكانة الدين في الشئون العامة. ولكن، على الأقل بقدر ما كان التشابه بينهما شديدا، كذلك كان الاختلاف الأساسي بين فلسفتهما المتعلقة بالدين؛ فبينما استحسن مكيافيللي العقيدة الدينية؛ لأنها تعزز وطنية المواطنين، كان روسو أيضا منشغلا بشغف بطبيعة المعتقد الديني. وعلى النقيض من مكيافيللي، فقد رأى روسو في حياة المسيح والمثال الذي ضربه إلهاما، وكذلك الإنجيل وتعاليم بعض الحواريين على الأقل. ولقد حار وراودته التساؤلات حيال مكانته في عالم الرب، تلك المكانة التي أرقت القديس أوغسطين الذي سيتردد صدى كتابه «اعترافات»، في كتاب روسو الخاص بسيرته الذاتية ولكن بلغة جديدة. إذا كان روسو في استيعابه للآثار السياسية للدين واقعا بوضوح تحت تأثير مكيافيللي، ففي معتقداته الدينية نفسها، وفي تصوره للرتب الكهنوتية والكنائس، كان روسو بالقدر نفسه ابنا لحركة الإصلاح الديني البروتستانتية. في المجتمع الفكري (جمهورية الآداب) العلماني نسبيا بالفعل لأوروبا الغربية، كان روسو متفردا تقريبا في حدة معتقداته الدينية. وبينما لم يؤمن بالسقوط الأصلي للبشر من الجنة، فقد صور «خطاب عن اللامساواة» و«مقالة عن أصل اللغات»، وكذا عدد من الأعمال الأصغر حجما صناعة الخطيئة طوال التاريخ البشري بأسلوب يقدم بوضوح عرضا حديثا لنزولنا من الجنة وإقامتنا لمدينة بابل في سفر التكوين، بينما سارت ملاحظاته حول المشرعين وإنشاء الدول الحديثة بدورها في «العقد الاجتماعي» و«حكومة بولندا» وغيرهما من أعمال على نهج سفر الخروج. وشأنه شأن عالم اللاهوت المسيحي بلاجيس، كان روسو مقتنعا بالخيرية الجوهرية للطبيعة البشرية بالشكل الذي خلقها الرب عليه. وشأنه شأن أبلارد، الذي صاغ روسو أكثر الروايات الفرنسية نجاحا في القرن الثامن عشر حول حبه المحرم لإلواز، اقتنع روسو بقوة العقل في فهم مغزى الرب. وشأنه شأن باسكال، فقد أضاء نور داخلي عميق الطريق لإيمان روسو الراسخ في غمرات عالم مضطرب.
فيما خلا شغفه بالموسيقى، لم يؤثر موضوع في نفس روسو بعمق كما أثر حبه للرب. فقد شكل فكرة ثابتة في كتاباته، بداية من الصلوات التي خطها في شبابه حوالي عام 1739 عندما كان واقعا تحت الأثر الكاثوليكي للسيدة دي وارين، وحتى دفاعه عن عقيدته البروتستانتية ضد منتقديه في عمله «رسائل من الجبل» عام 1764، وانتهاء بالدين الطبيعي الوارد في عمله «أحلام يقظة جوال منفرد» الذي كتبه عام 1777 قرابة نهاية حياته، والذي صور فيه إحساسه المكتفي بذاته بالكامل بوجوده وكأنه الإحساس الخاص بالرب (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ أحلام يقظة جوال منفرد). كما لم يحظ أي موضوع آخر بتعليقات أكثر وفرة في مراسلاته الضخمة، وخاصة في رسالته الثالثة المؤرخة بتاريخ 26 يناير 1762 إلى مدير النشر، ماليزيرب (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم 