- 8 - [ 227 / أ ] رسالة في ( 1 ) حكم من قال : إن أرواح أهل الشقاء معذبة إلى يوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم ، صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما قال أبو محمد علي بن أحمد رضوان الله عليه : الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
1 - ذكرت - وفقنا الله وإياك لما يرضيه - ما حكم من قال : إن أرواح أهل الشقاء معذبة إلى يوم الدين وقد قال عز وجل في المجرمين { يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا } إلى قوله عز وجل { إن لبثتم إلا يوما } ( طه : 103 - 104 ) فهذا أصلحك الله لا يخالف قول من قال : إنها معذبة إلى يوم الدين لأنه أيضا نص القرآن ، لكنها معذبة في غير نار جهنم . قال الله تعالى { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر } ( السجدة : 21 ) وقال تعالى في آل فرعون { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } ( غافر : 46 ) وقال تعالى { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون } ( الأنعام : 93 ) فصح أن النفس معذبة كما ترى من حين موتها إلى يوم القيامة دون الأجساد ، فإذا كان يوم القيامة أحيا الله تعالى العظام ، وأخرجها من القبور وركب عليها الأجساد ورد إليها الأنفس ، ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار . وإنما تخافت المجرمون بينهم : { إن لبثتم إلا عشرا } { إن لبثتم إلا يوما } { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } ( يس : 52 ) لأنه صار العذاب الذي كانوا فيه هينا يسيرا بالإضافة إلى عذاب جهنم ، أعاذنا الله من عذابه . وهذا الذي تتفق به الآيات كلها ، وإنما هلك من هلك بأخذه آية وتركه أخرى ، وأخذه حديثا وتركه آخر ، وأخذه آية وتركه حديثا يبينها ، وأخذه حديثا وتركه آية ، وهذا خطأ لا يحل ، وإنما الفرض على المسلمين أخذ كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن وسنة وضم كل ذلك بعضه إلى بعض .
Shafi 219
2 - وأما ما ذكرت عن عبد الملك بن مسلمة ، انه قال : ' إذا خرج من هذا الجسم الظاهر بالوفاة ركب ( 1 ) في جسم باطن ' فلا أدري من عبد الملك بن مسلمة ، إلا أني ادري أن هذا القول سخيف وكذب على الله تعالى مجرد ، وضلالة [ 237 ب ] فاحشة ، وهذا مذهب أهل التناسخ وهو كفر مجرد . فإن كان قائله من [ أهل ] الدين المشاهير فهي زلة عالم وغفلة وهلة ، يعذر فيها بالجهالة لها ، وإن كان من غير هذه الصفة فهي تهمة في دينه ، لان القرآن والسنن كلها ليس في شيء منها شيء من هذا ، وإنما فيها أن النفس ، وهي النسيم ، في حكم كذا وفي أمر كذا إلى يوم القيامة . فإن ذكر ذاكر ما روي من أن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر فهذا لفظ لا يصح ، وإنما صح أن نسمة المؤمن طائر يعلف من ثمار الجنة فقط ، فالنسمة الطائر الذي يطير ويعلف من ثمار الجنة فقط ، وكذلك ما روي أيضا في قناديل معلقة لا يصح ، وغنما صح أن الأرواح تسرح في الجنة ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش ( 2 ) ، وتلك القناديل هي صور طير خضر . هكذا نص الحديث فلا يجوز ان يحرف . والصحيح المعفي على هذا كله هو ما ذكر النبي ، عليه السلام ، انه رآه ليلة الإسراء من الأسودة عن يمين آدم ، عليه السلام ، ويساره ( 3 ) ، إذ رأى آدم ، عليه السلام ، في السماء الدنيا ، وأن تلك الأسودة نسم بنيه فالذين [ عن ] يمينه أرواح أهل السعادة ، والذين عن يساره أرواح أهل الشقاء ، وأن أرواح الأنبياء والشهداء في الجنة ، وبهذا جاء القرآن في قوله { فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ، والسابقون السابقون ، أولئك المقربون ، في جنات النعيم } ( الواقعة : 9 - 12 ) وقوله تعالى { فأما إن كان من المقربين ، فروح وريحان وجنة نعيم ، وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين ، وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم ، وتصلية جحيم ، إن هذا لهو حق اليقين } ( الواقعة : 88 - 95 ) وأما قول من قال إن مستقرها في الصور فخطأ ، إذ لم يأت به قرآن ولا نص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما هي من أخبار السدي ( 4 ) ؛ وإنما صح قول الله
