وقلت لنفسي: أي امتهان لشخصية المرأة!
لكن ذلك كان في نهاية عام 1965، ولم تكن حركات تحرير المرأة قد سمع بها أحد في أمريكا بعد، ولم يخطر ببالي حينئذ أنه لن تمر سنوات قليلة حتى تخرج النساء الأمريكيات إلى الشوارع في مظاهرات ضد سيادة الرجل، وضد القوانين التي تجعل المرأة أقل من الرجل، ومنها القانون الذي يفرض على الزوجة أن تحمل اسم زوجها، وامتدت الثورة النسائية أيضا لتشمل إلقاء مساحيق الوجه في صناديق القمامة، ومشدات الصدر وغيرها من أدوات الزينة رموز القهر الجنسي للمرأة. •••
عدت إلى الكلية بعد أربعة أيام، وانتشر الخبر في الجامعة، وبدأ الأساتذة والزملاء والزميلات يفدون إلى بيتي للتهنئة، وكل يحمل هدية للطفل، إحدى الهدايا كانت عربة صغيرة لها كبوت أحمر جميل، وفي الأيام الدافئة حين تسطع الشمس أخرج إلى المنتزه على شاطئ نهر هدسون، أدفع بالعربة أمامي، ومن تحت الكبوت الأحمر يطل وجهه الصغير، تتوسطه المقلتان السوداوان اللامعتان، تتسعان بالدهشة لأي صوت وحركة، وتنفرج الشفتان الصغيرتان عن ابتسامة سعيدة. وقد يضحك بصوت عال كزقزقة عصفور، وتتوقف النساء وهن سائرات ليحملقن في العينين السوداوين ذات البريق، وتنطلق الأصوات هاتفة: كيوت! كم هو طفل جميل!
وتتسع عيناه بالدهشة، وعيناي أيضا تتسعان، النساء في بلادنا لا يتوقفن في الطريق، ولا يظهرن إعجابهن بالطفل مهما كان جميلا، بل تهتف الواحدة منهن قائلة: كم هو طفل قبيح! وتبتسم الأم في سعادة وقد اطمأنت إلى أن العين لم تحسده.
كان طفلا وديعا هادئا، ينام طول النهار والليل، ولا يصحو إلا للرضاعة، وكنت أتركه بعد رضعة الصباح نائما وأذهب إلى الكلية المسافة بين البيت والكلية سبع دقائق سيرا على الأقدام بالخطوة السريعة، وأعود إلى البيت جريا كل ثلاث ساعات لأرضعه.
وفي أيام الإجازات تساعدني ماريون في تنظيف البيت وغسل ملابس الطفل وشراء لوازم البيت، وفي نهاية كل أسبوع تلتقط له صورة ملونة، أرسلها بالبريد إلى زوجي وابنتي.
وأصبح رفيقي يؤنسني بالنهار بضحكاته المرحة كالشهقات المتقطعة، وحركة يديه وهو يهز الكرات الملونة المثبتة أمام مقعده، وأصابعه الصغيرة حين تلامس أصبعي تلتف حوله بقوة لا تريد أن تتركه.
وفي ظلمة الليل الموحش بالغربة، وصفير الرياح من المحيط، وهدير المطر فوق زجاج ناطحات السحب، وصرير الأعمدة السوداء الضخمة فوق الكباري الحديدية، في ظلمة الليل في قلب تلك المدينة الأمريكية الضخمة على بعد آلاف الأميال عن الأهل والوطن، أفتح عيني في الظلام وأنا راقدة تحت الغطاء، أطرافي باردة بالغربة، وقلبي ثقيل بالوحدة والوحشة.
وأرفع رأسي من فوق الوسادة فأراه نائما في سريره الصغير، بشرته من لون بشرتي، وملامحه تشبه ملامحي، وأنفاسه ساخنة لها رائحة الأهل والوطن.
أحوطه بذراعي، وأغمض عيني لأحس الدفء يسري في أطرافي، والريح تكف عن الصفير، والليل لا يعود غريبا ولا موحشا، وأنام حتى أصحو على صوته في الصباح، عصفور يغرد، يحرك ذراعيه وقدميه في الهواء، يحاول أن يرفع رأسه ويطل علي من بين أعمدة السرير الملونة.
Shafi da ba'a sani ba