ماريون توزع علينا منشورات طويلة صفراء، صورة لطفلة في فيتنام احترق وجهها بالنابالم، وصورة أخرى لجندي أمريكي يرقد على الأرض بذراع واحدة والدم يسيل من رأسه، وجندي فيتنامي يحاول أن يحمله.
الشوارع امتلأت بالشباب والرجال والنساء، أمهات يدفعن بعربات الأطفال أمامهن ويحملن اللافتات ويهتفن: نريد السلام لا الحرية، مظاهرة من النساء والرجال العجائز يحملون لافتة كبيرة كتب عليها : أعيدوا أبناءنا من فيتنام!
ميدان كولومبس الفسيح يرتج تحت أصوات الهتاف، شمس مارس تتألق في السماء مع بشائر الربيع الأولى، الحماس يسري في كياني كالدم الساخن، أصوات الهتاف ترن في أذني مألوفة كهتافات الطلبة في الوطن، والوجوه تشبه وجوه الناس من أهلي: بيضاء وسوداء وسمراء، كلها متشابهة، متلاصقة في جسد بشري واحد، وأنا جزء من هذا الجسد، أنفاسهم من أنفاسي، وحرارتهم من حرارتي، والذوبان النهائي آخر قطرة من قطرات الغربة أو الوحشة في دمي. •••
في اليوم الأخير من العام الدراسي وزعوا علينا الشهادات في حفل كبير، الدكتور «تراسل» يقف بملامح الأب وسط الأساتذة، يقدم لي شهادة التفوق مكتوبة على الورق المصقول، وشهادة أخرى غير مكتوبة على الورق، ترن في الجو بصوته الهادئ، وتنحفر الكلمات في ذهني، تصبح جزءا مني، وتظل حية كخلايا المخ.
في قاع مكتبي رقدت الشهادات المكتوبة على الورق عشرين عاما، أصبح الورق باليا والحروف بليت وأكلها الزمن والعتة، لكن الشهادات غير المكتوبة ظلت حية في خلايا المخ، تعيش معي وتموت معي، ولا زلت أذكر عبارة قالتها لي مدرسة الطبيعة في المدرسة الابتدائية عام 1942، أذكر الحروف حرفا حرفا، وحركة الشفتين وهي تنطق الكلمات، وحركة «النني» في العينين، وصوتها يلامس أذني ثم يسري في القنوات العميقة داخل الرأس، ويمشي في الخلايا دافئا متدفقا كشحنة من الدم الجديد. •••
عينا ماريون الزرقاوان فيهما دموع، تلوح لي بيدها من وراء الزجاج، ثم تذوب في الجو، عيناي تتسعان بالدهشة، وزجاج النافذة تكسوه عتامة وقطرات ماء دقيقة كرذاذ المطر.
تسقط قطرة على ظهر يدي ساخنة، وأدرك أنها دموع، وأن قلبي ثقيل.
لكن الصوت ينبعث فجأة من سقف الطائرة معلنا الإقلاع خلال دقائق إلى «القاهرة»، ترن كلمة «القاهرة» فجأة، وتحدث من حول رأسي انتفاضة في الهواء كالمس الكهربي، ويلوح لي الوجهان تحت الضوء في بيتنا الصغير أول شارع الهرم، والشجرة الخضراء تطل من السور أمام البيت، وعم أحمد البواب جالس على الدكة، وكشك الصحف على ناصية الشارع، وبائع الفول يدس المغرفة الطويلة داخل الفوهة يتصاعد منها البخار، وبائع الروبابيكيا يدفع بالعربة أمامه ورأسه إلى أعلى مناديا بصوت حاد: بيكيا!
يزحف الحنين على جسدي كقشعريرة برد، انتفاضة تشملني من رأسي لقدمي كرجفة بدايات الحمى، وعيناي تدوران من حولي تفتشان عن الملامح الأليفة، وأذناي تتشممان اللهجة والصوت، وحنين جارف كالمرض الكامن ينفجر فجأة، فإذا بي أشتاق لكل شيء وأي شيء، حتى ذرات الغبار السابحة في الهواء تحت شعاع الشمس، ورائحة المجاري تحملها نسمة الربيع في أول الصباح. •••
عيناي تسبقان العجلات السريعة فوق الأرض، وخفقات قلبي تطغى على كل الأصوات، أخترق الزجاج لأطل على الرءوس الكثيرة في شرفة المطار، وجوه كثيرة غريبة وعيناي تقفزان من وجه إلى وجه، تبحثان عن العلامات المميزة: الوجه النحيل والعينان السوداوان العميقتان، الوجه الصغير المستدير تتوسطه العينان العسليتان.
Shafi da ba'a sani ba