Shafi 220
تعالى { ونفخ في الصور } { ثم نفخ فيه أخرى } ( الزمر : 68 ) فالصور حق من أنكره كفر ، والنفخ حق من أنكره كفر . وأما من قال إن فيه ثقبا على عدد الأرواح ، والأرواح فيه ، فخرافة من توليد أهل الكذب والإزراء على الإسلام ، ونعوذ بالله [ 228 / أ ] من مثل هذا فإن اعتقاده والقول به يزري إلى إضافته بالله تعالى وبرسوله ، وهو كذب عليهما . وقد قال الله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ( الأعراف : 33 ) فقرن الله تعالى مع الشرك به القول عليه بما لا علم للقائل به ، وأخبرنا أن الشيطان يأمرنا بذلك فليتق الله امرؤ ولا يقل عن الله ما لا علم له به ؛ وهكذا القول بأنها على أفنية القبور وأنها ترد كل اثنين وخمسين ، فكل هذه خرافات لا يحل القول بها لما ذكرنا ، وبالله تعالى التوفيق .
3 - وأما قول القائل إن النفس والروح شيئان ، فخطأ وقول بلا برهان ، وقد قال الله تعالى { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } ( البقرة : 111 ) فصح أن كل من لا برهان له فليس بصادق ؛ وقد قال قوم عن الله تعالى قال { يا أيتها النفس المطمئنة } ( الفجر : 27 ) وقال { ولا أقسم بالنفس اللوامة } ( القيامة : 2 ) وقال { إن النفس لأمارة بالسوء } ( يوسف : 53 ) هي كل نفس في الأرض حاشا الأنبياء بقوله عليه السلام ( 1 ) : ' والقلب يتمنى ويشتهي ، فأهل الخير يردعون بتوفيق الله تعالى لهم ما تأمره به أنفسهم ، وأهل الشر يرتكبون ما أمرتهم به أنفسهم ويتبعون أهواءهم ' والنفس اللوامة هي كل نفس دون الأنبياء - عليهم السلام - لان كل أحد دونهم يلوم نفسه على تقصير يكون منها وعلى استقلالها مما تعلو به الدرجات في الجنة . والروح والنفس شيء واحد بدلائل تكثر ذكرناها في كتاب الفصل ( 2 ) ، من جملتها قول النبي - عليه السلام - إذ نام عن الصلاة ( 3 ) : ' إن أرواحنا كانت بيد الله ' ثم قال بلال : يا رسول الله اخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ، فأقره ، عليه السلام ، ولم ينكره . وصح بالنصوص كلها أن النفس مخاطبة ملزمة من الله تعالى محاسبة ، ولم يختلف مسلمان في أن للإنسان نفسا ( 4 ) وهي الروح مع الجسد ، فلو كانا اثنين لكان المعذب عند
Shafi 221
الموت اثنان ، وهذا لا يقوله أحد . وسائر ما قلت من خروج واحد وإبقاء آخر تخليط لا دلائل عليه . وقد فسر أمر الرؤيا في كتاب الفصل فأغنى عن التطويل ( 1 ) .
4 - وأما الذي كان يمضي على أتانه ( 2 ) فإنما هو خبر [ 228 ب ] مروي رويناه عن مطرف بن عبد الله بن الشخير ، ومطرف رحمه الله ثقة ، وهذا لا يصح عنه ، وحاشا لمطرف أن يقول هذا الكذب الذي يكذبه القرآن حيث يقول تعالى { وما أنت بمسمع من في القبور } ( فاطر : 22 ) وإذ يقول - عز وجل - { إنك لا تسمع الموتى } ( النمل : 80 ) فلا يجوز أن يخص من هذا شيء إلا ما خصه النص الصحيح ، كخطاب النبي لأهل القليب ( 3 ) ، فهو مستثنى ، وما صح من نحو هذا فقط . ولو صح هذا عن مطرف ، وهو لا يصح ، لامكن انه نعس على دابته فرأى ذلك في النوم ، فكيف ومثل هذا لا يقطع به على الله تعالى في الغيب إلا جاهل ، وبالله التوفيق .
