لأنه تجرأ على لومه علانية لوما شديدا للاتفاق الذي عقده مع ملك الأرمن. وهناك أمثلة أخرى على أن مثل هذه الحرية أضرت بالدين أكثر مما أفادته. ولا حاجة بنا إلى الحديث عن الحروب الأهلية التي نشبت بسبب الحقوق المفرطة التي كان الأنبياء يطالبون بها. (3)
ومما هو جدير بالملاحظة أيضا أنه طوال فترة حكم الشعب لم تنشب إلا حرب أهلية واحدة وانتهت دون أحقاد، وأشفق المنتصرون على خصومهم المهزومين إلى حد أنهم ساعدوهم بكل الوسائل على استرداد كرامتهم وقوتهم الأولى، ولكن عندما استبدل الشعب - الذي لم يكن مهيئا للخضوع للسلطة الملكية - نظاما ملكيا بالنظام الأول، توالت الحروب الأهلية دون توقف ووقعت معارك رهيبة لم يحدث مثلها حتى ذلك الحين، فقد قتل محاربو يهوذا خمسمائة ألف إسرائيلي في معركة واحدة (وهو أمر لا يكاد يكون من الممكن تصديقه)، وفي معركة أخرى أباد محاربو إسرائيل بدورهم عددا كبيرا من سكان يهوذا (لا يذكر الكتاب العدد المضبوط) وأسروا الملك، وهدموا جزءا كبيرا من حائط أورشليم، وسلبوا المعبد كله (تعبيرا عن غضبهم الذي لم يكن له حدود). وقد رجعوا بغنيمة عظيمة من إخوتهم بعد أن ارتووا من دمائهم وأخذوا معهم رهائن، وتركوا الملك في مملكته الخربة تقريبا. وعندما وضعوا أسلحتهم، كان ذلك راجعا إلى ضعف يهوذا لا إلى ولائهم لها. وبعد ذلك ببضع سنوات بعد أن استعاد شعب يهوذا قوته ، قامت معركة جديدة خرج بعدها الإسرائيليون منتصرين، وفي هذه المرة قتلوا مائة وعشرين ألف رجل من يهوذا، وأسروا مائتي ألف امرأة وطفل، وحصلوا مرة أخرى على غنيمة كبيرة. وبعد هذه المعركة وغيرها مما يذكر في تاريخهم الطويل، أنهكت قواهم، وانتهى بهم الأمر إلى أن وقعوا فريسة لأعدائهم. ثانيا، لو أردنا أن نحسب الفترات التي استطاع فيها السكان أن ينعموا بسلام دائم لوجدنا هذا الاختلاف البين نفسه، فقبل تنصيب الملوك، كان يحدث في كثير من الأحيان أن تمضي أربعون سنة، ومرة ثمانون سنة (وهو أمر يدعو إلى الدهشة) في سلام دائم دون أن تنشب حرب أهلية أو خارجية، ولكن ما إن استولى الملوك على السلطة تغير الوضع إذ لم تعد الحرب تشن من أجل إقرار السلام والدفاع عن الحرية، بل من أجل العظمة. وباستثناء سليمان (الذي كانت فضيلته، وهي الحكمة، تظهر وقت السلم أكثر مما تظهر وقت الحرب) اشترك الجميع في حروب، وكان طريق الوصول إلى العرش بالنسبة إلى معظمهم - ممن تملكتهم شهوة الحكم - مفروشا بالدماء. وأخيرا ففي أثناء حكم الشعب لم تفسد القوانين، وكانت تطبق بحذافيرها، وكان يندر قبل عصر الملوك أن يحذر الأنبياء الشعب، وما كاد يتم انتخاب الملك الأول حتى ظهر عدد كبير من الأنبياء رأوا أن من واجبهم التدخل من أجل التحذير. فقد أنقذ عوبديا
10
من المذبحة مائة بعد أن خبأهم حتى لا يلاقوا حتفهم مع الآخرين. كذلك نجد أن الأنبياء الكذبة لم يخدعوا الشعب إلا بعد أن تركت مقاليد الدولة للملوك، والذين كان كثير من الأنبياء الكذبة يتملقونهم. وأخيرا فإن الشعب، الذي اعتاد أن يتنقل بين روح التعالي وروح التواضع، حسب الظروف، كان يستطيع أن يقوم نفسه بسهولة عندما تحل به المصائب، فيتوجه إلى الله ويعيد للقوانين حرمتها، بحيث لا يتعرض لأي خطر. أما الملوك، الذين اعتادوا الكبر والغرور، فلم يكن في استطاعتهم أن يطأطئوا رءوسهم دون إذلال لأنفسهم؛ ولذلك تمسكوا برذائلهم حتى حل الخراب الكامل بالمدينة.
