227

Risala Fi Lahut Wa Siyasa

رسالة في اللاهوت والسياسة

Nau'ikan

يتبين بوضوح تام، من الأسس التي تقوم عليها الدولة، والتي بيناها من قبل، أن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة، أو إرهاب الناس، أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين، بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كل فرد في أمان بقدر الإمكان، أي يحتفظ بالقدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير. وأكرر القول بأن الغاية من تأسيس الدولة ليست تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات أو آلات صماء، بل إن المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم كيما تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام، بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخداما حرا دون إشهار لأسلحة الحقد أو الغضب أو الخداع، وبحيث يتعاملون معا دون ظلم أو إجحاف، فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة. وقد رأينا أيضا أن الشرط الوحيد الضروري لقيام الدولة هو أن تنبع سلطة إصدار القرار من الجماعة أو من بعض الأفراد أو من فرد واحد. ولما كانت أحكام الناس، إذا ما تركوا أحرارا، تختلف فيما بينها كل الاختلاف، ولما كان كل فرد يظن أنه وحده الذي يعلم كل شيء، ونظرا إلى أن من المستحيل أن يفكر الناس كلهم ويعبروا عن أفكارهم بطريقة واحدة، فإنهم ما كانوا ليعيشوا في سلام لو لم يتخل كل فرد عن حقه في أن يسلك وفقا لما يمليه عليه قراره الشخصي. وعلى ذلك فإن الحق الوحيد الذي تخلى عنه الفرد هو حقه في أن يسلك كما يشاء وليس حقه في التفكير والحكم. وعلى ذلك فإن كل من يسلك ضد مشيئة السلطة العليا يلحق بها الضرر، ولكن المرء يستطيع أن يفكر وأن يصدر حكمه، ومن ثم يستطيع الكلام أيضا، بحرية تامة ، بشرط ألا يتعدى حدود الكلام أو الدعوة، وأن يعتمد في ذلك على العقل وحده، لا على الخداع أو الغضب أو الحقد، ودون أن يكون في نيته تغيير أي شيء في الدولة بمحض إرادته. فلنفرض مثلا أن شخصا قد بين تعارض أحد القوانين مع العقل، وأعرب عن رأيه في ضرورة إلغائه، وفي الوقت نفسه عرض رأيه على السلطة العليا لتحكم عليه لا لأنها وحدها هي التي لها الحق في إلغاء القوانين، وكف في أثناء محاولته هذه عن أي مظهر من مظاهر المعارضة للقانون المذكور، فإنه يكون جديرا بلقب المواطن الصالح وبثناء الدولة عليه، أما إذا كان الهدف من تدخله هو اتهام السلطات العامة بالظلم وجعلها مثارا للغضب، أو حاول إلغاء القانون رغما عن السلطات العامة عن طريق إثارة الفتن، فإنه يكون مشاغبا عاصيا.

