وكم هو إحساس مرير أن يشعر الإنسان بأنه غريب في وطنه وأن كل من ارتدى زيا أجنبيا أو رطن بلغة غير عربية نال الاحترام.
ولم يكن غريبا في ظل هذا الحكم أن أطرد من عملي، وأن تصادر جميع كتاباتي، وأن أعيش تجربة تشبه المنفى، ثم ينتهي الأمر بي في السجن.
وكلها تجارب مفيدة رغم كل شيء، أتاحت لي السفر والترحال ورؤية العوالم الأخرى، والعمل في جهاز آخر عجيب يشبه الجهاز الحكومي في بلادنا واسمه هيئة الأمم المتحدة.
وأصبح لي لقب جديد هو «الخبيرة»، وفي جيبي جواز سفر أزرق، رسمت عليه الكرة الأرضية، ومن فوقها «الأمم المتحدة»، ومن تحتها: «دعه يمر».
ومن جميع مطارات العالم أمر دون أن يستوقفني أحد، وفي نهاية كل شهر أحصل على ثلاثة آلاف دولار غير نفقات السفر والإقامة؛ أي ما يوازي ثلاثين ضعفا لراتبي من الحكومة المصرية.
وكان مقري الأول هو أديس أبابا، عاصمة إثيوبيا أو الحبشة، بيني وبين كلمة الحبشة قرابة دم، واسم جدي لأبي كان «حبش»، وعلى الجدار العالي في بيت جدي لأمي كانت تتدلى صورة الإمبراطور هيلاسلاسي، وخالتي بأنفها العالي تحكي أن جدها كان صديقا للإمبراطور، وبأصابعها المدببة ذات الأظافر المطلية تشد ورقة من قاع المكتب، ورقة أبلتها السنون وظلت عليها كلمات مطبوعة تثبت أن الخديوي إسماعيل كان يستدين من جدها واستولى منه على قطعة أرض.
كنت لا أزال طفلة ولا أعرف الفرق بين الإمبراطور والخديوي، وحروف اسم هيلاسلاسي تحت صورته تبدو لعيني كالهيروغليفية، عيناه واسعتان في وجه طويل نحيل، وأنف مدبب حاد، ومن فوق صدره أشياء كثيرة مزركشة تقول عنها خالتي إنها نياشين وأوسمة مثل نياشين وأوسمة الملك فاروق. وحين سقط الملك فاروق في يوليو 1952 تصورت أن هيلاسلاسي أيضا سيسقط، ولم أكن أعرف عن الحبشة شيئا إلا أنها الهضبة العالية حيث تسقط الأمطار وفيها منابع النيل، وفي عام 1974 قرأت أن هيلاسلاسي سقط، وتذكرت الملك فاروق، وتصورت أن الحبشة تحررت، لكن السادات أعلن أن الشياطين الحمراء استولت على الحكم في الحبشة، وأن سقوط هيلاسلاسي إنما هو ضد إرادة الله؛ لأن الله هو الذي اختاره، وهو مستعد لأن يمتطي سلاحه ويذهب إلى الحبشة دفاعا عن إرادة الله، وحماية أيضا لمنابع النيل من عبث الشياطين.
ولم أكن أصدق شيئا مما يقوله السادات، وهو نفسه لم يكن يصدق ما يقول، ويدرك أن الناس لن تصدقه؛ ولذلك كان يلجأ إلى الله دائما من أجل أن يصدقه الناس كما فعل هيلاسلاسي.
الطائرة الإثيوبية قطعت المسافة بين القاهرة وأديس أبابا في ثلاث ساعات ونصف، لن نحلق فوق أرض السودان؛ النميري منع هبوط الطائرات الإثيوبية في السودان أو الطيران في سمائها، وأعلن كالسادات الغضب على منجستو عدو الله وعدو هيلاسلاسي.
حلقنا فوق شاطئ البحر الأحمر ثم هبطنا في مطار أديس أبابا.
Shafi da ba'a sani ba