1650)، وفي أخرى بتاريخ 15 يناير 1769 إلى لوران إيمون دو فرانكييه (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم 6529)، احتفى روسو بإخلاصه لعقيدته الباعث على البهجة؛ في الأولى: بالانتشاء لوجود كيان مقدس يجعله امتلاكه لعجائب الطبيعة اللانهائية في حالة سعادة غامرة؛ وفي الثانية: عبر تأملات في المشاعر الداخلية التي ينجذب من خلالها الأفراد بتلقائية لكل من الرب والحقيقة، وفي الشر الذي نتحمل نحن وحدنا مسئوليته إذ نسيء استغلال إمكاناتنا. لكن مفهوم روسو عن الرب لم يتم التعبير عنه بالكامل وبأكبر قدر من البلاغة كما في قسم طويل من «إميل»، بعنوان «عقيدة كاهن سافوي». وقبل ذلك في عام 1761، في نهاية روايته «إلواز الجديدة»، أعلنت بطلة رواية روسو على فراش الموت بعد أن أنقذت حياة ابنها من الغرق عن عقيدة امرأة عاشت معتنقة «المذهب البروتستانتي الذي يستقي أحكامه فقط من الكتاب المقدس ومن العقل» (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ جولي أو إلواز الجديدة). لكن هوية جولي كانت خيالية وحسب، وأجاز لها مبتكرها أن تعبر عما تؤمن به. وفي «إميل»، تحول هذا الإعلان عن العقيدة الدينية ليكون على لسان كاهن مبعد (والذي رسمه روسو على غرار قسين كان يعرفهما في شبابه)، وذلك على منحدرات خارج إحدى المدن التي تشرف على جبال الألب والذي ينقله لشاب نازح، وذكر روسو أن قصة هذا الشاب هي قصته هو شخصيا، ضاربا مثلا للتلميذ الذي هو الشخصية الرئيسية داخل العمل، ولقراء العمل كلهم باعتباره «موعظة الجبل» (إشارة لموعظة الجبل الخاصة بالمسيح المذكورة في إنجيل متى التي تعد عظة جامعة) الخاصة بالمؤلف.
شكل 5-1: ورقة من «مخطوطة فافر» لقسم «عقيدة كاهن سافوي» من كتاب «إميل».
ينقسم «عقيدة كاهن سافوي» إلى جزأين يتخللهما الظهور المتكرر لروسو بشخصه كراو ومعلم لإميل، عارضا ردة فعل إميل الصبيانية للتبصر السامي للكاهن عندما رأى عالما آخر، وهو الذي يشبه ذلك الذي لمحه روسو في الواقع خلال رحلته لزيارة ديدرو في سجن فانسين. وفي الجزء الأول، وصف روسو ازدواجية الطبيعة البشرية، وقصور الإحساس، وضرورة وجود رب مسير لحركة كل الأشياء وحكيم، والمسئولية التي يتحملها البشر وحدهم عن الشر الذي يقومون به، وقدرتهم على نيل السعادة والتحلي بالفضيلة. وفي الجزء الثاني، هاجم روسو الإيمان بالمعجزات والعقائد الجامدة، والادعاءات المتعصبة للكنائس الطائفية بالسلطة العالمية عبر الكتاب المقدس والأسرار التي تتعارض مع العقل. ويقدم لنا الجزء الأول، المصمم لدحض تشكك ومادية بعض أبرز المفكرين المعاصرين لروسو، رؤية روسو للدين بما يتفق مع الفطرة، ويطرح الجزء الثاني، إذ يهاجم التعصب والخرافات أكثر من أي شيء آخر الخاصة بالكاثوليكية الرومانية، نقد روسو للدين بتصوره كوحي.
