أما ليون رولاند فإنه أخذ الرسالة وانطلق بها إلى معمله، وأخذ يقرؤها ويعيد قراءتها مرات كثيرة فتتنازعه العوامل المتناقضة، وبينما هو يميل إلى اختطاف ابنه واللحاق بالفيروزة، تتمثل له امرأته سريز صائحة نادبة فراق زوجها وولدها، فيجفل قلبه من الفيروزة ويذكر واجباته الزوجية، ثم يذكر الفيروزة ويتمثل له جمالها النادر وألفاظها الرخيمة، ويجن غراما بها وغيرة عليها، وينسى كل واجب لدى هذا الغرام. واستمر على هذه الهواجس ساعات طويلة يمشي في معمله ذهابا وإيابا وهو ضائع الرشد مبلبل الحواس، حتى تغلبت عليه عواطف الأبوة والمروءة، فدعك الرسالة بيديه وألقاها مغضبا في أرض المعمل، ثم برحه دون أن يقفل بابه وصعد منه إلى منزله.
وكانت الساعة قد بلغت الثانية بعد منتصف الليل، وجميع من في المنزل نيام، ولما خلا بغرفته هاله ما يحيط به من السكوت، وعادت إليه هواجسه السابقة، وذكر الفيروزة وكيف أنها ستسافر ولا يعود يراها، فهجات به مكامن ذلك الغرام الفاسد، وعزم عزما أكيدا على اختطاف ابنه غير مكترث بتلك الوالدة المسكينة، وقام إلى غرفتها يمشي على رءوس أصابعه، ودنا من سرير الطفل الذي كان بجانب سريرها، وأخذه من السرير واحتمله بين يديه، ثم حاول الخروج به.
وكأن الله أبى أن يلقي عليه تبعة هذه الجريمة، فإنه عثر وهو يمشي بكرسي فسقط الكرسي، واستيقظت سريز لصوته ورأت ولدها بين يديه وهو يحاول الخروج به، فصاحت صيحة أم توجس خطرا على ولدها.
أما ليون فإنه أرجع الطفل إلى مهده وخرج من المنزل دون أن يصغي لنداء امرأته قائلا: احتقريني ما شاء الاحتقار، فما أنا إلا نذل أثيم.
ثم برح المنزل هائما على وجهه لا يعرف أين يستقر حتى قاده يأسه إلى نهر السين، وذكر ولده ثم ذكر الفيروزة، وعزم أن يلقي بنفسه في مياه النهر، ولكنه شعر بيد قوية قبضت عليه وأرجعته إلى الوراء، والتفت فرأى رجلا شديدا عرف أنه خادم الفيروزة وانتهره وقال له: ما تريد مني؟ - أريد أن أمنعك عن الانتحار. - لماذا؟ - لأن سيدتي تموت لموتك وهي تنتظرك الآن، ولا يمنعها عن السفر إلا حضورك ، فاذهب معي.
وكأن ذكرى الفيروزة هاجت فيه حب الحياة وردت إليه بعض صوابه، وذكر ما سيلقاه بقربها من النعيم، وانطلق يجري مع الخادم مطرق الرأس لا يفتكر إلا بما سيلقاه.
أما سريز فإنها لما سمعت من زوجها ما سمعت، وأنه قد خرج من المنزل خروج المجانين، خرجت في إثره راجية أن تدركه على باب الطريق، ونزلت إلى السلم وعندما بلغت إلى منتصفه رأت باب المعمل مفتوحا، وقد كان نسي ليون أن يقفله لذهوله، فحسبت أنه فيه ودخلت إليه تبحث عنه، ولم تجده ولكنها لم تكن تشكك أنه فيه، وأوقدت شمعة وجعلت تطوف في الغرفة مفتشة حتى بلغت إلى غرفته الخصوصية ولم تجد أحدا. وبينما هي تجيل نظرها إذ رأت ورقة مدعوكة وملقاة على الأرض، وهي الرسالة التي أرسلتها الفيروزة إلى ليون تغريه بها على اختطاف ابنه والفرار معها. وأخذت سريز الرسالة وما لبثت أن قرأتها وعرفت ما فيها حتى عرفت قصد زوجها من حمل الطفل، وصاحت صيحة منكرة وسقطت مغميا عليها.
وعند الصباح أقبل العمال يشتغلون ورأوا امرأة سيدهم لا تزال مغميا عليها، وعالجوها حتى صحت من إغمائها وحملوها إلى المنزل. وقد اتفق أن باكارا جاءت لزيارتها في تلك الساعة لانشغال بالها عليها، ولما علمت ما كان من أمر زوجها وقرأت رسالة الفيروزة وعلمت أن ليون قد رحل، هاجت هياج اللبوة فقدت أشبالها، وقالت: إن الفيروزة لا تموت إلا من يدي.
39
ولنعد الآن إلى السير فيليام أو السير أرثير أو أندريا، فإن هذا الرجل الهائل عندما برح منزل الكونت مايلي كما قدمناه، ذهب توا إلى روكامبول الذي كان ينتظره في منزله لتلقي أوامره، وأخبره روكامبول بجميع ما كان بين شاروبيم والمركيزة، وأظهر له ريبه من الفوز لما لقيه من عدم اكتراث المركيزة. فهزأ به أندريا وقال: إنها إذا كانت غير مكترثة به كما توهمت، لما سمعت جميع حديثه ولأوقفته عند أول كلمة قالها، ولكنك لا تزال غرا جاهلا حديث العهد بهذه المهنة. - كيف نرجو الفوز ولم يعد لنا من الوقت سوى ستة أيام؛ لأن الهندية شربت السم أمس وإذا ماتت قبل فوزنا بإغواء المركيزة فكيف تظفر بالملايين، وإذا كانت لم تظهر إشارة حب لشاروبيم إلى الآن، فكيف نرجو أن نغويها، وفوق ذلك أن شاروبيم أخبرها أنه راحل عن هذه الديار، فكيف يتيسر له لقاؤها بعد هذا القول؟ - أما إغواء المركيزة فلا نريد به سوى الظاهر، وسيان تهتكت بحبه أم اقتصرت على ما هي عليه الآن من الرضى عنه والرأفة به، وإن الغرض الذي نسعى إليه وهو أن يباغت المركيز شاروبيم والمركيزة في غرفة واحدة، وأما اجتماع شاروبيم بها فهو أمر ميسور لدي. - أين يجتمعان؟ - في منزل الأرملة وقد أوقفت المركيز على ما ينبغي، بحيث يكفيه أن يرى امرأته مع شاروبيم لإثبات خيانتها. فاطمئن واستعد للسفر.
Shafi da ba'a sani ba