وهكذا تتضح لنا الآن الشروط التي يستطيع بموجبها الفرد أن يعبر عما يفكر فيه وأن يدعو له دون أن ينال من حق السلطة العليا أو من سلطتها، أي دون تهديد للسلام الداخلي: يكفيه أن يترك للسلطة العليا مهمة اتخاذ القرارات العملية، وألا يقوم بأي شيء ضد هذه القرارات، حتى ولو اضطر في كثير من الأحيان أن يسلك على نحو مخالف لرأيه الذي يجاهر بصوابه، حينئذ لا يمثل سلوكه هذا أية خطورة على العدالة أو على التقوى، بل إني لأذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وأقول: إن من واجبه أن يفعل ذلك إن أراد أن يكون عادلا تقيا؛ وذلك لأن العدالة، كما بينا من قبل، تتعلق بمشيئة السلطة العليا وحدها، بحيث لا يمكن لأحد أن يعدل دون أن يكون سلوكه مطابقا لقراراتها. أما التقوى فإن أسمى مظاهرها هي تلك التي تؤدي إلى سلامة الدولة وأمنها الداخلي (وقد بينا ذلك في الفصل السابق) وهو ما لا يتحقق لو عاش كل فرد وفق هواه، فمن الفسوق إذن أن يفعل المرء شيئا طبقا لرأيه الخاص ضد مشيئة السلطة العليا التي يعد هو أحد رعاياها؛ إذ إنه لو استباح الجميع لأنفسهم أن يفعلوا ذلك لأدى هذا إلى انهيار الدولة، بل إن الإنسان لا يعمل شيئا مطلقا ضد ما يقضي به عقله وما يقرره، ما دام يعمل طبقا لمشيئة السلطة العليا، إذ إن العقل ذاته هو الذي أقنعه بأنه يخول لها حقه في أن يحيا على هواه طبقا لمشيئته الخاصة. ولو أن التجربة اليومية تقدم إلينا دليلا آخر على ذلك، ففي المجالس - سواء أكانت مجالس عالية أم مجالس ثانوية الأهمية - يندر أن تصدر القرارات بإجماع الآراء، ومع ذلك يصدر كل قرار معبرا عن إرادة جميع الأعضاء، سواء منهم من صوتوا معه أو ضده.

3

ولكن، لنرجع إلى موضوعنا الأصلي، فقد رأينا بعد الرجوع إلى الأسس التي تقوم عليها الدولة، ما هي الشروط التي يستعمل بها الفرد حريته في الرأي دون أن ينال من حق السلطة العليا. ومن السهل الآن تحديد الآراء التي يؤدي التصديق بها إلى الفتن في الدولة؛ فتلك هي الآراء التي تؤدي المناداة بها إلى نقض العهد الذي تخلى به الفرد عن حقه في أن يفعل ما يشاء. ومن أمثلة ذلك، الرأي الذي ينكر استقلال السلطة العليا من حيث المبدأ، أو الرأي الذي لا يحتم على كل فرد الوفاء بوعده، أو الذي يوصي بأن يعيش كل على هواه، وما شابه ذلك من الآراء التي تتعارض مع هذا العهد تعارضا مباشرا، والتي يكون معتنقها داعية للفتنة، لا بسبب حكمه أو رأيه في ذاته، بل بسبب السلوك المترتب عليها؛ إذ إن اعتناق هذه الآراء يعني التخلي - ضمنا أو صراحة - عن الولاء للسلطة العليا، أما الآراء الأخرى التي لا تنطوي على مسلك من نوع نقض العهد، أو الانتقام، أو الغضب ... إلخ، فلا يمكن أن توصف بأنها داعية للفتنة، ما لم يكن ذلك في دولة فاسدة؛ أي في دولة أحرز فيها المتعصبون الطامعون الذين لا يطيقون كل من كان على خلق قويم، نجاحا جعلهم يشتهرون بين العامة إلى حد أصبحت معه سلطتهم تطغى على سلطة الحاكم. ومع ذلك فنحن لا ننكر وجود بعض الآراء التي لا يكون من الأمانة عرضها ونشرها مع أنها تبدو وكأنها مجرد آراء تحتمل الصواب والخطأ. وقد بينا في الفصل الخامس عشر