5 - وأما قولك إن الميت إذا دلي في قبره أتاه ملك اسمه رومان إلى آخر الكلام ، فخرافة موضوعة لم يأت قط من طريق لينة فكيف قوية . وإنما صح أنه يأتيه ملكان أسودان فيسألانه ويقطعانه ، على ما جاءت به الآثار الصحاح المشهورة . وقول الله تعالى { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } ( الإسراء : 13 ) كقوله { قال طائركم عند الله } ( النمل : 47 ) فكأن هذا والله اعلم ما عمله المرء وصار ( 4 ) له في ما أحصي عليه .
6 -وأما سؤالك عن الذنوب التي ( 5 ) تاب عنها العبد بعدما كتبت في الصحيفة ، هل تبقى فلا أصل [ له ] وحاشا لله من ذلك ، ولو كان ذلك لكان الكفر إذا تاب عنه المرء بإسلامه باقيا عليه . وهذا ما لا يقوله أحد . وإنما يثبت في الصحيفة ويوازن به العبد ما لا يثبت عنه قط ، وبهذا صحت الآثار فيما جاء فيه ترغيب : أن من فعل كذا محيت عنه كذا وكذا سيئة ، فصح أنها تمحى . وقد علم قدر ما جنى وقدر ما فضل عليه وان لا يدخل أحد بعمله الجنة إلا إن أسعده الله برحمته .
7 - وأما سؤالك عن قوله الله تعالى { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات }
Shafi 222
( الفرقان : 70 ) فنعم ، إن من تاب عن الذنب فقد سقط عنه بإجماع الأمة . ومعنى التوبة ترك العودة والندم والاستغفار ، فقد عوض التائب مكان كل توبة أزلفها ندما واستغفارا ، والندم والاستغفار حسنة فهي له مكتوبة . وقد سقطت سيئاته وأبدل الله تعالى بها الحسنات له .
8- وأما قولك عن عمر إنه تمنى أن يكون له مثل جبل كذا ذنوبا مغفورة ، فأعوذ بالله أن يتمنى [ 229 / أ ] عمر بهذا أو مسلم في الأرض ، فكيف يجوز لذي عقل أن يتمنى بأن يعصي الله عز وجل ! أو ما سمعت قول الله تعالى { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } ( الجاثية : 21 ) بل يقول : ليت ما أذنبنا من صغير وكبير نتوب عنه أو مغفور أو غير ذلك أو لم يفعله .
9 - وأما ما سألت عنه ممن يجني الجنايات فتقام عليه الحدود ، وهل تبقى عليه تبعة لله تعالى فقد صح عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أن الحدود كفارات ( 1 ) حاشا الفساد في الأرض فإنه باق ؛ قال الله تعالى { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } ( المائدة : 33 ) فقد نص الله تعالى أن هؤلاء يكون ما أقيم عليهم في الدنيا من الحد خزيا لهم وأن لهم في الآخرة عذابا عظيما ( 2 ) .
10 - وأما ما سالت عنه من نزول الماء كمني الرجل ، فيبعث الله من في القبور ، فأذكر هذا الحديث ( 3 ) ولا يحضرني ذكر سنده ، فغن صح قلنا به وإلا فلا . وليس هذا مما امرنا به ولا نهينا عنه ، والله على ما يشاء قدير . ولا يجوز أن يقال شيء من هذا بغير يقين علم .
11 - وأما الحديث الذي ذكرت من أنه لا تقوم الساعة حتى لا يبقى أحد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ( 1 ) ،
Shafi 223
وأن الله تعالى يبعث ريحا تقبض أرواح المؤمنين ، فقد جاءت في هذا آثار صحيحة معروفة إن [ أردتها ] فهي حاضرة . وأما عمر مولى غفرة ( 2 ) فضعيف وإنما صحت من طريق غيره .
