مهمة النبي إذن هي التبليغ والتعبير، فالوحي أو النبوة معرفة يقينية يوحيها الله للإنسان عن طريق النبي الذي يبلغه للبشر ويعبر عنه. مهمة النبي هي صياغة الوحي، أي المعاني الصرفة، بأسلوبه وبطريقته وباستدلالاته الفطرية أو البيئية المكتسبة حسب مستوى فهم العامة. لم يرسل الله وحيا بالمعنى واللفظ، ولكنه أعطى المعنى، فقد يقذفه في قلب النبي الذي يقوم بصياغته في ألفاظ من عنده،
56
وقد كان النبي عند اليهود مجرد مفسر
Interprète
أو الخطيب بالإضافة إلى مهمته في التنبؤ بالمستقبل، وكذلك سمي يشوع بلعم عرافا أو مبشرا.
يدرك النبي الوحي بمخيلته أي بالكلمات والصور الذهنية صادقة أم كاذبة؛ لذلك تجاوز الأنبياء معرفة الأشياء بالحدود العقلية، وعبروا عنها بالرموز والأمثلة، كما عبروا عن الحقائق الروحية بالتشبيهات الحسية، وهو الأسلوب المتفق مع طبيعة الخيال. ولما كان الخيال غامضا متقلبا، ظهرت النبوة عند بعض الناس على فترات متباعدة في حياتهم. لم يكن للأنبياء فكر أكمل، بل خيال أخصب، فمع أن سليمان قد ملأ الأرض علما وحكمة، إلا أنه لم يتمتع بهبة النبوة، وعلى عكس منه، كانت لهاجر هبة النبوة دون أن يكون لها علم، فمن يتميزون بالخيال الخصب يكونون أقل قدرة على المعرفة العقلية، ومن يتميزون بالعقل يكونون أقل قدرة على الصور الخيالية؛ لذلك لا تحتوي أسفار الأنبياء على معرفة عقلية للأشياء الطبيعية، بل على صور خيالية للتأثير على النفوس.
ويتكيف الوحي حسب خيال الأنبياء وقدراتهم كما تكيف بعد ذلك حسب معتقدات الحواريين والدعاة وأساليبهم في نشر الدعوة. يختلف الأنبياء فيما بينهم حسب خيالهم وطبعهم ومعتقداتهم وآرائهم، فالنبي الفرح توحى إليه الحقائق بحوادث سعيدة، والنبي الحزين تؤيده آيات حزينة، والنبي ذو الخيال المرهف توحى إليه الأشياء بصور ناعمة رقيقة، والنبي الريفي يوحى إليه بصور ريفية، والنبي الجندي يوحى إليه بصور عسكرية، والنبي رجل البلاط يوحى إليه بصور ملكية. ويختلف الأنبياء فيما بينهم حسب معتقداتهم في السحر والتنجيم، فتوحى إليهم الموضوعات السحرية كما أوحيت للمجوس ولادة المسيح. ومن يؤمنون بالكهانة والعرافة يوحى إليهم في أمعاء الضحايا، ومن يؤمنون بحرية الاختيار يوحى إليهم بأن الله لا يتدخل في أفعال البشر.
وكما يتكيف الوحي حسب عقلية الأنبياء ومزاجهم وقدراتهم العقلية ومخيلتهم فإنه يتكيف أيضا حسب عقلية الجمهور وطبقا للمستوى الثقافي للعصر، فلم يقل الأنبياء شيئا عن صفات الله إلا ما اتفق مع المعتقدات الشائعة للجمهور، ومع البيئة الثقافية للعصر، فلم يعرف آدم أن الله قادر قدرة مطلقة، وعالم علما مطلقا؛ ذلك لأنه قد اختبأ من الله، واعتذر عن خطيئته، وكأنه يعتذر لبشر مثله، وقد سمع آدم أيضا صوت أقدام الله وهو يسير في الجنة، وحادثه وسامره. لقد جهل آدم صفات الله كلها إلا صفة واحدة وهو أنه خالق كل شيء. كذلك لم يكشف الله عن نفسه إلا طبقا لمستوى فهم العامة ولمعتقدات الأنبياء، فكشف عن نفسه لقايين على أنه لا يعلم أمور البشر، وكشف عن نفسه للابان على أنه إله إبراهيم. أما يونان فقد حاول الهرب من حضور الله المطلق وتخيله في يهوذا فقط. أما موسى الذي بلغ التوحيد على يده درجة عالية من الصفاء فإن الله كشف عن نفسه له على أنه لا يعلم المستقبل، ولم يعلم موسى عن الله إلا أنه موجود
Ego sum qui sum ، وعبر عن ذلك باسم «يهوه» الذي يدل على الوجود في أبعاد الزمن الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل. لم يعبر موسى عن الله بأية صورة حسية، مع أنه رحيم لطيف غيور، ولا يمكن أن يرى لضعف الإنسان، ينسب إليه موسى قدرة مطلقة، فهو أعظم الآلهة، أعظم ممن خلقهم، وأعطاهم قدرا من سلطانه، خلق الله هذا العالم من عدم، ونظمه، ووضع في الطبيعة بذور الأشياء، وله على الجميع حق مطلق. وطبقا لهذا الحق، اختار العبرانيين من بين الأمم الأخرى التي تركها للآلهة الأخرى؛ لذلك سمى الله إله إسرائيل وإله أورشليم في مقابل آلهة الأمم الأخرى، ولا تعبد إسرائيل إلا إلهها الخاص. وقد ظن موسى أن هذا الإله يسكن في السموات، فقد نزل الله على الجبل، وصعد موسى إليه من على الجبل، وهي الفكرة الشائعة عند الوثنيين. وهكذا نجد أن وحي موسى متفق مع آرائه الخاصة، ومع معتقدات البيئة، وحينما عبدت إسرائيل العجل أرسل الله لهم ملكا، أي موجودا عظيما لعبادته لتخلي الله عنهم. لا يتميز بنو إسرائيل في معتقداتهم عن الوثنيين الذين يعتقدون في الموجودات الإلهية كالملائكة وغيرها. وما كان لمعتنقي الخرافة أن يصلوا إلى معرفة صحيحة بالله، أو أن يعلمهم موسى قواعد السلوك في الحياة كفيلسوف يؤمن بحرية الفكر، بل كمشرع يجبرهم على الخضوع للشريعة؛ لذلك كان حب الله لديهم مظهرا من مظاهر العبودية لا الحرية. وقد أمرهم موسى بعبادة الله وحبه لنعمه عليهم، وهددهم بالعقاب الذي ينتظرهم إذا هم تعدوا حدود الشريعة، ووعدهم بالجزاء إن هم عملوا بها. كان موسى يعلم العبرانيين كما يعلم الآباء أطفالهم الذين لم تكتمل عقولهم بعد؛ لذلك لم يعلمهم الفضائل أو الحياة السعيدة الحقة.
57
Shafi da ba'a sani ba