4

هذه الآراء، مع حرصنا على ألا نحد على أي نحو من حرية الفعل. وأخيرا فإذا أدركنا أن الأفعال، أي الإحسان للجار مثلا، هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها كل فرد أن يثبت ولاءه للدولة، كما يثبت ولاءه لله، اعترفنا بلا تردد بأن أفضل الدول هي تلك التي تسلم للفرد بالحرية نفسها التي يسلم له بها الإيمان. وإني لأعترف بأن هذه الحرية قد تسبب بعض المضايقات ولكن هل هناك تنظيم وضعي يبلغ من الحكمة حدا يجعل من المستحيل أن تنشأ عنه بعض المضايقات؟ إن من يريد تنظيم الحياة الإنسانية كلها بالقونين يزيد من حدة العيوب دون أن يقومها، ومن الأفضل السماح بما لا نستطيع منعه مهما كان الضرر الناتج عن ذلك. إننا نعلم العواقب الوخيمة المترتبة على الترف والحسد والشهوة والثمالة وما شابهها من الانفعالات، ومع ذلك نسمح بهذا كله لأننا لا نستطيع إلغاءه بسلطة القانون، مع أنها رذائل فعلية، فالأولى أن نسمح بحرية الحكم، التي هي فضيلة في الواقع، وألا نقضي عليها. ولنضف إلى ذلك أنه لا يوجد ضرر واحد ينتج عن حرية التفلسف لا تستطيع السلطات العليا أن تتجنبه (وسأبرهن على ذلك الآن). وأخيرا أليست الحرية شرطا أساسيا لتقدم العلوم والفنون؟ إن العلوم والفنون لا تتقدم تقدما ملموسا إلا على أيدي أناس تخلصوا تماما من المخاوف وأصبحت لهم حرية الحكم.

فلنفرض، مع ذلك، أنه يمكن سلب الناس حريتهم والقضاء على استقلالهم بحيث لا يمكنهم التفوه بكلمة واحدة إلا بأمر السلطة العليا، في هذه الحالة لن يحدث مطلقا أن تتفق جميع أفكارهم مع أفكار السلطة العليا، والنتيجة الحتمية لذلك هي استمرار الرعايا في التفكير على نحو يتعارض مع أقوالهم، وبذلك تضيع الثقة، التي هي شرط ضروري لإقامة الدولة، ويؤدي تشجيع الفساد الكريه والخداع إلى سيادة المخاتلة والغش في جميع العلاقات الاجتماعية. وفضلا عن ذلك فإن من يتوقع من جميع الناس تكرار الأقوال نفسها التي تلقن لهم يكون واهما بحق؛ فالواقع يثبت عكس ذلك، إذ إنه كلما حاول المرء سلب الناس حريتهم في التعبير استثار مقاومتهم. وأنا لا أقصد أولئك الشرهين المتملقين الذين لا خلق لهم، والذين تنحصر أعظم أمانيهم في تأمل بريق الذهب وفي إشباع بطونهم، بل أقصد أولئك الذين تحرروا بفضل حسن تعليمهم وطهارة حياتهم ونبل أخلاقهم. لقد طبع معظم الناس على الاستياء الشديد إذا ما عدت بعض آرائهم التي يعتقدون بصحتها جرما، وإذا ما وصف ما يحث نفوسهم على تقوى الله وحب الناس أنه جريمة. ويؤدي بهم ذلك، في نهاية المطاف، إلى رفض قوانين الدولة، والتجرؤ على فعل ما يضر بالسلطات العامة. وعندئذ يرون أن إثارة الفتنة واستعمال كل ألوان العنف في سبيل ما يعتقدونه شيء رائع لا عار فيه. ولما كانت الطبيعة الإنسانية على هذا النحو، إذن يتضح لنا أن القوانين الموضوعة ضد هذه الآراء لا تهدد المجرمين، بل تهدد أصحاب الشخصيات المستقلة وأنها لا تضع عقابا للأشرار، بل إساءة للشرفاء. ومن ثم كان الإبقاء عليها يمثل خطرا شديدا على الدولة. وعلى أية حال، فإن هذه القوانين الموضوعة لإدانة الآراء لا تنطوي على أية فائدة، لأن من يؤمنون بصحة الآراء لا يمكنهم طاعة هذه القوانين، أما من يرفضونها لبطلانها فيجدون في هذه القوانين امتيازات لهم وينتابهم الغرور بانتصارهم، بحيث لا تستطيع السلطات العامة - لو أرادت إلغائها - لتضيف إلى ما قلناه الآن تلك النتائج التي استخلصناها من الفصل الثامن عشر في النقطة الثانية من تاريخ العبرانيين. وأخيرا، فما أكثر الفرق التي نشأت داخل الكنيسة عندما أرادت السلطات العامة وضع حد لجدل رجال الدين بوساطة القوانين. والواقع أنه لو لم يسيطر على الناس الأمل في أن يجتذبوا القوانين والسلطات العامة لصفهم، ولينتصروا على أعدائهم وسط تصفيق العامة لهم، وتلقي مظاهر التكريم، لما تقاتلوا بكل هذا القدر من سوء النية، ولما تملك نفوسهم كل هذا الغضب، وهذا ما تؤكده التجربة ذاتها - فضلا عن العقل - بأمثلة كثيرة من الحياة اليومية، فمعظم القوانين التي تأمر كل فرد بما ينبغي أن يعتقد، وتحرم عليه أن يتكلم أو أن يكتب ضد هذا الرأي أو ذاك، قد وضعت لإرضاء أناس لا يطيقون أن يروا غيرهم معتزين بشخصيتهم المستقلة، أو بالأحرى استسلاما لغضبهم. وهؤلاء هم الذين يستطيعون بسهولة، بما لديهم من نفوذ ضار، تحويل إخلاص العامة الميالة إلى الفتن، إلى غضب عارم، وإثارتها ضد من يريدون هم أنفسهم أن يقضوا عليهم.

