ولم يكن في إمكاني التنزه على شاطئ النيل دون أن يتبعني رجل يهمس بصوت قبيح كالفحيح، أو يرفع يده ويلمس ذراعي أو صدري حين يكون الطريق خاليا من المارة.
ولم أعد أجلس في المقاهي أو أتنزه على الشاطئ، وأدركت أن المرأة ليس لها مكان للنزهة في بلادنا إلا إذا سار إلى جوارها زوج أو أخ أو أي رجل آخر.
إن وجود الرجل الآخر إلى جوارها يعني على الفور أنها ليست وحيدة، وأن هناك رجلا يملكها، وليس للرجال الآخرين أن يعتدوا على امرأة مملوكة لرجل آخر.
أما المرأة الوحيدة فهي غير مملوكة لأحد؛ وبالتالي تصبح في نظر الرجال ملكية عامة وليست ملكية خاصة، والاعتداء عليها غير ممنوع، سواء بالنظر أو اللمس.
اختفت الشمس وراء سحابة رمادية، وهب هواء بارد. لا زال أمامي ساعة، ويمكنني السير حتى محطة المترو، معي حقيبة صغيرة أجرها خلفي على عجلتين. لا أحمل معي ملابس كثيرة في السفر، أغسل ملابسي بيدي، وأعلقها في الحمام على الشماعات، وفي الصباح أجدها جافة.
ظهرت الشمس مرة أخرى، وامتلأ الكون بالدفء وتلاشى اللون الرمادي، سرت بحذاء سور حديقة اللوكسمبورج، ولم أهبط إلى محطة المترو. لا زلت راغبة في السير. وقد أسير حتى ميدان «البورت مايو» وآخذ الأتوبيس من هناك للمطار، السير في شوارع باريس له متعة، لكن هل يكفي الوقت؟ ونظرت في ساعتي وجدتها متوقفة.
وسألت فتاة من المارة: «كم الساعة الآن؟» كانت تسير بخطوات مسرعة، وتعلق على كتفها حقيبة جلدية تطل منها بعض الكتب والكشاكيل، طويلة نحيلة، ترتدي حذاء كاوتش وبنطلونا أسود وسترة صوفية بيضاء، توقفت عن السير ونظرت في ساعتها بسرعة ثم قالت: الساعة الرابعة إلا ربعا. وقلت: أشكرك.
رفعت وجهها نحوي ورأيت الزرقة اللامعة في عينيها، شاهدتها تبتسم وتنظر إلي ثم سمعتها تقول قبل أن تمضي في طريقها بسرعة: «فوزت بيل مدام» (أنت جميلة يا سيدتي).
قبل أن تدرك أذناي كلماتها كانت هي قد اختفت، واستدرت ورائي، فلم أر إلا ظهرها وهي تسير بسرعة ونشاط، ظهر مستقيم داخل السترة الصوفية البيضاء وجسم ممشوق وخطوات خفيفة سريعة فوق الأرض.
وظل صدى صوتها في أذني: أنت جميلة يا سيدتي. وفي الأتوبيس إلى المطار ظل الصوت، وعادت إلي صورتها، الزرقة اللامعة في عينيها وهي تبتسم، ظهرها المستقيم وخطواتها السريعة النشطة، صوتها والحروف كما نطقتها الحرف وراء الحرف «أنت جميلة يا سيدتي»، وحركة شفتيها السريعة النشطة كحركة قدميها فوق الأرض.
Shafi da ba'a sani ba