وفي حفلات الكوكتيل تراهم يدورون حول النقطة التي يقف فيها المدير، يلفون حوله من كل النواحي حتى تلتقي عيناه بعيونهم ويدرك وجودهم، فإذا بالشفاه تنفرج عن الابتسامة العريضة، ويبدو الواحد منهم منفرج الأسارير مستريح البال وكأنه وقع باسمه في سجل التشريفات أو في دفتر الحضور والانصراف.
وكان غيابي عن هذه الحفلات يسجل ضدي في التقارير السرية، وفي يوم سألني المدير لماذا لا أحضر الحفلات؛ فالحفلات في الأمم المتحدة جزء من العمل، واندهشت لكن الجميع أيدوا كلام المدير واعتبروا غيابي عن الحفلات نوعا من التقصير.
ولم يكن في مدينة أديس أبابا الكثير، مدينة تحاصرها الجبال، وقوات معادية من الشمال والجنوب، ولا شيء يبدد سكون النهار إلا رذاذ المطر أو انهمار السيول أو صوت العربات الكبيرة تحمل الموظفين من أديس أبابا إلى القرى للاشتراك في جمع المحاصيل، وتعود السيارات محملة بالفلاحين ليجندوا في الحرب، أو يعملوا مع فرق الشعب المسلح لحماية المدينة أو تنظيم طوابير السيارات أمام محطات البنزين كطوابير الناس أمام المخابز في بلادنا ودجاج الجمعيات التعاونية.
وفي الليل لا يقطع الصمت إلا طلقات الرصاص أو دقات الطبول، تذكرني بدقات الطبول في قريتي كفر طحلة، الطريقة نفسها واللحن نفسه، وإيقاع الأقدام الراقصة فوق الأرض الحبشية هو نفسه الإيقاع في وادي النيل، يصل الصوت إلى أذني وأنا نائمة في سريري، ويخيل إلي أنني ولدت هنا منذ زمان بعيد، وأمام بيتي مبنى أبيض صغير له فناء كبير، يتجمع فيه الرجال والنساء والأطفال، يدقون الطبول ويرقصون طول الليل ويغنون وفي الفجر يختفون، إلا إذا كان هناك مسيرة شعبية أو مهرجان، فإذا بالشوارع كلها تمتلئ بالبشر آلاف وآلاف يحملون الرايات والأعلام، ويهتفون باللغة الأمهرية: تحيا العدالة والمساواة، تحيا الحرية وكرامة الإنسان، تسقط أمريكا وإسرائيل، بعض الشباب يحملون لافتة كبيرة كتب عليها: نؤيد القضية الفلسطينية.
وجوه الشباب الحبشي كوجوه المصريين، سمراء دقيقة الملامح، وصوتهم وهم يهتفون بالأمهرية كالأصوات العربية، وحين تلتقط أذني كلمة «فلسطين» أحس الدقات تحت ضلوعي، ودموع أبتلعها في الصدر، والجرح عميق، الحاكم في بلادنا يعادي الواقفين معنا على طول الخط، ويصادق الطاعنين لنا في الصدر وفي الظهر.
أصوات الفتيات الحبشيات كالغناء وهن يهتفن في نفس واحد: فلسطين، يتقدمن على دقات الطبول، والفتيان أيضا يهتفون، تمسك الفتاة بيد الفتى ويتقدمان، الصفوف وراء الصفوف رجال ونساء وأطفال، لا حاجز بينهم ولا حجاب، والفتاة ترفع رأسها إلى أعلى في شموخ.
تذكرت الأمس القريب، حين كنت في إجازة بالقاهرة لمدة أسبوع ونظمت الحكومة مظاهرة من الموظفين تأييدا لزيارة الرئيس لإسرائيل، وصدرت الأوامر من الوزارات بخروج المظاهرة في يومين منفصلين: يوم للنساء ويوم للرجال، ورأيت الموظفات في اليوم المخصص لهن يسرن في الشوارع بكعوب عالية ورءوس منخفضة وعيون مطرقة إلى الأرض وحجاب أسود أو أبيض يغطي بعض الرءوس، وفي يوم الرجال رأيت الموظفين يسيرون في صف منتظم، أيديهم خلف ظهورهم كالمقيدين بالسلاسل، أكتافهم متلاصقة وظهورهم محنية، متشابهون كأنما تسكهم الحكومة كقطع النقود المسكوكة، وكالقرش الممسوح أصبحت ملامحهم باهتة شبه ممسوحة، ومن فوق رءوسهم تطل صورة السادات في يده العصا والصولجان، وعلى أسنانه يضغط الكلام ويمضغه كاللبان.
ميدان الثورة امتلأ بآلاف الأحباش من كل قرية ومدينة، حتى الرجال من القبائل الجبلية جاءوا على ظهور الخيول الجامحة، تطير في الجو كالطيور الجارحة، وشعورهم الطويلة الكثيفة تطير خلف ظهورهم كفرسان العصور القديمة، ملابسهم ملونة والخيول أيضا مزركشة، عيونهم حادة كالصقور، وحركتهم السريعة الخاطفة كالسهم ينطلق أو طلقة رصاص بغير صوت.
بيني وبين الملامح الجبلية قرابة دم، كأنما ولدت فوق جبل، وفي كل بلد جبلي أشعر بالحنين إلى جذوري إلى جدودي البدائيين، والطبيعة والهواء ومياه المطر تجري بحرية تشق السدود، رجل إثيوبي عجوز يستند إلى العكاكيز يتقدم وسط الفتيان والفتيات، يرفع ذراعه في الهواء ويهتف: فلسطين. يسقط العكاز من تحت إبطه، ويقع على الأرض، يرفعه الشباب إلى فوق، يضعون العكاز تحت الإبط، وينطلق الجميع في المسيرة.
منذ الطفولة وأنا أحب المسيرات الشعبية، الأصوات العالية تهتف ضد الإنجليز والملك، وفي المدرسة الابتدائية والثانوية، وفي كلية الطب بالجامعة، وفي كل مظاهرة أحمل العلم وأخرج، ومع الملايين أهتف: الحرية، الاستقلال، العدالة والمساواة.
Shafi da ba'a sani ba