12 - وأما ما ذكرت من قول سحنون وابنه في الرجل الذي كان يغتسل في يوم شديد البرد فقال أحدهما : وجبت ، فقال الآخر : إن كان من حلال ، فقال : وإن كان من حرام ، فهذا لا يصح وليس الإيجاب لأحد دون الله تعالى على لسان رسوله ، ولو شهد شاهد بالإيجاب لمن اغتسل من الجنابة لوجبت الشهادة بذلك لمن صلى صلاة أو صام يوما حارا أو ما أشبه ذلك ، وهذا ما لا يختلف فيه اثنان في أنه لا يقطع لإنسان بعينه في الجنة قطعا إلا قوم من خشارة الخوارج قد بادوا ؛ وأيضا فما يدري من يقول وجبت على ما [ 229 ب ] ذا يموت المقول عنه ذلك ، وأما إن كان من حرام فأعوذ بالله من ذلك ، فإن وجوب النار أقرب إليه من وجوب الجنة ، إلا أن يرمه الله تعالى . ولو كان الاغتسال توبة من الزنا وهو مصر على تماديه لكانت كل حسنة يعملها توبة من كل سيئة تقدمت له ، وهذا ما لا يقوله أحد .
13 - وأما ما ذكرت من طلوع الشمس من مغربها فصحيح لا داخلة فيه ، وإنما هي في ذلك يومها فقط ، ثم ترجع كما كانت بلا خلاف .
14 - وأما قولك : هل يصبح الناس يومئذ قد انتزع القرآن من صدورهم فليس في هذا خبر صحيح نعتمد عليه ، ولا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى ، وهو على كل شيء قدير .
15 - وأما سؤالك عن من حلف خوف السلطان بإكراه : هل عليه كفارة فلا كفارة على المكره ولا يلزمه شيء لقول النبي ، عليه السلام ( 3 ) : ' عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ' . وإنما الكفارة على المختار للحنث القاصد إليه فقط للنص الوارد بذلك ، وللإجماع على وجوب الكفارة على من هذه صفته ، ولا نص ولا إجماع
Shafi 224
فيما عدا ذلك . والشرائع لا يشرعها إلا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عن ربه تعالى ، وأما من حلف وشك في الحنث فلا كفارة عليه حتى يوقن ، لأننا كنا على يقين انه لم يلزمه كفارة ، فلا يجوز أن يلزم عتقا أو إطعاما أو كسوة أو صياما بالظنون ، ولا يلزم الشرائع إلا باليقين ، قال تعالى { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } ( يونس : 36 ) .
16 - وأما سؤالك عن عهدة ( 1 ) السنة من الجنون والجذام والبرص ، فلا يصح في ذلك شيء عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أصلا بوجه من الوجوه . وإنما روي في العهدة ثلاثة أيام وأربعة من طريقتين واهيين وهما : الحسن عن سمرة ، والحسن عن عقبة بن عامر [ ولم نرو فيما عدا ذلك ] شيئا أصلا .
17 - وأما سؤالك عن الفرق بين توأمي الزانية ، والمغتصبة ، والمستأمنة ، والمسبية [ فأقول في الجواب : أما المستأمنة والمسبية ] ( 2 ) فتوأماهما أخوان لأب وأم بلا شك ، لان الأصل في ذلك انهما ابن زوج ، إذ لا يحمل أحد على حكم الزنا إلا ببينة ، فهما لاحقان بأبيهما لان أمهما فرش له . ونكاح أهل الشرك صحيح لإجماع الأمة على إقرارهم عليه إذا أسلموا معا ، لأن منه خلق النبي [ 230 / أ ] صلى الله عليه وسلم وهو مخلوق من أصح نكاح بلا خلاف . وأما توأما المغتصبة والزانية الملعنة فإنما هما لأم فقط ، لان الزانية والمغتصبة ليستا فراشا للرجل وقد قال عليه السلام ( 3 ) : ' الولد للفراش وللعاهر الحجر ' فلا يجوز أن يكونا لغير صاحب فراش ، وقد أبطل رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، نسب ابن الملاعنة من أبيه وألحق ولدها بأمه فقط ، فهما لأم فقط ، ولا فرق بينهما وبين سائر ولدها منه قبل اللعان ، إن جاز أن يلحقا به وقد نفاهما ، فهما مع سائر ولدها منه إخوة لأب وأم أيضا ؛ وهذا ما لا يقوله أحد .