في الكتاب الرابع من «مقالة عن الفهم البشري» (الفصلان الثالث والسادس)، زعم لوك أنه من المتصور على الأقل أن الرب، إن شاء، يستطيع «أن يعطي» للمادة ملكة التفكير، وبذلك يضخ الحياة في الجزيئات عديمة الإحساس بقدرة التفكير. وفي الفصل المخصص لاحقا ل «معرفتنا بوجود الرب» (الكتاب الرابع، الفصل العاشر)، الذي يتنبأ في واقع الأمر ببعض حجج روسو، أصر لوك على أنه يستحيل أن تحفز المادة وحدها أبدا للتفكير، وأغلب تعليقاته حول الموضوع وضعت من أجل الرد على مزاعم الماديين، ولا سيما أنصار سبينوزا المعاصرين له الذين أكدوا ما أنكره. لكن اقتراحه أنه من خلال إرادة الرب يجوز حمل المادة على التفكير أثار الكثير من الاعتراضات من جانب علماء اللاهوت والفلاسفة في أوائل القرن الثامن عشر، أغلبهم ربط ما بين هذا الزعم واعتقاد لوك الإضافي في القسم نفسه من عمله أن حقائق الأخلاق والدين لا تعتمد على لامادية الروح. وعلق فولتير على حجة لوك في عمله «رسائل فلسفية» عام 1734، واستلهم الماديون الفرنسيون في منتصف القرن الثامن عشر، بمن فيهم موبيرتوي ولاميتري، أفكارهم منه؛ حيث أكد البعض (مثل ديدرو) على القابلية للاستجابة أو النشاط الداخلي للمادة الطبيعية، وحصر البعض الآخر (مثل دولباك) الواقع بأكمله في العالم المادي وحده، وبذلك اعتبروا المادة الروحية، ويراد بها الروح، وحتى الرب، وهمية. في «مبحث في الأحاسيس» عام 1754، حاول كوندياك بناء نظرية عن تشكل الذكاء البشري من التجربة الحسية البحتة؛ بينما في مقالة بعنوان «الدليل»، ربما خطها فرنسوا كيناي، ونشرت في المجلد السادس من «الموسوعة» عام 1756، طرحت حجة مماثلة لبيان أن الحكم صادر عن الحس؛ وفي عام 1758، في «عن الروح»، الذي كان صادما للكنسية وأثار الغضب العام أكثر مما فعل «إميل» لاحقا، جعل هلفتيوس التماهي ما بين الحكم والحس حجر أساس عمله كله. يمثل اقتراح لوك بأن المادة يمكن حملها على التفكير وافتراض هلفتيوس أن مصدر الحكم هو الحس، معا الركيزة الأساسية للنقد ونقطة الانطلاق المحورية لدليل روسو على وجود الرب في قسم «عقيدة كاهن سافوي» من كتاب «إميل».
وفي ذلك القسم (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية) وكذا في رسالة لاحقه له إلى السيد فرانكييه (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع)، استنكر روسو افتراض المادة المفكرة باعتباره «سخافة حقيقية، بغض النظر عما يقوله لوك عنه.» وزعم الكاهن أنه ليس بالإمكان حث المادة على التفكير؛ وذلك لأنه ما من حركة تتعرض لها المادة يمكن أن تساعدها على التدبر والتفكير. وعلى العكس من هلفتيوس تحديدا، أكد روسو أن الأحكام التي يصدرها الناس لا تنبثق من حسهم؛ وذلك لأنه بينما يمكن أن تطبع الأشياء نفسها على حواسنا السلبية، فلا يمكن أن تتشكل لدينا انطباعات تلقائية للعلاقة بين الأشياء. وما لم نصغ أحكامنا باعتبارنا فاعلين مسئولين بوعي منا عن تفسير خبرتنا، فلن يستقيم أبدا أن نقع في أخطاء أو نتعرض للتضليل ما دامت حواسنا ستعكس دوما الحقيقة؛ ولذا، تخفق فلسفة هلفتيوس في أن تمنحنا «شرف التفكير» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). والماديون جانبهم الصواب؛ لأنهم لا ينصتون إلى الصوت الداخلي الذي أقنع روسو بأن إحساسه بوجوده الشخصي لا يمكن أن ينشأ بفعل مادة غير منظمة، لا تملك بطبيعتها ملكة إنتاج الفكر التي يجب أن تنشأ من باعث يتحرك في حد ذاته، أو فعل طوعي أو تعبير تلقائي عن الإرادة. هذه، كما زعمت الأنا الأخرى لروسو، هي الركن الأول لعقيدته (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية).
Shafi da ba'a sani ba