يبدو من هذا جليا أن من ذكرهم التاريخ في كتبه وأفرد لهم الفصول الطوال، ك «إسكندر الأكبر» و«هانيبال» و«نابليون» هم الذين يجب أن نخرجهم من كتاب الحضارة؛ لأنهم هم الذين أخروا العالم ومشوا به القهقرى، بينما نجد أن هناك قلة من البشر، نشئوا أفذاذا وعاشوا أفذاذا، هم الذين أقاموا بناء الحضارة على أكتافهم، فلو أني خيرت في كتابة التاريخ من جديد لمررت بهؤلاء الغزاة مرا، ولملأت كتابي بالحديث عن «كونفوشيوس» و«محمد» و«عيسى» و«سقراط» و«أفلاطون» و«بيكون» و«كوبر نيكوس» و«جاليليو» و«وات» و«نيوتن»، أولئك الذين بنوا الحضارة على دعامتين؛ الأولى: الخير وحسن الجوار وطيب الصلات. والثانية: تحرير الفكر وكسر الأغلال التي تكبل التفكير.
أعني تحرير النفس من عبودية الأنانية وتحرر الفكر من عبودية الجمود، أين مكاننا اليوم من هذا؟ إننا كأفراد صرنا نطيع القانون، ونحترم الجوار، ونقدم على قليل للمساعدة للغير، ولكننا كأمم لا نزال ندين بشريعة الحرب ونخضع لقوانين القوة ونتربص للجار ونقيم الحواجز وندبر الخطط؛ أي إن عقل الفرد أخذ يتحرر ببطء، ولكن عقول الساسة لا تزال تتخبط في ظلمات البدائية الأولى.
على أننا إذا فرضنا أن تاريخ الكائنات 100 عام، فإن تاريخ الإنسان شهر، والإنسان المتحضر سبع ساعات؛ أي إننا لا نزال في حواشي الفجر!
لقد ذكرت دعامات الحضارة وقلت: إنها الجمال في صور فنية وإنها الأمن والفراغ والعدالة الاجتماعية «سياسية واقتصادية»، والصلات الاجتماعية القائمة على الخير والإيثار.
غير أن هذا كله يمكن أن يوجز في عمودين: صلات الخير، وصلات الفكر المتحرر. الأول أقامه المصلحون الدينيون والفلاسفة. والثاني أقامه العلماء.
والواقع أنه ليس بين هذين الفريقين من حدود؛ فإن الفلاسفة فكروا تفكيرا نظريا حرا، والعلماء فكروا تفكيرا عمليا حرا.
الأولون وسعوا نطاق النفس، فأطلعوا الناس على ما كان خافيا من مواطن الجمال، ومن ثم نشأت الفنون، أما العلماء فطبقوا العلم عمليا، متحررين من القيود معرضين أنفسهم لكل أنواع الاضطهاد والسجن والتشريد، ولكنهم أفلحوا في خلق العصر الصناعي - أي العصر الآلي - فبلغنا ما قد بلغناه اليوم ووفر لنا من الوقت ما به نعلم من جديد ونبتكر من جديد.
ولنعد لحظة أخرى إلى التعاليم الدينية، فهي من بدئها لختامها تدعو لنفس المبادئ، كانت تدعو الناس لترك الأثرة والتمسك بالإيثار، كانت تدعوهم للعمل على ما هو أوسع من محيط النفس وأعلى من مستويات رغباتها، ولكن نسيان النفس في سبيل غرض أسمى من النفس، الذي هو الطريق للحضارة والسعادة، هو الشيء المستحيل الذي لم تستطعه الإنسانية في محاولاتها المتعددة.
هذا النسيان، أو بالأصح هذا التخلي بعد الإخفاق في محاولات عديدة هو السبب الأول في خوفنا على الحضارة، فإن المادة وحدها لن تدعم بناءها.
إن «جود» يسمي حضارة المادة، حضارة الحلوى، وهو تعريف قيم، ويعني بذلك أن حضارة المادة حضارة ترف قائمة على ما هو مستساغ كالحلوى، ولكنه مأكول زائل كالظل الجميل. ومن الواجب هنا أن نذكر أن المصريين هم الذين أقاموا الحضارة على دعامتين: الفن والحكومة الصالحة، ولا شك أن الذين أقاموا تلك التماثيل الجميلة الرائعة كانت نفوسهم جميلة جمال تلك التماثيل مشرقة إشراق تلك الفنون، وقد يكون ذلك ناشئا من أنهم بدءوا عهدا جديدا في التاريخ، عهدا توفر لهم فيه رغد العيش والأمن معا فأنتجوا ما أنتجوا، وأبدعوا ما أبدعوا، ولا شك أن هذا الإبداع مقرون باختراع الكتابة، فمما هو معروف أن المصريين هم الذين اخترعوا الكتابة، ولما كانت الحضارة لا تتم إلا بالانتقال من ممدن لمتمدين؛ أي من قلة إلى كثرة، فإن انتقال الآثار الذهنية عن هذا الطريق - طريق الكتابة - كان السبب في قيام الحضارة أولا، واستمرارها أخيرا.
Shafi da ba'a sani ba