18 - وأما سؤالك عن المأسور في دار الحرب الملتزم مالا لهم بالعهود والمواثيق والأيمان ، هل يلزمه الوفاء بذلك فنعوذ بالله من هذا ، وهي في إجماع الأمة كلها عهود ومواثيق على باطل وظلم وعلى إعطاء مال بغير حق ، ولا يجوز الوفاء بعهود
Shafi 225
الباطل ، ولا يحل له أن يبقى عندهم عن قدر على الخلاص ، ولا يعطيهم شيئا إن انطلق قبل أن يأخذوه منه . وإنما قال تعالى { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } ( النحل : 91 ) وهذا ليس عهد الله إنما هو عهد الشيطان ؛ فمن قال إنها عهود حق فسله ماذا يقول في أسرهم إياه وحسبهم له ، أحق هو أم باطل فإن قال : هو حق ، كفر بإجماع المسلمين ، وجعل قتل أهل الكفر وأسرهم للإسلام حقا وعدلا ، وإن قال : هو باطل ، نقض قوله وصدق انه باطل .
19 - وأما سؤالك عن المصر ، فإن الله تعالى يقول { ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } ( آل عمران : 135 ) وأخبر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ان من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ( 1 ) ، وهذا كله حق . فالمصر هو الذي عمل الذنب ثم نوى التمادي عليه ، فهذا ما لم يعمله ، فعليه إثم الإصرار لا إثم مواقعة الذنب حتى يواقعه ؛ وأما من هم بسيئة فلم يعملها ، فليس مصرا بنص القرآن الذي ذكرنا ، ولا إثم عليه فيما هم به حتى يعمله ، للنص المذكور .
20 - وأما سؤالك عن من افتض بكرا ، فقام عليه أهلها يطلبونه ، فأنكرت هي وأقر هو ، وقولك : فذهب قوم أن يفرض لها ما يتحلل به عذرتها ، وقلت : إلى من يرفع ذلك ، أو بأي وجه يستحقه فهذه قضية سخيفة جدا ، وما علمنا الفروج في الزنا تستحل بعطية ، ولا أن يصالح عليها [ 230 ب ] في ذلك بمال ، وقد قال تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ( البقرة : 188 ) وهذا الباطل . ونهى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، عن مهر البغي . وأما إذا أقر هو ، فعليه الحد للزنا ولا مزيد ، وما عدا ذلك فهذر وجنون ، ولو أعطاها شيئا ( 2 ) على هذا الوجه لردته إليه .
21 - وأما سؤالك عن من أقر لآخر بحق ، والمقر له منكر ، أيوقف له أم لا وهل يدفعه إلى ورثته بعده أم لا فهذا مما اختلف فيه العلماء ، فقالت طائفة : يوقف له ، وقالت طائفة : لا يوقف له ، وقد بطل هذا الإقرار إذا لم يصدقه المقر له ، وهذا هو الصحيح ، لان ذلك المال المقر له به لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون ملكه للذي هو بيده في جملة ماله ، أو المقر له به . فإن كان للمقر له به
Shafi 226
يقوله أحد . وإن كان لا يجب هذا ، فهو بيقين للمقر له كما كان لا ينتقل عنه إلا بنص أو إجماع ، إذ قد بطل إقراره به وسقط به ، ولا حق لورثة المقر له به ، إلا أن يجدد الذي هو بيده إقرار لهم به . لأن الإقرار الأول قد بطل ، ولا يجوز أن يقضى بأمر قد بطل .
22 - وأما سؤالك عمن عليه دين لآخر فمات صاحب الدين ولا وارث له ، فإن هذا مال يجب تفريقه في مصالح المسلمين بإجماع الأمة . على أن كل مال ( 1 ) لا رب له فهو في مصالح أهل الإسلام ، حيث ما وضع منها جاز ، وبالله تعالى التوفيق .
23 - وأما سؤالك عمن غصب مالا لإنسان فمات المغصوب منه ، فماذا يكون للميت وورثته فإن ذلك حق للمغصوب منه قد وجب قبل الغاصب ، فلا يسقط بموته ، والميت يطالبه به بين يدي الله تعالى ، وهو ولي إنصافه منه ، بقوله تعالى { ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } ( الزلزلة : 7 ، 8 ) وقوله تعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ( الشورى : 40 ) ثم إذا انتقل ملك ذلك المغصوب إلى ورثة الميت ، فهو حق آخر وحكم آخر . وقد تجدد للغاصب غصب آخر من الورثة فحقهم أيضا فيه بتمامه وهكذا أبدا ، وبالله التوفيق .
