Tafiya ta a Duniya

Nawal Sacdawi d. 1442 AH
166

Tafiya ta a Duniya

رحلاتي في العالم

Nau'ikan

الشمس مشرقة، برودة منعشة في الهواء، والجبال الخضراء من كل ناحية، السماء زرقاء صافية بلا غبار، ملامح الناس تشبه ملامح قدماء المصريين، الوجوه الطويلة النحيلة، العيون السوداء المسحوبة إلى أعلى، وأنف كليوباترا المرتفع الحاد، وعنق نفرتيتي فوق جسد نحيف طويل كالرمح، سمرة داكنة كتربة الحبشة وجبالها السود، يذوب سوادها تحت سيول المطر كالذهب السائل، يتدحرج من فوق القمة إلى السفح ويجري غزيرا قويا يشق الأرض ويلمع تحت أشعة الشمس كثعبان طويل من الفوسفور، يشبه نهر النيل، حفر الصحراء منذ ملايين السنين وصنع ذلك الوادي الطويل الأخضر.

هل سبح جدي «حبش» مع مياه المطر الهابطة من الجبل إلى الوادي حيث استقر في الدلتا بقرية كفر طلحة؟ وبقية أهله الأحباش بقوا فوق الجبل ولم يستعمرهم أحد واحتفظوا بملامحهم الأصلية؟ ملامح المصريين القدماء على حين فقدناها نحن المصريين؟ هل اختلط الدم المصري بالدم اليوناني والروماني والتركي والعربي والفرنسي والإنجليزي والأمريكي؟ بكل الدماء التي غزت مصر خلال القرون الماضية؟ أم أنه الجبل الشامخ المرتفع يجعل الملامح مرتفعة، والوادي المنخفض الهابط نحو البحر صنع لنا ملامح أقل حدة وأقل عنفا؟

الدماء الحبشية في جسدي تشدني نحو الجبل، وفي أعماقي عشق لقوة الجبل، وانجذاب نحو تلك الملامح الشامخة المنحوتة في صخر، وكلما نظرت في وجه طفل تذكرت طفولتي، كأنما ولدت هنا في زمن لا أدري عنه شيئا.

سرت في شارع تشرشل ثم وجدت نفسي في الميدان الكبير، يسمونه ميدان الثورة، مهرجان شعبي كبير احتفالا بالثورة، آلاف الناس تتجمع، رجال ونساء وأطفال، وجوه سمراء بلون الكاكاو، تقاطيع حادة كالسيف، جلاليب بيض وطرح بيضاء على الرأس، أياد سمراء تمسك بالأعلام الصغيرة، ألوانها ثلاثة: الأحمر والأخضر والأصفر، يغنون ويرقصون ويدقون الطبول، من فوق الرءوس ثلاثة وجوه ضخمة تتدلى كأنها من السماء، ماركس وإنجلز ولينين، صورهم الثلاثة بحجم الأهرامات معلقة في الميدان، عيون الأحباش تتطلع نحوها ولا تعرف من هؤلاء الأجانب الثلاثة، بدأت مواكب الوزراء والسفراء، ثم سيارة منجستو هايل مريام، سيارة لا ينفذ إليها الرصاص، ولا أحد يعرف في أي سيارة هو، منذ ستة شهور ضربت سيارته بالرصاص وأصبحت مخرمة كالمنخل، هكذا سمعتهم يقولون.

بالليل أصحو على صوت طلقات الرصاص. لا نكاد نعرف من يضرب من، وصديقتي الإثيوبية واسمها «ألمظ» تخشى الحديث، تتلفت حولها وتهمس بكلمات مبتورة: عندنا قرارات تفرض علينا ألا نتحدث في السياسة، وألا نزور الأجانب في بيوتهم.

سافرت معها مرة إلى مؤتمر في نيروبي، وما إن حلقت الطائرة في الجو واجتازت حدود الحبشة حتى تنهدت وتنفست ثم قالت: كرهت هيلاسلاسي مثل كل أهل الحبشة، وكنا نأمل في التغيير إلى أحسن، ولكن أصبحنا نخشى حتى الكلام، ويتحدثون عن الماركسية اللينينية بلغة لا يفهمها أحد من الشعب. أليس في تاريخنا أبطال وشخصيات وطنية مثل أحمد عرابي عندكم مثلا يعلقون صورهم في الميدان بدلا من صور ماركس وإنجلز ولينين؟ أنا مع الاشتراكية لكن ضد النقل الأعمى عن الآخرين وتجاهل تاريخنا.

وقلت لها: حدثيني عن تاريخكم، وكيف حدثت الثورة ضد الإمبراطور هيلاسلاسي؟ كل ما أعرفه أنه كان يحكم بقوة الله كالسادات عندنا فكيف نجحت الثورة ضده؟

وحكت ألمظ قصة هيلاسلاسي الإمبراطور، تشبه قصص ألف ليلة وليلة. كان هيلاسلاسي رجلا صغير الجسم نحيفا، يقل وزنه عن خمسين كيلو جراما، ومع ذلك حكم الحبشة أكثر من خمسين عاما من الحكم الديكتاتوري المطلق. كان يعتبر نفسه رئيس الكنيسة وأن الله هو الذي عينه في منصبه. لكنه لم يكن يعتمد في حكمه على الله وإنما على جهاز مخابرات مدرب في أوروبا وأمريكا، وعلى تأييد هذه الدول له، وقد استولى على الحكم عام 1916 حين دبر مؤامرة وأطاح بالإمبراطور السابق «بح ياسو».

كان من الصعب على رجل صغير الحجم أن يكون كبير الهيبة في بلاد أفريقية كالحبشة، يزهو فيها الرجال بقامتهم الفارعة وعضلاتهم القوية وملامحهم الجبلية، ودفع الكثير ليصبح شديد الهيبة ضآلة حجمه، وتقمص شخصية العظماء؛ يرفع رأسه نحو السماء وفي عينيه نظرة باردة للكون والله والناس. والبرود العاطفي صفة العظماء من الحكام، والعواطف في الرجل نقطة ضعف، فما بال الإمبراطور! ويمتد البرود إلى صوته أيضا، ولهجته في الكلام. لا يمكن لأحد أن يستشف درجة انفعاله، وهو يختلف تماما عن السادات في هذه الصفة؛ فالسادات شديد العصبية، لكن هيلاسلاسي يعتبر العصبية نوعا من كشف العواطف، والمفروض أن لا تكون عواطفه واضحة، وكلامه أيضا غير واضح، ولا أحد يعرف تماما ماذا يقول؛ فهو لا يقول شيئا، وإنما يحرك شفتيه فقط كشفتي الإله بلا صوت، وعلى رسوله أن يفهم الإشارة، ثم يبلغ الرسالة إلى الناس على شكل أوامر.

وكان رسوله يطلق عليه: «الوزير ناقل الأوامر».

Shafi da ba'a sani ba