وجاء السيد في موكبه، وجلالة محتده ومنصبه، فقمنا لاستقباله وهينمنا بكماله، فمر يتعرف وجوه القوم حتى حاذاني، وكبر على عينيه أن ترياني.
إلى أن يقول:
فإن حسن عند السيد أن يغضي عن بعض الأجناس، فلا يحسن أن يغضي عن جميع الناس، وإلا فلماذا يطوف على بعض الضيوف، ويحييهم بصنوف من المعروف، ويتخطى الرقاب إلى صروف، ويخترق لأجله الصفوف؟ فإن زعم السيد أنه أعلم بتصريف الأقلام، فليس بأقدم هجرة في الإسلام، وإن رأى أنه أقدر مني على إطرائه، فليس بالممكن أن يتخذه من أوليائه.
والمقصود بصروف، كما هو معلوم، صاحب «المقتطف» الدكتور يعقوب صروف، ولم يؤثره السيد لأنه أقدر على إطرائه، فإن الدكتور يعقوب لم يكن من أصحاب أقلام الإطراء، ولكنه آثره لأنه ربما كان أقدر في الدوائر العليا على محو المسبة التي جاءته من ناحية الحاشية الخديوية. •••
ونحن لا نتجاوز في مقالنا هذا بعض الأمثلة على مؤامرة الأدب التي لا تفهم دون العلم بما وراءها من مناورات القصور، ولم نزد فيها هنا على ما يحيط منها بالأعلام الذين كتبنا عنهم في هذا الكتاب.
2
في مقالاتنا بعنوان «حياة قلم» عرضت مناسبة لعلاقة «إبراهيم المويلحي» بمؤامرات القصور في القاهرة والآستانة، ذكرنا فيها بعض حوادثها ملخصة في القصة التالية:
حدث أن حركة في القاهرة زلزلت عرش عبد الحميد بالآستانة - وهي حركة تركيا الفتاة - وأن رجلا، شهرته دعوة القلم واللسان، ذهب إلى إيران لإتمام هذه الدعوة، فطرده الشاه، وأهانه اثنان من وزرائه، فقتل الثلاثة جميعا، وقال قاتلوهم إنهم قضوا عليهم بالحق انتقاما لذلك الداعية الطريد: جمال الدين!
وكانت هذه الحقيقة من وقائع الحال الغنية عن المقال، ومن طرائفها المروية أن السلطان عبد الحميد كان ينام في يلدز وعيناه على شارع محمد علي بالقاهرة، واتفق يوما أن المويلحي الكبير - صاحب مصباح الشرق - دخل مكتب «المؤيد» ووجد فيه نخبة من كتاب عصره وفضلائه، فتوقف عند الباب، وقال وهو يرفع يديه إلى سقف الحجرة: قادر أنت يا رب أن تسقط هذا السقف على من تحته، فيستريح عبد الحميد! قال محمد عبده - وكان من زوار الحجرة - نعم، لو تقدمت أنت خطوتين!
ذكرنا طرفا من أخبار المؤامرات وقصرنا الكلام فيها على أعلام الأدب الذين تقدمت الكتابة عنهم، وهم: علي يوسف، ومصطفى كامل، والمنفلوطي، والمويلحي صاحب عيسى بن هشام، ولكنهم طائفة معدودة من الذين اتصلوا بالقصور واجتذبتهم حبائلها أو اشتملت عليهم شباكها، وغيرهم كثيرون من أبناء عصرهم وأبناء العصر الذي يليه، تعرضوا لمثل ما تعرض له زملاؤهم من قبل، وامتزجت حياتهم العامة والخاصة كما امتزجت حركاتهم الأدبية والفكرية بأسرار تلك المؤامرات، فلا سبيل إلى تقديرهم وتقدير بواعث أعمالهم بغير الاطلاع على تلك الأسرار.
Shafi da ba'a sani ba