24 - وأما سؤالك عن قول الشيطان { إني أرى ما لا ترون } ( الأنفال : 48 ) وقول القبيلتين من الجن ، هاروت وماروت { إنما نحن فتنة } ( البقرة : 102 ) هل وقف على من سمع ذلك مشافهة منهما ومن إبليس أم الله تعالى أخبر بذلك فما ظننت قط [ 231 / أ ] أن مسلما يسأل هذا السؤال ، وهل خبر أصدق من خبر الله تعالى ! وهل يمتري مسلم في أن ما أخبره الله تعالى فانه حق كما أخبر به وهذا مكان لا يستحق الزيادة في الجواب على هذا أصلا ، لعظيم الأمر في ذلك ، ونعوذ بالله من الخذلان .
25 - ثم من عجائب الدنيا سؤالك في قول الكفار لعنهم [ الله ] عن رسول [ الله ] ، صلى الله عليه وسلم ، به جنة ، ماذا أرادوا بذلك أرادوا بذلك سواد وجوههم وحمقهم . أو عن مثل هذا يسأل أو يشتغل منه بأكثر من لعنتهم على ذلك واستعظام ما أتوا به فقط ، وهذا أيضا من نوع ما قبله . وأما احتجاج من احتج بقول الكافر : به جنة في أن الجان تتكلم على لسان المصروع فاحتجاج سخيف من دماغ ضعيف ،
Shafi 227
الله عليه وسلم ، به جنة ، فقولهم كله باطل وزور وإفك
26 - وأما ما كرت من قول بعض المفسرين : إن الشيطان ألقى ذلك على لسان نبيه ، فحاشا لله من هذا . وهذا هو الكذب ، والرواية في هذا باطل ، ومعاذ الله أن يسلط الله شيطانا يتكلم على لسان نبيه ، عليه السلام ، وهو تعالى [ يقول ] { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } ( النجم : 3 ، 4 ) ومع هذا ، فما أدري ما هذا العقل الذي يسمع فيه هذا الحمق ، وهذا لا يجوز إلا على سكران أو موسوس أو مبرسم يهذي ويتكلم بما لا يدري ولا يعرفه ، فكيف ان يظن هذا بالنبي أنه تكلم بالكفر وهو لا يدري ألا إن هذا هو الضلال .
27 - وأما كلام الشيطان على لسان المصروع فهذا من مخاريق العزامين ( 1 ) ولا يجوز إلا في عقول ضعفاء العجائز ، ونحن نسمع المصروع يحرك لسانه بالكلام ، فكيف صار لسانه لسان الشيطان عن هذا لتخليط ما شئت . وإنما يلقي الشيطان في النفس يوسوس فيها ، كما قال الله تعالى { يوسوس في صدور الناس } ( الناس : 5 ) وكما قال تعالى { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } ( الحج : 52 ) فهذا هو فعل الشيطان فقط ، وأما أن يتكلم على لسان أحد فحمق عتيق وجنون ظاهر ، فنعوذ بالله من الخذلان والتصديق بالخرافات .
28 - وأما قولك فيما جاء أن [ الصداقة ] ( 2 ) تنسأ في الأجل ، فلا يصح أصلا ، وغنما صح أن صلة الرحم تزيد في العمر وتنسأ الأجل ، ومعنى هذا أن الله تعالى قد سبق في علمه أن جعل صلة الرحم سببا لبلوغ المدة [ 231 ب ] التي قدرها له ، كما جعل الغذاء والماء سببا ، والتنفس سببا ، لبلوغ المدة التي قدرها لنا ، ولا فرق .
