قد نكون مغالين إذا افترضنا هذه المجهولات والإمكانيات كأساس لبناء الشخصية، وقد يسألنا عالم من علماء النفس: وأين أثر البنية؟ وأين أثر الغرائز؟ وأين أثر الغدد؟ وأين أثر الهرمونات؟ وأين أثر العقل بخصائصه الثلاثة «الاطلاعية والتأثرية والتنفيذية»؟ وأين أثر العقل بقسميه الواعي والباطن؟ فأجيب: وماذا نملك نحن من تكوين البيئة؟ وماذا نعلم نحن من أمر الغدد والهرمونات إلا القليل؟ وماذا نعلم نحن عن حقيقة العقل؟
أليست هذه كلها إمكانيات ومحتملات ومجهولات؟ إن الذي نستطيع أن نؤكده هو أن للجسم الصحيح القوي أثرا في بناء الشخصية ولكن حتى هذا التأكيد معرض للنقد، فكم من أجسام هزيلة يكمن خلفها شخصيات فذة جبارة! والذي نستطيع أن نؤكده عن الغرائز أننا نستطيع كبحها أو تحويلها ولا نستطيع تغييرها ولا خنقها، والذي نستطيع أن نقوم به نحو خصائص العقل هو أن نجيد استعمالها.
فالأسلم إذن أن نفترض أننا بين طرفين: احتمالات ووسط، أما الاحتمالات فهي اتجاهات علينا تحديدها وتوحيدها وتبين معالمها، وأما الوسط فما يستطيع أكثر من أن يلون طبائعنا ويكسونا بثيابه ويسبغ علينا ظلاله.
ولقد يكون من المفيد حقا أن نعترف بالنقص لنسير في طريق الكمال، لقد يكون من المفيد حقا أن نعترف أننا نستطيع أن نجعل من اللاشيء شيئا ومن المجهول معلوما، ومن الأشباح أجسادا، ومن الأسس المتناثرة بناء واضح المعالم، ولقد يكون من المفيد حقا أن نعترف أن الصراع مكتوب علينا ونحن أجنة، فحتى أعضاؤنا الداخلية الكبرى تتقاتل في سبيل الاحتفاظ بأمكنتها، والطفل معرض للزجر والنهي في كل آونة، وإننا لو أصغينا إلى أي نفس بشرية حتى أكثرها هدوءا لأصغينا إلى صوت مدو، ولكن الفرق بين الشخصية واللاشخصية أن الصراع الداخلي في الأولى يؤدي إلى نتيجة موحدة كمجاذيف المركب سواء بسواء قد تختلف اتجاها، ولكنها تتحد اتجاها، وفي الحالة الثانية تتصارع أجزاء النفس معا صراعا يؤدي إلى تبعثر الأهداف وفشل المساعي.
إن هذا الصراع موجه وجهتين، داخل النفس وخارجها، فعلينا مواجهة النفس، وثانيا مواجهة الحياة، إن الذي لا يواجه نفسه يغشها أو يدللها أو يهرب منها، فإذا استطعنا أن نواجه أنفسنا بصراحة قررنا قبولها بعيوبها ونقائصها، كما يرث الإنسان قطعة أرض ملتوية الدروب، كلها أخاديد ومرتفعات ومنخفضات، فعليه وعلى المهندس معا أن يبنيا فوقها منزلا بطريقة تحجب هذه العيوب وتخلق من القبح جمالا، ولا نشك أن قبول النفس يمحو الشعور بالنقص، وليس الشعور بالنقص عيبا، بل العيب تغطيته بطرق غير لائقة، أو النظر إليه بجزع سرعان ما ينقلب حقدا على العالم، أو التفنن في مداراته بطرق تكشفه وتجعله سخرية، ويمكن لكل إنسان أن يخلق من نقصه شيئا نافعا، فالفضولي يستطيع أن يكون مخبرا ماهرا، ومحب العزلة يستطيع أن يكون عالما أو شاعرا أو فيلسوفا، وهكذا، وقبول النفس كذلك يضمن انصرافنا عن إدمان النظر فيها وفي عيوبها، إنه من المؤلم حقا أن يدور الإنسان في غرفة ممتلئة بالمرايا وأن يدور بها كل يوم، إن هذه المرايا لو تحولت إلى نوافذ؛ لوجدت النفس آفاقا جديدة وظلالا جديدة، وهذه الآفاق والظلال هي العثور على العمل والصديق، فهذان يصرفان النفس عن التفكير في همومها، ويجعلانها تعتقد أن هذه الهموم أشياء طبيعية عارضة كالغمامة في السماء، فنحن لا ننظر إلى الغمامة كحالة ثابتة دائمة، بل ننظر إليها كما ننظر إلى حجر يعترض طريقنا فننحيه برفق أو ندور حوله، ثم نمضي قدما نحو أعمالنا وأصدقائنا، ولا أعتقد أن هناك مؤثرا في شخصيتنا كأصدقائنا؛ ففيهم من هم أعظم منا وفيهم من هم أقل منا، الأولون يجعلوننا ننسى غرورنا، والآخرون يجعلوننا نحمد الله تعالى على نعمه، وإذا أحببنا صديقا نعترف بتفوقه، فقد رضينا بالمكان الثاني بالنسبة له، وهذا هو الإيمان في أبسط صوره، هذه هي مواجهة النفس فلننظر في مواجهة الحياة.
يرسم لنا
Menneken
في كتابه «العقل البشري» صورة فذة لهذه المواجهة؛ فهو يسمي الوسط «بالموقف»، ليشعرنا بأننا لا نواجه موقفا بعينه كل يوم
situation . فالناس ثلاثة أصناف: صنف يواجه، وصنف يهرب، وصنف يدمر. أما المواجه فهو الذي يحسن الملاءمة والانسجام، وأما الهارب فعصبي أو مجنون، وأما المدمر فهو شخص يدمر نفسه أو يدمر الوسط ليتخلص منه، وهذا هو المجرم أو المتمرد الثائر أو العبقري. على أن هنالك صنفا لا يقوى على المواجهة، بل يحول هروبه إلى عمل فني يداري به فشله، ذلك الشخص هو الكاتب أو الشاعر أو الفنان.
رسالة العقل
Shafi da ba'a sani ba