والعلة في ذلك أن ما كان منها يجري مجرى الهيولى لبعض لم يكن في ذلك البعض أن يفارق هيولاه وأمكن في تلك القوة التي تتنزل من تلك الأخيرة منزلة الهيولى أن تفارق، لكن لا من جهة ما هي هيولى لشيء بل من جهة ما هي كمال وتمام للشيء الذي هي له تمام. ولذلك لم يمكن في الهيولى الأولى أن تفارق إذ كان ليس فيها صورة بالفعل تكون لها مستعدة لقبول صورة أخرى، وأمكن ذلك في المركب الذي هو من جهة هيولى ومن جهة صورة.
ونحن إنما نبتدئ من هذه القوى بأشدها تقدمًا في الزمان كما فعل أرسطر، وهو التقدم الهيولاني والقوة التي هذه صفتها هي النفس الغاذية فلنبدأ من القول فيها.
القول في القوة الغاذية
والقوة تقال بضرب من التشكيك على الملكات والصور حين ليس تفعل كما يقال في النار أنها محرقة بالقوة إذا لم تحضرها المادة الملائمة للإحراق، وعلى القوى المنفعلة كما يقال في الخبر انه دم بالقوة، وفي الدم أنه لحم بالقوة، وذلك إذا لم يحضر المحرك، وطاهر أن هذه القوة الغاذية من جنس القوى الفاعلة، وذلك أن الغذاء لما كان صنفين: أحدهما الذي بالفعل وذلك إذا استحال إلى جوهر المغتذي. والثاني الذي بالقوة، وذلك قبل أن يستحيل إلى جوهر المغتذي، والذي بالقوة كما قيل في غير ما موضع إنما يصير إلى الاستكمال من قبل المحرك الذي بالفعل. إلا أن القوة أيضًا لما كانت صنفين قريبة وبعيدة والقوة البعيدة في الغذاء المحرك لها ضرورة غير النفس الغاذية، كالقوة التي في الأسطقسات أن يكون لحمًا. وأما القوة القريبة مثل ما نقول في الخبز انه غذاء بالقوة فالمحرك لها هي النفس العأذية ولذلك هي ضرورة قوة فاعلة.
وقد قيل كيف يكون الفعل والانفعال على العموم في هذه الحركة، وفي غيرها من الحركات في الأولى من الكون والفساد، وقيل هناك أن المنفعل يلزم أن يكون من جهة شبيهًا ومن جهة ضدًا فأما أن الانفعال الموجود في الغذاء هو في الجوهر فذلك بين بنفسه. وأما أن هذه القوة الغاذية نفس فذلك بين من أنها صورة لجسم آلي، وهي بالجملة إثما تفعل مما هو جزء عضو آلي. بالقوة جزِء عضو آلي بالفعل، وبين أن مثل هذا التحريك والفعل ليس منسوبًا إلى النار. فأما الآلة التي بها تفعل هذه القوة الاغتذاء فهي الحرارة ضرورة، وليس أي حرارة اتفقت بل حرارة ملائمة لهذا الفعل، وهي المسماة الحرارة الغريزية، وذلك أن هذه النفس إنما تفعل كما يظهر من أمرها جزء عضو عضو من أعضاء المتغذي والأعضاء مركبة من الأسطقسات، والمركب من الأسطقسات إنما يصير واحدًا على ما تبين بالمزاج، والمزاج إنما يكون بالحرارة كما قيل في الآثار العلوية، فإذن الحرارة هي الآلة الملائمة لهذا الفعل، وليس هذه الحرارة هي النفس كما ظن جالينوس وغيره. فإن فعل الحرارة ليس بمرتب ولا محدود ولا تفعل نحو غاية مقصودة كما يظهر ذلك من أفعال النفس، ولا يصح أن ينسب الترتيب إلى الحرارة إلا بالعرض على ما كان يرى كثير من القدماء.
وهذه الحرارة هي الموضوع القريب الأول لهذه النفس التي تتنزل منها منزلة الهيولى، وذلك شيء بالواجب عرض لكل محرك ليس بجسم وهو في جسم إذا حرك جسمًا آخر، أعني انه إنما يكون تحريكه له من جهة ما هو موجود في جسم هو صورة فيه، وإلا لم يمكن فيه أن يحرك الجسم الآخر كالحال في النفس الغاذية، والغذاء في النفس المحركة لجسم الحيوان في المكان على ما سيظهر بعد.
فأما السبب الغائي الذي من اجله وجدت هذه القوة في الحيوان وفي النبات فهو الحفظ. وذلك أن أجساد المتنفسات لطيفة متخلخلة سريعة التحلل، فلو لم تكن فيها قوة شأنها أن يخلف بدل ما تحلل منها أمكن في المتنفس أن يبقى زمانًا له طول ما، وإذا كان هذا كله من أمر هذه القوة كما وصفنا فإذن هذه القوة هي التي من شأنها أن تصير بالحار الغريزي، مما هو جزء عضو بالقوة جزء عضو بالفعل، لتحفظ بذلك على المتنفس بقاءه ولذلك كان إخلال فعل هذه القوة موتًا.
1 / 4