وكأن تلك العبارة كانت ضربة قاضية على باكارا، فغطت وجهها بيدها وأخذت تبكي، حتى إذا سكن روعها وخفف الدمع تأثرها عادت إلى صوابها، وعاودتها الحقيقة التي خفيت عنها، وقالت: كل هذا من أعمال فيليام. ثم جعلت تنقل نظرها بين الخادمة والطبيب عساها تستشف منهما ما يدلها على الحقيقة، فلم يظهر على وجههما شيء، فنهضت من سريرها مسرعة ووقفت تجاه مرآتها، وقالت : عجبا! ليس في هيئتي ما يدل على ما يقولون، وليس هذا الوجه وجه مريضة، بل أراني على أتم عافية. ثم نظرت نظرة ثانية إلى فاني، فلم يؤثر عليها ذلك النظر الحاد شيئا، بل ثبتت على تمثيل دورها، وقالت لها: عودي يا سيدتي إلى فراشك، ذاك خير لك.
فقالت باكارا: إنك توهمت أن هذا الإنكليزي وافر الثروة، وأنه سيكون لك من هباته ما يغنيك عن الخدمة، ولكنك جريت شوطا بعيدا، واقتحمت أمرا مستحيلا، فلست من الذين يعبثون بهم إلى هذا الحد.
ثم ذهبت مسرعة إلى منضدة، وأخذت خنجرا كان عليها، وقالت لذلك الطبيب المتصنع: إذا جرأت على الدنو مني فأنت ميت لا محالة.
فاختلجت فاني واضطربت رجلاها من الخوف، أما الطبيب المتصنع فإنه لم يكترث بهذا الإنذار، ونظر نظرة خفية إلى فاني أعادت إليها ما فقدته من الجسارة، فقالت لبكارا: أتريد سيدتي أن أساعدها على لبس ثيابها؟ - نعم اتبعيني. ثم سارت أمامها وهي تقول في نفسها لا أراني مجنونة، بل أراني أعقل مما كنت، ولا يزال فرناند ممثلا أمام عيني، وأنا أذكر أمر الشرطة، وكيف ساقوه إلى السجن بدعوى اختلاس، بقي أن فاني تخدعني، ولا ريب في أن كل ذلك من صنع فيليام. وفيما هي تلبس ثيابها نظرت إلى فاني فرأتها تمسح عينيها كأنها تبكي لما ألم بسيدتها، فقالت في نفسها: إن هذه الخادمة تمثل دورها على ما ينبغي من الإتقان، وقد بقي لدي برهان واحد أقدر أن أميط به الحجاب عن هذه الخديعة؛ إني أذكر أنه كان بعنق فرناند نوط ذهبي فيه خصلة من شعر حبيبته، وإنني قد قطعت سلسلة هذا النوط بأسناني لفرط ما ألم بي من الغيرة، وخبأته تحت فراش السرير، فإذا كان باقيا في مكانه فقد كشفت سر هذه الخائنة، وإلا فإن ما ادعته من حلمي وجنوني حقيقة لا ريب فيها. وللحال تركتها وذهبت إلى غرفتها، فمدت يدها وهي تختلج إلى المكان الذي خبأت فيه النوط، فعثرت به وأخذته والفرح ملء فؤادها، حتى إذا سكنت عوامل سرورها عادت إليها حكمتها، وأيقنت من مكيدة أندريا فقالت: سأنتقم سريعا، وسأذهب بتلك البلهاء إلى رئيس البوليس لتثبت عنده جنوني، وسيرى السير فيليام أنني أشد منه دهاء.
ثم رجعت إلى فاني فأتمت لبسها وقالت لها: إن الهواء بليل في هذا النهار والجو صاف، وقد أيقنت من صدق مقالك؛ فإني أشعر بضعف وفتور فلا أجد بأسا من النزهة واستنشاق الهواء النقي في مثل هذا اليوم. لم يبق لدي ريب بأني كنت أحلم، فإن حب فرناند قد تمكن مني بحيث أضاع رشدي، ولعل ذلك الحلم والجنون مسببان عن الحمى.
فقالت لها الخادمة: لا شك في ذلك، فإنك كنت لا تفترين عن ذكر اسمه الليل والنهار في مدة هذه الحمى، وتتحدثين عند انتباهك بأحاديث تثبت جنونك، وقد زالت الآن والحمد لله تلك الأعراض، فعليك الوقاية، وعندي أنه خير لك لو لبثت في منزلك إلى أن تتماثلي ويبعد عنك كل خطر. - كلا، فإنني مصممة على الذهاب فأسرعي واتبعيني؛ لأني لا أحب أن أسير وحدي. ثم مشت أمامها فتبعتها وهي تتظاهر بالقلق الشديد إلى أن خرجت من المنزل، فوجدت مركبتها بانتظارها فصعدت إليها، ثم تظاهرت أنها نسيت منديلها، فأرسلت فاني كي تعود به، واغتنمت فرصة غيابها وقالت للسائق: بأي يوم نحن من الأسبوع؟ - يوم الخميس. - ألم تذهب بي بالأمس إلى شارع سانت لويس؟ - نعم. - أتشهد بذلك لدى رئيس البوليس؟ - نعم. - الآن، فاصبر إلى أن تعود فاني، فسر بنا إليه، ولا تدعها تعلم بشيء من ذلك.
وقد أيقنت باكارا أن أندريا يسير على خطة مبهمة ضدها وضد فرناند، ولكنها لم تعلم شيئا من سر الخطة وغايتها، فعزمت على أن تطلع رئيس البوليس على الأمر بالتفصيل توصلا إلى كشف سر هذه الخيانة، وقد كان لها معرفة به بواسطة عشيقها القديم.
فلما عادت فاني سارت بهما المركبة حتى بلغت إلى منعطف يؤدي إلى شارع مونتمارتر، فعرجت عليه وسارت به، فانتبهت باكارا، ورأت أن السائق يسير في غير الطريق التي أمرته أن يسير بها، ففتحت نافذة المركبة واستوقفت السائق، وفيما هي تؤنبه إذ فتح باب المركبة بغتة، وصعد إليها ذلك الطبيب المتصنع الذي رأته في منزلها، ثم أغلق الباب وجلس بقربها؛ فصاحت صيحة رعب، أما هو فلم يبال بصياحها، وقال لها ببرود هازئا: إنك تخاطرين بحياتك بخروجك من منزلك، فإنك معتلة، ويجب علي أن أمنعك عن كل ما يعود عليك بالأذى شأن كل طبيب صادق مع مرضاه. وبينما هو يحادثها كانت المركبة تسير في شارع مونتمارتر.
فأيقنت باكارا أن سائق مركبتها قد باع نفسه مثل فاني لفيليام، وقالت للطبيب: أين تذهب بي؟
أنزل الطبيب المتصنع جميع ستارات المركبة وقال لها: ذاهب بك إلى مونتمارتر، فاحذري من أن تفتحي الستائر ولا تستغيثي، فإن الهواء والغضب يضران بك، وقد فك أثناء حديثه أزرار صدرته وأخرج من تحتها خنجرا، فجرده من غمده وقال: إن هذا أنجع دواء لتسكين الهياج، ولك بعد ذلك الخيار.
Shafi da ba'a sani ba