ومن هذا كله يتضح لنا الآتي: (1)
من الخطورة على الدين وعلى الدولة على السواء إعطاء من يقومون بشئون الدين الحق في إصدار القرارات، أيا كانت ، أو التدخل في شئون الدولة، وعلى العكس يكون الاستقرار أعظم إذا اقتصروا على الإجابة على الأسئلة المقدمة إليهم، والتزموا في أثناء ذلك، في تعاليمهم وفي أدائهم لشعائر العبادة، بالتراث القديم الأكثر يقينا والأوسع قبولا بين الناس. (2)
من الخطورة أن نجعل القانون الإلهي معتمدا على المذاهب التي تقوم على النظر البحت، وأن نضع القوانين على أساس من الآراء التي هي على الأقل موضوع خلاف دائم بين الناس، فلا تخلو ممارسة السلطة من أشد ألوان العنف في دولة ينظر فيها إلى الآراء التي هي حق للفرد لا يمكن انتزاعه منه، كما ينظر إلى الجرائم. في مثل هذه الدولة تحكم انفعالات الشعب الهوجاء عادة؛ فقد حكم بيلاطس على المسيح بالصلب، وهو يعلم أنه بريء مسايرة منه لغضب الفريسيين، بعد ذلك شرع الفريسيون في إثارة الخلافات الدينية واتهام الصدوقيين بالفسوق حتى يسلبوا أكثر المواطنين ثراء ما يملكون. وكذلك نرى في كل عصر المنافقين وقد تملكهم جنون مشابه - يظهرونه بمظهر التحمس الشديد للحق الإلهي - يطعنون رجالا يتسمون بكل سمات الشرف ومظاهر الفضيلة، ويمقتهم عامة الشعب لهذا السبب ذاته، فيحتقرون آراءهم كأنها آراء شنيعة، يثيرون ضدهم غضب العامة الشديد. وليس من السهل القضاء على هذه الوقاحة التي لا حد لها، لأنها تتستر وراء الدين، وخاصة في بلد يكون أصحاب السلطة العليا فيه مسئولين عن ظهور فرقة تدعو لعقيدة لا تخضع لسلطتهم؛ إذ إنهم في هذه الحالة لا يعدون مفسرين للقانون الإلهي، بل أنصارا لفرقة دينية يكون دعاتها وحدهم مفسري القانون الإلهي، وبالتالي تكف العامة عن احترام سلطة رجال القضاء بالنسبة إلى الأفعال التي يوحي بها التعصب الديني، على حين يزداد احترامهم لسلطة الفقهاء إلى حد الاعتقاد بأن على الملوك أنفسهم أن يخضعوا لتفسيرهم. وتجنبا لهذه الشرور لن توجد وسيلة أفضل من النظر إلى التقوى والعبادة التي يفرضها الدين على أنها تنحصر في الأعمال وحدها؛ أي في ممارسة العدل والإحسان وترك كل ما سوى ذلك لحكم الفرد الحر. وسنسهب في هذا الموضوع فيما بعد. (3)
من الضروري الاعتراف للسلطة العليا بالحق في تقرير ما هو شرعي وما هو غير شرعي، وذلك تحقيقا لمصلحة الدين والدولة على السواء؛ ذلك لأن هذا الحق - حق تقرير الأفعال - عندما منح من قبل لأنبياء الله، أدى إلى إلحاق ضرر كبير بالدين والدولة على السواء. ومن ثم كان من الواجب، أو بالأحرى، ألا يعطى من لا يعرفون التنبؤ بالمستقبل أو إجراء المعجزات، وسنعالج هذا الموضوع بالتفصيل في الفصل التالي كله. (4)
وأخيرا فإن شعبا لم يتعود أن يعيش في ظل حكم ملكي، وكانت له من قبل قوانين قائمة، يسوء حاله لو نصب عليه ملك؛ فمن ناحية لا يستطيع الشعب أن يتحمل سلطة قوية كهذه، ومن ناحية أخرى لا تسمح السلطة الملكية مطلقا بوجود تشريع آخر (يعبر عن حقوق الشعب) وضعته سلطة أقل منها شأنا، وبالتالي لن يأخذ الملك على عاتقه حمايته، خاصة وأن النظم لم تنص على وجود ملك، بل نصت فقط على الشعب وعلى الجمعية السياسية صاحبة السلطة العليا. وهكذا فإن الملك، إذا احترم قوانين الشعب القديمة، كان بالنسبة إلى شعبه أقرب إلى العبد منه إلى السيد، ومن هنا فإن الملك سيحاول، بمجرد تنصيبه، وضع قوانين جديدة وتغيير التشريع القائم في الدولة لمصلحته الخاصة، ووضع الشعب في مواقف يكون فيها النيل من مهابة الملك أصعب بالنسبة إليه من إضفائها عليه.
وفي مقابل ذلك، لا يفوتني أن أذكر أنه من الخطورة بالمقدار نفسه اغتيال ملك حاكم، حتى لو ثبت على نحو قاطع أنه طاغية؛ ذلك لأن شعبا تعود على الانضواء تحت السلطة الملكية والالتزام بها لا بد أن يحتقر حكما أقل منها سلطة ويسخر منه، وبالتالي فإذا اغتيل أحد الملوك، وجب على الشعب تعيين ملك آخر ليحل محله، كما كان يفعل الأنبياء من قبل، وسيضطر هذا الحاكم الجديد إلى أن يكون طاغية رغما عنه، فكيف يثق بمواطنين ما زالت أيديهم مضرجة بدماء الملك المقتول، يفتخرون باغتيال شخصية كبيرة وكأنه عمل مجيد، لا مفر لهم من أن يعد عبرة للملك الجديد. فإذا أراد أن يكون ملكا حقا وألا يعترف بأن الشعب حاكمه وسيده وألا تكون سلطته معرضة للزوال فسيضطر إلى الانتقام لاغتيال الملك السابق ويقدم إليهم، لمصلحته الخاصة، مثلا آخر في مقابل المثل الذي قدموه حتى يثنى عن أي تفكير في تكرار جريمته. ولكن كيف ينتقم لموت طاغية بإعدام بعض المواطنين إن لم يسر على نهج سابقه، ويوافق على مسلكه؛ أعني إن لم يقتف أثره في كل شيء؟ وهكذا يحدث في كثير من الأحيان أن يتمكن الشعب من تغيير طاغية، ولكنه لا يستطيع أبدا أن يتخلص من الطغيان نفسه أو أن يستبدل بالملكية نظاما مغايرا. وقد أعطى الشعب الإنجليزي
Shafi da ba'a sani ba