وكان لا بد من قضاء يوم كامل بمتحف «الهيرميتاج»، ولا يمكن أن ترى لوحات الهيرميتاج في يوم واحد، ولكن يمكنك أن ترى كل لوحات الهيرميتاج في ثمانين عاما إذا ما دخلت المتحف كل يوم بانتظام ولمدة سبع ساعات في اليوم الواحد، حينئذ فقط تستطيع أن ترى كل لوحات المتحف لو وقفت أمام كل لوحة دقيقة واحدة، فكم عدد اللوحات؟
ولم أحاول أن أبدأ بالتجربة، فقد وقفت ساعة كاملة أتأمل تمثال «الولد المنحني» لمايكل أنجلو، وساعة أخرى أمام لوحة حب الأب: لوحة غريبة، فتاة ترضع أباها؛ كان أبوها مسجونا وذهبت لتزوره في زنزانته. لم تستطع أن تأخذ له طعاما، وأشفقت الابنة على أبيها من شدة الجوع ولم تجد أمامها إلا لبن ثدييها فأرضعته.
واحتدم النقاش بين النساء حول اللوحة، أليس هذا حراما؟ وما هو الحرام؟! حبس الأب حتى الموت جوعا؟! أم إرضاع الابنة لأبيها! ولماذا لا يتحول الأب إلى ابن إذا دعت الظروف؟!
ولم أشهد احتفالا كهذا الاحتفال، حديقة القصر الصيفي في ليننجرد تحولت صباح يوم 22 يونيو إلى كرنفال، والقصر الصيفي - متحف الآن - أحد قصور قيصر روسيا قبل الثورة، وقد رأيت قصورا في مختلف بلاد العالم، ولكن ما إن دخلت قصر قيصر روسيا حتى أيقنت السبب وراء الثورة الاشتراكية في روسيا.
حديقة القصر بدت لي كالحلم، أشجار وخضرة وزهور ورياحين وأعناب تجري من تحتها الجداول والنهيرات، تماثيل من الذهب. قباب ذهبية تنبثق من قممها المدببة نافورات مياه لا يمكن عدها ولا يمكن معرفة ارتفاع مياهها. مسرح من الرخام وسط النافورات ترقص عليه فوقة باليه ليننجراد رقصة بحيرة البجع. راقصات الباليه بملابسهن البيضاء يرقصن بين نافورات المياه كحوريات الجنة أو جنيات في الأساطير والحكايات. تمثال شمشون في أحد أركان الحديقة ومن حوله نافورات. وتمثال آدم والتفاحة ومن عرائس الجنة. آلاف من الرجال والنساء والأطفال جاءوا من كل انحاء الاتحاد السوفييتي ومن كل بلاد العالم لمشاهدة كرنفال الليلة البيضاء في ليننجراد، يحملون الزهور ويرقصون على نغمات الموسيقى تنبعث من كل أرجاء الحديقة، ووجوه تتألق بالحيوية وتنقل عدوى الحيوية إلى كل من ينظر إليها، وأتلفت حولي في دهشة: أحلم هذا أم علم! ولا أحاول أن أعرف الجواب فقد اندفعت مع الراقصين على الأنغام.
السفينة اسمها «ترجنيف»؛ باسم الكاتب الروسي المعروف، والنهر هو الفولجا أشهر أنهار الاتحاد السوفييتي، يسمونه نهر الثورة والحب والألحان؛ فهذا النهر يشق الجمهورية التتارية حيث نشأ لينين، وكانت أسرة لينين تعيش في تلك المدينة التتارية الصغيرة على نهر الفولجا، والتي سميت الآن باسم أسرته «أوليانوس».
وحينما وصلت السفينة إلى «أوليانوس» كان نهر الفولجا قد اتسع فلم نعد نرى الضفة الأخرى، وقالوا: إن اتساعه في هذه المنطقة أربعون كيلومترا، وكان المطر ينهمر بشدة، وتغير الجو فجأة فأصبح باردا شديد البرودة، ورغم ذلك رأينا أهل أوليانوس ينتظروننا على شاطئ النهر يحملون الشماسي والزهور، والموسيقى تعزف الأناشيد.
ونزل موكب النساء من السفينة وانهالت علينا الزهور والورود والتحيات والقبلات . لم أكن أتصور أن الشعب السوفييتي ينطوي على هذه الحرارة والعواطف، أو أن النساء لهن كل هذه المنزلة عند أهل التتار.
وكما يحدث في كل استقبال ذهبنا إلى حيث الموائد، وطارت سدادات الشمبانيا مفرقعة في الهواء، وأكلت النساء الكافيار والسمك واللحوم، وشرب الجميع نخب الصداقة والحرية والسلام، ثم ارتفعت الكئوس مرة أخرى وشرب الجميع نخب رئيس الطباخين الذين صنع مع زملائه الطباخين الأطعمة التي أكلناها، «يونس أحمد» وهذا هو اسم رئيس الطباخين (أهل التتار مسلمون وأسماؤهم عربية)، رفع كأسه ورد على التحية بكلمة شكر، ثم جلس إلى مائدته بجوار نائبة رئيس الوزراء التتارية والوزراء وأعضاء الحزب، وبعد الطعام وقف الجميع وأنشدوا أنشودة الوطن، ثم بدأت الموسيقى تعزف الألحان الراقصة، وانخرط الجميع في الرقص والغناء، رأيت نائبة رئيس الوزراء تعزف على البيانو، ووزيرة التضامن الاجتماعي ترقص، ووزير التعليم يشترك في حلقة الرقص مع النساء، ولا شيء يبدو غير طبيعي، ولا أحد يبدو أنه يختلف عن الآخرين، الكل مرح وعلى الوجوه تعبير بالاطمئنان.
ثم سرنا في شارع «أوليانوس» حتى دخلنا بيتا صغيرا من الخشب، وجعلونا نرتدي فوق أحذيتنا أحذية خفيفة مصنوعة من القماش. وهذا نظام يتبع قبل دخول أي متحف للمحافظة على الأرض من ملايين الكعوب المدببة وغير المدببة التي تفد من أنحاء العالم، وبيت لينين في أوليانوس أصبح متحفا يزوره كل يوم آلاف السياح، وصعدت السلم الخشبي الصغير الذي يقود إلى حجرة نوم لينين، حجرة صغيرة بغير باب يفصلها عن السلم، وسرير معدني صغير إلى جواره منضدة عليها كتب محفوظة وراء الزجاج، وقرأت عناوين الكتب: رأس المال لماركس، تاريخ الماركسية في روسيا لباروفسكي، أصل العائلة لفرديك إنجلز، وكتب أخرى في القانون والاقتصاد والفلسفة، ولمبة جاز فوق المنضدة لها سلك كهربي، تعمل بالكهرباء، وإذا انقطعت الكهرباء تعمل بالجاز. وبعد حجرة لينين حجرة أخيه ألكسندر الذي أعدم شنقا وهو في الحادية والعشرين من عمره؛ لاشتراكه في مؤامرة لقتل القيصر، وحجرة أمه والبيانو كانت تعزف عليه لأطفالها الستة، وحجرة أخته «أنا» التي حبست ونفيت ، الكرة الأرضية «اللعبة» التي كانت تلعب بها أختاه الصغيرتان.
Shafi da ba'a sani ba