أليست السيطرة على غضب العامة واندفاعها أفضل من وضع قوانين لا يمكن أن يرفضها إلا محبو الفنون والفضيلة وحدهم، ومن سقوط الدولة إلى هذا الحضيض الذي لا نستطيع فيه تحمل وجود بعض الشرفاء من بين رعاياها. إن أسوأ موقف توضع فيه الدولة هو ذلك الذي تبعث فيه إلى المنفى بالشرفاء من رعاياها وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا لأنهم اعتنقوا آراء مخالفة لا يستطيعون إخفاءها. إنها لمصيبة فادحة أن يعامل بعض الأفراد على أنهم أعداء الدولة ويساقون إلى الموت بلا ذنب ارتكبوه وبلا جرم اقترفوه، بل لمجرد كونهم يعتزون بشخصيتهم، بحيث تصبح المقصلة، التي يرتعش منها الأشرار، مسرحا عظيما تمثل عليه أدوار رائعة من الشجاعة وقوة التحمل، على حين لا يلحق بالسلطة العليا إلا العار؛ ذلك لأن من يعلم براءته لا يخاف الموت كما يخافه المجرمون، ولا يطلب العفو، ومن لا يعذبه تأنيب الضمير لذنب اقترفه، يقبل الموت في سبيل غاية نبيلة على أنه شرف، لا عقاب، ويصبح عظيما حقا لأنه ضحى بحياته في سبيل الحرية، فأي مثل يعطيه هؤلاء بموتهم الذي لا يفهم سببه الأغبياء والجبناء، ويحقره دعاة الفتنة، ويعظمه الفضلاء؟ إن كل ما يستخلصه الحاضرون من هذا المشهد الأليم هو أن عليهم إما أن يسيروا في خطى أولئك الشهداء، وإما أن يصفقوا لجلاديهم.

أما إذا أردنا أن يكون الولاء، لا التهاون والنفاق، هو الجدير بالتقدير، وألا تضعف السلطة العليا أو تخضع لدعاة الفتن، فيجب الاعتراف لكل فرد بحريته في الرأي، وحكم الناس بحيث يعيشون في سلام بالرغم من اختلافهم وتعارضهم في الآراء. ولا يمكننا أن نشك في أن هذه الطريقة في الحكم هي أفضل الطرق وأكثرها اتفاقا مع الطبيعة الإنسانية ، ففي الدولة الديمقراطية (وهي أقرب نظم الحكم إلى حالة الطبيعة) بينا أن جميع الناس يتفقون على العمل بإرادة مشتركة، ولكنهم لا يتفقون على أن يبدوا آراءهم أو يفكروا بطريقة واحدة.

5

Shafi da ba'a sani ba