121

لقد كانت القاهرة يومئذ تموج بالتيارات السياسية، بين ظاهرة وخفية. كانت كأنها مرصد الحوادث في الشرق الإسلامي كله؛ فكان فيها دعاة من العرب، ودعاة من الترك، ودعاة من الفرس، ومن آسيا الوسطى على اختلاف شعوبها، ومنهم من يعمل للحرية والتجديد، ومنهم من يعمل في خدمة المستبدين، بل في خدمة الاستعمار.

وكان الدكتور «مهدي خان» في ذلك الحين علما من الأعلام المشهورة بين أولئك الدعاة.

كان يعرف في بلاده باسم «الدكتور ميرزا محمد مهدي خان زعيم الدولة ورئيس الحكماء»، وكان مولده في أوائل القرن التاسع عشر، وكان قد ناهز التسعين حين لقيته، وكان نموذجا صادقا لثقافة القرن التاسع عشر في زمنه وفي وطنه؛ لأنه تعلم الطب في فارس، ثم حضر دروسا مختلفة في علم الأديان المقارنة على أساتذة من الألمان، وكان ينظم الشعر الفارسي أحيانا، ويكتب العربية والتركية، ويتكلم الألمانية مع أهلها، وربما كان على معرفة بالفرنسية؛ ولهذا كان يشترك في مباحث الفلسفة كما طرقها أولئك الفلاسفة الأطباء.

ولست على يقين من تفصيلات برنامجه السياسي، ولكنني أعلم أن صحيفته «حكمت» كانت تصادر أحيانا في بلده، وكان يرسلها سرا في كثير من الأوقات إلى جهات من بلاد الدولة العثمانية تنقل منها إلى إيران وبعض بلاد المسلمين الذين كانوا تابعين يومئذ للحكومة القيصرية .

وكان شديد السخط على الحركة البابية، ويعتقد أنها تخدم مآرب الإنجليز والأمريكيين في إيران.

ولم ألقه على أثر كتابة مقالي إلى الشاه الصغير، ولكنني لقيته بعد ذلك بفترة وجيزة، وعرفني إليه صديقنا الشاعر المجيد الأستاذ «علي شوقي» رئيس قلم النظارة بوزارة الأوقاف.

كان من أسباب ترحيبي بمعرفة الدكتور «مهدي» أنه مرجع موثوق به في الشعر الفارسي خاصة، وقد تحققت منه مما كنت أرجحه ترجيحا عن خطأ الترجمات الأوروبية لشعر الخيام وغيره من شعراء الفرس المترجمين، فإذا هي في الواقع محشوة بالأغاليط؛ عن جهل باللغة تارة، وعن رغبة من المترجمين في التزويق تارة أخرى.

وكان للرجل فضل في تمكننا من حضور ليلة عاشوراء بالتكية الفارسية، ولم يكن ذلك ميسورا لكل راغب فيه، فلم يكن في التكية ليلة شهدنا الحفلة أحد من المصريين غير «حسين رشدي باشا» وثلاثة من الزملاء والأدباء هم: الأستاذ «المازني»، والأستاذ «علي شوقي»، والأستاذ «عبد الرحمن البرقوقي» - رحمه الله.

على أنني مدين له بالفضل في الوقوف على أسرار مسألة من أخطر مسائل السياسة الشرقية في أيامها، وهي مسألة المطبعة العثمانية التي يتوقف على العلم بها تقدير أناس يحسبون الآن من أبطال الحرية والدعوة الوطنية.

فقد كنت أرى الرجل كلما زرته في مكتبه شديد الحذر على أوراق صحيفته، وعلى أسماء المشتركين فيها من المقيمين في إيران وروسيا على الخصوص.

Shafi da ba'a sani ba