ونظرت إلي وقالت: هل وجدت تناقضا بين شخصيتي التي عرفتها في المؤتمر وبين حياتي الخاصة؟ إننا هنا نفصل بين العمل وبين الحياة الخاصة. في ساعات العمل أنا أعطي كل نفسي للعمل، وفي ساعات الراحة والاستمتاع بالحياة أعطي كل نفسي للراحة والاستمتاع بالحياة. أما مسألة الزواج فهذا شيء لا أحدده وحدي وإنما يحدده معي الرجل. والآن دعيني أسألك سؤالا صريحا، ماذا تفعلين لو أحببت رجلا ثم رفض الزواج منك؟ ألا يحدث ذلك أحيانا عندكم؟ - يحدث كثيرا. - وماذا تفعل المرأة عندكم في هذه الحالة؟ - هذا موضوع يطول شرحه. ولكن هذه الحرية موجودة في كل البلاد الاسكندنافية؟ - بالطبع، ولكني أعتقد أن المرأة الفنلندية أكثر تقدما من غيرها، وربما يكون هذا تحضرا، ولكن التاريخ يثبت ذلك؛ فقد كانت المرأة الفنلندية أول امرأة في أوروبا تحصل على حقوقها السياسية، وكان ذلك في سنة 1906.
كان اسمها «ناتاشا»، وهي عضو في جمعية الصداقة العربية الفنلندية، دعتني إليها، والتقيت هناك برجل فنلندي طويل ضخم اسمه أرماس صالنن، وهو رئيس الجمعية وصديق العرب، يتكلم اللغة العربية الفصحى، ويقول إنها أصعب لغة في العالم، ومن بعدها تأتي اللغة اليونانية الفصحى، ثم اللغة الهندية القديمة، وأسهل لغة في رأيه هي اللغة التركية.
وفي الليلة الأخيرة في هلسنكي لم أنم، ظللت أطل على الكون من نافذة غرفتي، الضوء ينتشر في الغرفة طول الليل كضوء النهار.
قبل الفجر أعددت حقيبتي، سأغادر بعد ساعة فنلندة مع مجموعة من النساء، في أول رحلة لي للاتحاد السوفييتي كان المفروض أن أعود إلى القاهرة بعد انتهاء مؤتمر هلسنكي، لكن فالنتينا رائدة الفضاء دعتني لزيارة بلدها، ولم أكن رأيت روسيا من قبل إلا في الروايات وأفلام السينما، وفي ذهني للاتحاد السوفييتي صور متناقضة، بعضها مشرق كضوء الشمس، وبعضها غامض مظلم كالوجه الآخر من القمر.
سمعت كلمة «الاشتراكية» لأول مرة من أبي وأنا في العاشرة من عمري، وحين دخلت المدرسة الثانوية التقيت بفتاة سمراء نحيلة اسمها «سعاد» ناولتني جريدة اسمها «الجماهير»، وفي كلية الطب التقيت بطالب اسمه «يسري» ناولني جريدة اسمها «الجميع»، وكان الطلبة يطلقون على «يسري» اسم «الطالب الأحمر ».
وقبل أن أتخرج في كلية الطب قرأت تولستوي ودوستويفسكي وماركس وإنجلز ولينين وكروبسكايا وبوشكين وجوركي وترجنيف.
وكان دوستويفسكي أقرب إلي من تولستوي، وفردريك إنجلز وكروبسكايا أقرب إلي من كارل ماركس ولينين.
ومن شرفتي ظللت أطل على الليلة الأخيرة البيضاء وهي تنتهي، دهشتي لا تزال كأول ليلة في فنلندة، والليل الأبيض ينحسر عن نهار أبيض ولا أكاد أعرف الليل من النهار إلا بحركة السيارات وظهور الناس في الشارع.
وفي خيالي صورة للاتحاد السوفييتي مضيئة وبيضاء كليالي الصيف في فنلندة. لكنها أيضا كالليل الصامت لا تزال غارقة في السكون الغامض.
الفصل الخامس
Shafi da ba'a sani ba