84
ومن يعتبر الوحي المطبوع هو الوحي المكتوب، فإنه يريد ترك نفسه بلا ضابط، ما دام الوحي قد حرف وبدل، ولم تعد ثمة حقيقة يمكن الإيمان بها، وتوجيه سلوك الناس عليها.
ولا تعني هذه التفرقة إنكار قدسية الكتاب؛ لأن القدسية تعزى إلى الكتاب لو كان غرضه التقوى والتدين، ويكون الكتاب مقدسا أو من عند الله طالما يحث الناس على ممارسة الفضيلة وحياة التقوى، فإذا لم يؤد الكتاب هذا الغرض، وإذا توقف الناس عن ممارسة هذه الحياة السليمة، وإذا ضاع منهم التدين الصحيح، لم يعد الكتاب مقدسا أو من عند الله. فالكتاب لا يكون مقدسا أو من عند الله إلا بقدر ما يؤثر في الناس، ويدعوهم إلى حياة الفضيلة والتقوى، فالقداسة هي أن يكون الإنسان نقيا والألوهية أن يكون الإنسان إلهيا، وبلغة معاصرة نقول: إن القداسة للاستعمال وإن الكتاب لا يعني شيئا إلا في الاستعمال، وإن الكلمات لا تكون تقية في ذاتها إلا بترتيب خاص، يوحي بالفضيلة ويحث عليها؛ لذلك كان تقديس الحرف وقوعا في الوثنية وكان تقبيل الكتب المقدسة، وتغليفها بالذهب ووضعها على الرءوس، وحفظها في أحجبة على الصدور وقوعا في المادية الحسية. المقدس هو المعنى الذي يحث على التقوى.
85
فإذا نظرنا إلى الكتاب المقدس وجدنا أن نصوصه قد جمعت من كتب التاريخ والسير، وأنها قد تغيرت وتبدلت وحرفت للوقائع الآتية: (أ)
لم تكتب أسفار العهدين بتفويض من الله مرة واحدة، وفي عصر واحد لكل العصور، بل كتبها مؤلفون كثيرون، صدفة، وفي عصور متعددة، طبقا لظروف العصر، وآراء الكتاب وأغراضهم، وهذا ما يثبته الفحص التاريخي للكتاب المقدس. (ب)
اختلاف الوحي، وهو كلام الله، عن تفكير الأنبياء، فيما عدا النصوص التي تدعو إلى حياة الفضيلة. (ج)
تقنين أسفار العهد القديم باختيار مجلس الفريسيين، وأسفار العهد الجديد بقرارات المجامع الكنسية، واستبعاد أسفار كثيرة أخرى كانت أيضا مقدسة في ذلك الوقت، وكانت تحتوي على كثير من النصوص إن لم تكن كلها، تدعو لحياة الفضيلة، ولم يكن أعضاء المجالس أنبياء، ولم يكونوا أيضا نقادا بالمعنى الحديث بل كانوا لاهوتيين، يستبقون أو يستبعدون النصوص وفقا لمعتقداتهم المطابقة لأهوائهم. (د)
لم يكتب الحواريون باعتبارهم أنبياء، بل باعتبارهم رجال دين، واختاروا أكثر الطرق ملاءمة لهم في الإقناع، ويمكن الاستغناء عن كثير من كتاباتهم، دون أن ينقص ذلك من الوحي شيئا. (ه)
هناك أربعة أناجيل، ولم يقصد الله أن يقص حياة المسيح أربع مرات، ويوجد في كل إنجيل ما لا يوجد في الإنجيل الآخر، ولم يختر الله هؤلاء الكتاب الأربعة، ولم يخبرهم بشيء، بل كيف كل منهم إنجيله طبقا لبيئته وعصره ولإثبات ما يريد إثباته، ولا تتفق الأناجيل الأربعة إلا على النزر اليسير الذي يمكن الاستغناء عنه، دون أن يؤثر في فهم الإنجيل، ودون أن ينقص من سعادة الناس أو الذي يمكن إدراكه، إذا كان دعوة لحياة الفضيلة، بالنور الفطري.
Shafi da ba'a sani ba