وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم. «أسماء» إلى جواري قابعة عند فوهة المغارة، سلاحها في يدها، وعيناها تخترقان الأرض والسماء حتى رام الله، الأرض التي ولدت عليها ورأت أباها يذبح أمام عينيها، وفي الليل تسللت وفوق صدرها قنبلة، ألقتها على ثلاثة من جنود إسرائيل، مات اثنان وجرح الثالث، وعادت إلى بيتها، وفي يوم آخر حملت قنبلة أخرى وألقت بها على سينما صهيون، وفي المرة الثالثة أمسكوها وهي تحمل المتفجرات فحبسوها وعذبوها لتعترف بأسماء زملائها ولم تعترف، اعتدوا عليها جنسيا حتى أغمى عليها ولم تعترف، أطفئوا في جسدها السجائر وخلعوا أظافرها وظلت مطبقة بأسنانها على شفتيها دون أن تنطق، ولما يئسوا منها ألقوا بها على الجسر وسارت حافية على الضفة الشرقية، دخلت المستشفى في السلط ثم خرجت بعد ثلاثة شهور وعلى جسدها آثار جروح وفي يدها سلاح جديد، قابعة عند فوهة المغارة، وعيناها على الضفة الغربية، وأذناها مرهفتان لصوت المدافع، تعرف نوع المدفع من صوته، وتعرف أيضا من أي مسافة يضرب: هذه ضربة مدفع ماية وخمسين من مسافة خمستاشر كيلومتر.
وعلى باب المغارة رأيتها جالسة، «أم يوسف» برأسها المربوط بالمنديل الأبيض، وبشرتها المحروقة بالشمس كعمتي بهية، عيناها شاخصتان نحو الضفة، عيناها واسعتان غائرتان تغطيهما طبقة متجمدة من الدمع وتحت حاجبها الأيسر ندبة، جفناها مفتوحتان لا ترمشان، والمدافع تدوي، والسماء تمتزج في كتلة نار واحدة يلفها الغبار.
ظلت جالسة تنتظر، ثم رأيتها تنتفض واقفة ثم تجري بلا توقف حتى تصل إلى حافة النهر، ظلت واقفة على الحافة تروح وتجيء في قلق كأم ضاع منها طفلها الوحيد، ثم رأيت النهر ينشق فجأة عن ثلاثة من الشباب يحملون شابا جريحا، اندفعت نحوهم تحمل معهم الجريح، وبأربطة الشاش والقطن ضمدت الجروح، ثم حملته معهم إلى السيارة الجيب التي انطلقت كالسهم إلى المستشفى السلط، وفي المستشفى رأيتها تمر على المصابين واحدا واحدا تفك الرباط المتسخ وتضع الرباط النظيف، سمعتهم ينادونها «أمنا» كما ينادون الأرض والوطن، وهي تناديهم «أطفالي» كما تنادي الأرض نبتها الأخضر. لم تتزوج ولم يكن لها بيت ولا رجل، لكن البيوت كلها بيتها، والرجال كلها رجالها، والنساء نساؤها، والشباب شبابها، واسمها الأصلي «أم يوسف» وفي ذاكرتها من ثلاثين عاما قصة حب كبير، وطفل اسمه يوسف لا تذكر إلا اسمه، كأنه مجرد خيال وحلم، أو جنين لم تلده أبدا، أو ولدته وضاع في الضفة.
كانت عربة الإسعاف قد حملت الجريح من جوار النهر وانطلقت بنا في الأغوار تشق طريقها نحو السلط حينما رأيت شبحا يجري خلفنا وكأنما انشقت عنه الأرض، واتضح لي بعد لحظات أنه امرأة تجري وراء العربة، وطلبت من السائق أن يتوقف، فاندفعت المرأة نحو العربة دون أن تحدثنا أو تلتفت إلينا، ونظرت متفرسة في وجه الجريح ثم بأصابعها النحيلة راحت تقلب في يديه وقدميه، وأمسكها الفدائي برفق وأبعدها عن الجريح، وهمس في أذني بصوت حزين: إنها لا تسمع أحدا ولا ترد على أحد، بالنهار تتجول بين الخيام تتلفت حولها، وفي الليل نرى جسمها مرتخيا ممدودا بحذاء النهر، وحينما تلمح جريحا أو غريقا تهب واقفة وتجري إليه، تفتش في ملامحه وفي يديه وقدميه كأنما تبحث عن شخص تعرفه.
رأيت هذه المرأة كثيرا خلال الفترة التي عشتها في السلط. كانت تندفع أحيانا وراء عربة الإسعاف، وفي أحيان أراها راكعة بين الصخور في الأغوار تنبش الأرض وتأكل التراب، والتقيت بها مرة وهي تتجول بين الخيام وجها لوجه، ورفعت إلي عينين واسعتين تغطيهما طبقة متجمدة من الدمع، وجرح عميق تحت العين كالندبة. تشبه «أم يوسف» لكنها لم تكن أم يوسف، وتشبه عمتي بهية لكنها ليست عمتي بهية، ملامح وجهها مؤكدة لكن جسدها يذوب في الضوء مع العناصر الأخرى فيما يشبه الضياع، ولا أحد يعرف اسمها الحقيقي، وينادونها «عين الحياة».
وحين عدت إلى مصر ظلت هذه المرأة تلوح لي في منامي بعينيها الغائرتين، تؤرقني وتوقظني من عز النوم، وفي ليلة مؤرقة أمسكت القلم ورسمتها فوق الورق على شكل قصة اسمها «عين الحياة».
الفصل الرابع
مؤتمر النساء في هلسنكي
كانت هي أول رحلة إلى تلك المنطقة الباردة القريبة من القطب الشمالي، والتي يطلق عليها اسم البلاد الاسكندنافية، تلك البلاد المحصورة بين المعسكرين الكبيرين: الشرقي والغربي، تفصل بينهما كحاجز من مادة عازلة لا توصل الحرارة، باردة وهادئة وساكنة كنقطة في حبل طرفاه مشدودان بقوتين متعادلتين.
هذا السكون هو الصفة الغالبة على تلك البلاد وأهلها، حتى الطبيعة تبدو ساكنة؛ فلا الليل يعقب النهار ولا النهار ينتهي بقدوم الليل، وإنما تظل الشمس في السماء ساكنة بغير حراك لا تغرب لا تسقط وراء الأفق، ويظل لون شفقها الأحمر ثابتا في السماء، ويكاد يختلط الأمر على العين فلا تكاد تعرف أهي سماء حقيقية أم لوحة لفنان.
Shafi da ba'a sani ba