فأطلق أندريا غدارته في الفضاء ثم قال: لقد انقضى كل خلاف بيننا، وأنا أعتبر الآن حضرة المركيز من الأشراف.
فسر الجميع لما أظهره أندريا من مكارم الأخلاق.
وخلا أرمان بأخيه قائلا: كيف عفوت عنه بعد المقدرة؟ - ليغفر عني الله.
أما باكارا فإنها عادت مع الكونت إلى منزلها وهي تعلم أن المبارزة خدعة، وأن هذين اللصين متفقان على أمر خطير، ولكنها لم تستطع أن تدرك شيئا من هذه الألغاز، فقررت أن تنصب فخا تقتنص به روكامبول كي تحمله على الإقرار.
وكان في باريس امرأة شهيرة بالجمال وهي من بنات الهوى، وكانت من خير صديقات باكارا أيام غوايتها، فدعتها إليها واتفقت معها أمام الكونت الروسي على أن تعطيها مائة ألف فرنك على أن تساعدها في ما تريده من هذا المركيز، وقبلت الفتاة واتفقت معها باكارا على أن تحيي ليلة راقصة، يكون فيها المركيز دي روكامبول من جملة المدعوين إليها بواسطة أحد أصدقائه، ثم أخبرتها أن هذا الرجل متنكر، ولكن يمكن معرفته من أثر جرح كبير في صدره، فإذا تمكنت من الكشف عن صدره وتحقيق هذا الأثر ، نقدتها مائة ألف فرنك، فرضيت الفتاة شاكرة وخرجت تسعى في إعداد الحفلة، وخرج الكونت في إثرها إلى صديقه البارون مينرف وقد كان شاهد روكامبول في المبارزة والتمس منه أن يدعو المركيز إلى تلك الحفلة الراقصة. •••
ولنعد الآن إلى أندريا، فإنه ركب مركبة أخيه وعادا إلى المصيف فبرحا باريس، وفيما هما على الطريق طلب إليه أندريا أن يرجع إليه الغلاف.
فقال له أرمان: إذن، فلا سبيل للاطلاع على ما فيه؟ - كلا يا أخي، وستقف على جميع ذلك في مستقبل قريب، والآن فإني أسألك أن تفي بوعدك لي وتسافر مع امرأتك وولدك، وأنا معكم إلى كارلوفان. - سأفي بوعدي ونسافر صباح الغد.
ولما وصلا إلى المنزل سرت حنة بسلامة أندريا سرورا عظيما كاد يفضح سرها، وأخبرها أرمان بما اقترحه عليه من السفر في الغد، فعلمت أنه يريد إبعادها عن المركيز، ووافقت راضية على هذا السفر.
وبعد الغد رجع أندريا إلى باريس وهو واثق من نجاح مقاصده، فتنكر بزي الإنكليز وذهب إلى الفندق الذي يقيم فيه روكامبول، فوجده ينتظره فيه ودار بينهما الحديث الآتي، فقال أندريا: ألعلك خفت في الصباح؟ - الحق أني خفت بعض الخوف. أصغ إلي، لقد خطر لي أني لما كنت واقفا وحدي على جميع أسرارك، فقد أردت أن تتخلص مني لأنك قد خطر لك خاطر الاستقلال. - وأنا أقول الحق أيضا إنه خطر لي هذا الخاطر، وما أرجعني عنه سوى حبي لك. - بل حاجتك إلي، فإنك لا تستطيع الاستغناء عني ولا سيما في هذه الأيام، وإذا أردت فأنا أعترف لك أيضا بأنه قد خطر لي أن أقتلك. - كيف خطر لك هذا الخاطر؟ - لأني لا أزال أشعر بألم خنجرك في صدري، وأنت تعلم أني أحسن الرماية، فلو أردت قتلك لما أخطأت المرمى. - ولكن كيف تعيش دوني أيها التعيس؟ - هو السبب الوحيد الذي أرجعني عن قتلك. - إذن فنحن أكفاء، كلانا لا يستغني عن الآخر، فلنبحث الآن بأمورنا الخطيرة، فإني مسافر غدا إلى كارلوفان لأتفقد ذاك القصر؛ لأني أريد أن أقيم فيه بعد زواجي بالكونتس حنة دي كركاز. - وأنا ما ينبغي أن أفعل؟ - تقيم في باريس ثلاثة أيام، ثم تسافر منها إلى سانت مالو حيث تنتظر فيها تعليماتي. - وماذا أفعل في هذه الأيام الثلاثة؟ - تتمرن على ضربة السيف التي أمرتك أن تتعلمها، ثم تهتم بأمر باكارا. - ألعلك دبرت المكيدة؟ - مكيدة هائلة فاسمع، إنك تبدأ قبل كل شيء باختطاف الفتاة اليهودية التي عندها. - وأين أضعها متى اختطفتها؟ - أصغ إلي، إني لقيت في الهافر حديثا رجلا من لندرا كان منخرطا في سلك عصابتي حين كنت فيها، وقد نجح بأعماله بعدما فارقته حتى أصبح الآن صاحب سفينة تجارية وهو ربانها، وقد خطر لي أن أرسل باكارا على سفينته هذه إلى جزائر المركيز، وهناك يلقيها الربان بين تلك القبائل المتوحشة التي تتباهي بأكل لحوم البشر، فيجعلها زعيم تلك القبيلة وليمة في أحد الأعياد. - إنه انتقام جميل، ولكن كيف السبيل إلى تنفيذه؟ - ينفذه جون إيرد ربان السفينة، فإنه سيشحن بضاعة من الهافر إلى أستراليا، وهو خاضع لي مع بحارته، وإنه الآن في باريس فقد قدم إليها أول أمس، وقد لقيته أمس واتفقت معه على أن يحمل باكارا إلى تلك الجزائر فقبل، وهو إما أن يلقيها في إحدى صحارى تلك البلاد أو يبيعها بيع السلع إلى زعيم تلك القبيلة. - كل ذلك حسن معقول، ولكن كيف السبيل إلى تسليم باكارا إلى ربان السفينة؟ - إن ذلك سيكون عملك في مدة هذه الثلاثة أيام، فتبدأ أولا باختطاف اليهودية وتودعها عند مدام فيبار بعد أن توصيها بالاحتفاظ عليها والعناية بها، وعندما تصبح في قبضتها ترسل رسالة دون توقيع إلى باكارا تخبرها فيها أن أحد العبيد قد اختطف الفتاة، وأنه ذهب بها إلى الهافر، ثم تكتب في الرسالة أن هذا العبد سافر على سفينة إنكليزية اسمها فولر وهي ذاهبة إلى أوسيانيكا، فلما تقف باكارا على هذه الرسالة تسرع بالسفر إلى الهافر، فتعلم هناك أن هذه السفينة قد برحت ميناء الهافر إلى سانت مالو، فتذهب إليها وتجد السفينة فيها، وعندئذ فلا بد من النزول إلى السفينة لترى فتاتها فيفعل الربان الباقي. - كن واثقا من الفوز، وسافر فسأصنع جميع ما تريد، ولكن بقي سؤال أحب أن أسألك إياه، وهو لماذا أردت أن ترسل باكارا إلى سانت مالو وأنت قادر على إنزالها إلى السفينة من الهافر؟ - ذلك لأن سانت مالو لا تبعد غير غلوة عن قصر أخي الذي سأكون فيه بعد غد، ومتى وصلت السفينة إليها أكون فيها، إذ لا بد لباكارا أن تعرف من هو المنتقم. - لله درك، ما أشدك في الانتقام! - نعم فإن الانتقام مسرة الآلهة، والآن فاسمع، إنك ستختطف الفتاة من منزل باكارا وتودعها عند مدام فيبار، وبعد ثلاثة أيام تحضر إلى سانت مالو مع ربان السفينة وفانتير، وهناك أهيئ لك أسباب مقابلة ثانية مع امرأة أخي حيث يباغتكما أرمان. - كفى، فقد عرفت كل شيء. - بقي دور واحد، وهو أنه يجب أن تعرف جون إيرد ربان السفينة، وبعد ذلك اذهب إليه غدا عند الصباح واذكر له اسم فيليام علامة للتعارف، ثم دله على الفندق النازل فيه.
وفيما هو يتأهب للذهاب إذ وردت على روكامبول دعوة البارون دي مينرف إلى الليلة الراقصة التي أعدتها باكارا لاقتناص روكامبول، عرضها على أندريا مستأذنا إياه بالذهاب إليها. - لا بأس من ذهابك، بل يجب أن يعرفك كبار القوم كي لا يبقى لأحد مظنة فيك، وانصرف في شأنك.
Shafi da ba'a sani ba