29 - وأما سؤالك عن قوله تعالى { إذا حضر أحدكم الموت } الآية ( المائدة : 106 ) فغن الناس اختلفوا فيها ، فقالت طائفة : هي منسوخة . قال أبو محمد : وهذا خطأ لا يحل القول به ، ولا يحل أن يقال في شيء من القرآن إنه منسوخ بالظن ، إلا بنص جلي يبين أنها منسوخة ، أو بإجماع على ذلك ، ولا إجماع في ذلك
Shafi 228
قبيلتكم ، وهذا خطأ لوجهين ، أحدهما : انه تخصيص للآية بلا برهان ، والثاني : انه لا يجوز ذلك في اللغة ، لأنه تعالى لم يخاطب قبيلة بعينها وإنما خاطب الذين آمنوا في أول الآية ؛ وغير الذين آمنوا هم الذين كفروا بلا شك . فالحكم بها واجب باق محكم إلى يوم القيامة ، لا شك في ذلك ، لأنه نص من الله تعالى لم يأت ما يبطله ؛ وشهادة الكفار جائزة في السفر خاصة ، في الوصية خاصة مع إيمانهم ، وهو قول ابن عباس ، وأبي موسى الأشعري ، وتميم الداري ( 2 ) ، ثلاثة من أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، لا مخالف لهم من الصحابة كلهم يأمر بالحكم بها ، وبالله التوفيق . 30 - وأما سؤالك : البلاء أفضل أم العافية ، والفقر أفضل أم الغنى فسؤال فاسد ، إنما الفضل للعباد بأعمالهم ، وباختصاص الله تعالى إياهم ، وباختصاص الله تعالى ما شاء مما خلق بالتفضيل . ونحن نسأل الله تعالى العافية والغنى ونعوذ بالله من البلاء والفقر ، وإنما الفضل بالصبر والشكر . وقد جاء عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، تفضيل الصبر ، والقرآن أيضا ، والله تعالى يعلم مقادير ذلك ( 3 ) وسنرد ونعلم ، وإنما كلفنا العلم والعمل بما نعلم ، ولم نكلف علم ما عنده تعالى من المقادير ، وإنما علينا التسليم لقوله فقط ، ونهينا عن التكلف .
31 - وأما قولك إنه يحط سليمان ، عليه السلام ، من درجته في الجنة ، لما أوتي من الملك ، فما سمعنا بهذا أصلا . والإخبار عن الله بما ( 4 ) يفعل لا يحل إلا بنص صحيح عن النبي ، والاشتغال بالسؤال عن مثل هذا فضول ، ومن اشتغل بطلب الفضول وما لا يعنيه أو شك أن يضيع الحق وما يعنيه . 32 - وأما سؤالك عن تفاضل ساحة الجنة ، وأنها سبع جنات ، فقد نص تعالى على أن بعضها فوق [ 232 / أ ] بعض بقوله تعالى { وللآخرة أكبر درجات واكبر تفضيلا } ( الإسراء : 21 ) وبقوله تعالى { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار } ( الزمر : 20 ) ولو لم يكن كذلك لما كان
Shafi 229
وقد أخبر عليه السلام أن أهل الجنة يتراءون أهل الغرفات كما يتراءى الكوكب الدري في الأفق الشرقي، أو كما قال عليه السلام (1) .
33 - وأما قولك هل يبلغ أحد درجات النبيين: فأما أن يساويهم في جميعها فلا سبيل إلى ذلك أصلا، ولكن أزواجهم معهم فيها بلا خلاف. وأما قولك: قيل إن بعض النبيين أعلى درجة في الجنة [من] العلماء ثم الشهداء، وقيل الصديقين، فأقوال فاسدة لم يأت نص بشيء منها، ولكن الحق من ذلك أن (2) الصحابة - رضي الله عنهم - بعد النبيين على قدرهم، ثم الناس على قدر أعمالهم. قال الله عز وجل {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} (النمل: 90) فأبطل الله تعالى أن يجزي أحدا بغير ما يعمل، وبالله التوفيق.
34 - وأما سؤالك عن قول (3) النبي عند موته " [في] الرفيق الأعلى (4) فهم الذين سمى الله تعالى النبيين والشهداء والصالحين، وهؤلاء هم المترافقون في الجنة، جعلنا [الله] من أهلها بمنه، آمين، والسلام عليك يا أخي ورحمة الله.
تم الجواب والحمد لله كثيرا
وصلى الله على سيدنا محمد
وآله وصحبه وسلم
آمين
Shafi 230