وتآلفت بسرعة مع هذه العيون، وكان بينهم فتاة اسمها «ماني» شعرها أسود قصير وعيناها سوداوان لامعتان، ووجدتني أشاركهم الحديث وكانوا - لحسن الحظ - يلمون بشيء من الإنجليزية، وكنت أنا قد تعرفت على بعض الكلمات الفارسية، ودار بيننا حوار وعرفت منهم الطريق إلى إيران الحقيقية والشعب الإيراني الحقيقي، وعرفت أيضا كيفية الوصول إلى أديب إيران الأول الذي يتلقف الناس كتبه ويحفظون كلماته وينتظرون مؤلفاته الجديدة.
رغم كل ذلك استطعت أن أجد طريقا للهروب، وكان ذلك هو طريق الأدب. والأدب في حياتي ليس كالأدب في حياة الأدباء الشرعيين الذين يمارسون الكتابة والذين يتقاضون رواتب ويأكلون ويشربون ويسافرون إلى الخارج من أجل أن يكتبوا أدبا، لكن الأدب في حياتي شيء غير رسمي، شيء غير معترف به وسط الأطباء كالطفل اللقيط، أمارسه في الليل بعد أن أنتهي من مهامي الرسمية كما يمارس الحب الآثم. أنفس به عن نفسي من وطأة حياتي الشرعية التي تموج في جو مشبع بالأمراض والجراثيم.
وهكذا وجدتني فجأة أجمع أقلامي وكتبي وكراريسي وأغادر قاعة المحاضرات في هدوء شديد، وخرجت إلى فناء الجامعة. كانت شمس نوفمبر دافئة رقيقة، والشباب الإيراني الجامعي ينتشر في الفناء، وجوه لا تختلف كثيرا عن وجوهنا، الملامح الشرقية بارزة في الوجه ومدببة، فيها خشونة ورجولة شرقية تتناقض مع الشعر الطويل المسدل فوق الرقبة وأمام الأذنين، والفتيات بشرتهن القمحية الفاتحة وعيونهن الواسعة كعيون المها تتعثر فيها نظرات وجلة خجلة لم تتحرر بعد من عقدة الأنثى الأمة، رغم المساحيق الأمريكية التي تظلل الجفون والرموش ورغم الميني جيب «التي تكشف عن أفخاذ شرقية ممتلئة حياء وخفرا».
وفي وسط الفناء حديقة جميلة منسقة تتوسطها نافورة تملأ حوضا واسعا يشبه حمام السباحة يعكس الشمس الذهبية، ويجلس من حوله الشباب والشابات يتهامسن ويتناجين، والعيون تبرق متأججة بعنفوان الحب والرغبة، لكن التقاليد لا تزال تمنع العناق والقبل أمام الآخرين. وفي مواجهة هذه الحديقة الحالمة جامع رصين ضخم البناء حليت جوانبه البيضاء بآيات من القرآن، ومن مئذنته الكروية ينبعث صوت عربي يؤذن لصلاة الظهر محييا على الفلاح ومصليا على النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
وعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين.
وكان الطريق إليه طويلا وعرا، فهو لا يعيش في قلب طهران العاصمة ككل المشهورين، وإنما يعيش في منطقة بعيدة شمال طهران اسمها شميران، والطريق إليه صاعد الجبل، وعلى جانبيه أشجار عالية وقنوات تجري فيها مياه المطر، والمياه الذائبة الهابطة من فوق والثلج الأبيض يغطي القمة العالية تشق السماء وتنعكس عليها أشعة الشمس الذهبية.
وصعدت بي السيارة إلى شارع ضيق ثم دخلت في زقاق، ووقفت أمام بيت صغير قديم ظهر منه شاب أشيب ملامحه مألوفة كأنما رأيته من قبل، تماما كما يحدث لي في كل مرة حين ألتقي بإنسان من هذا النوع، يرتدي ملابس بسيطة، وبيته من الخارج والداخل بسيط، وعربته الصغيرة تسد مدخل البيت الضيق، عربة قديمة يشك الناظر إليها في قدرتها على الحركة، وربما هي أول عربة قديمة أراها في طهران حيث العربات الأمريكية الجديدة تزحم الشوارع والميادين.
هذا النوع من الناس تألفه من أول لقاء، وتلك الهالة غير المرئية تحيط بأجسام بعض الناس؛ وهبوا طاقة لها إشعاع غير عادي، ربما في العقل، أو في النفس، أو في شيء ما عميق داخلهم نحسه نحن الغرباء عنهم بشيء ما داخلنا عميق ومجهول أيضا.
اسمه جلال آل أحمد، يعرفه الناس في إيران ويقرءون كتبه، لكن حكومة الشاه تصادر الكتب، وتمنع نشر مخطوطاته الجديدة، فيهرب بها تلاميذه وقراؤه إلى خارج إيران، ويطبعونها في بلاد أخرى، ثم يوزعونها سرا في إيران.
Shafi da ba'a sani ba