لم أكن أعرف عن الطائرة إلا الأزيز من بعيد أسمعه في السماء، وجسم صغير يلمع في الأفق بحجم اليمامة، له حركة بطيئة في الكون كحركة السحاب.
لم يكن خيالي قادرا على تصور حجمها الحقيقي أو سرعتها، ولم أتصور أنه يمكن للبشر بأحجامهم العادية أن يكونوا داخلها، يطلون علينا من فوق السحاب كالآلهة. ولم يكن لخيالي أن يمتد رأسيا، فأتصور أنني سأكون في السماء داخل طائرة أطل على الكون من ارتفاع شاهق.
كان خيالي يمتد بشكل أفقي مع حركة السيارة أو القطار فوق القضبان، وحركة قدمي، وامتداد النيل باستواء الأرض. وحينما أرفع رأسي عموديا نحو السماء تنزعج العيون من حولي، خاصة عيني جدتي، منذ ولدت وهي ترمق بقلق رأسي المرفوع فوق عنقي، أكان من المفروض أن أولد بغير رأس؟ وإذا حركت عنقي إلى أعلى ازداد قلقها وصاحت: لا ترفعي رأسك هكذا! ألا ترين كيف تسير البنات المؤدبات؟
وكانت البنت المؤدبة تسير ورأسها مطرق إلى الأرض، وظلت جدتي تقول: إنني غير مؤدبة حتى ماتت. لكنها كانت جدتي آمنة والدة أمي. أما جدتي مبروكة والدة أبي فكانت تضع الزلعة فوق رأسي وتقول: لا تحني عنقك هكذا، انظري كيف تسير بنات الكفر مرفوعات الرأس. لكنها كانت تظن أن رأس البنت لم يرتفع عموديا فوق العنق بهذا الشكل إلا لتحمل فوقه الزلعة.
ومع كل ذلك كنت أحب جدتي مبروكة أكثر من جدتي آمنة، وأفضل السفر إلى بيتها الترابي ذي الشرفة الخشبية، أشرب من الزير، وأستحم بماء الزلعة من النيل. لكن أمي كانت تفضل السفر إلى بيت أبيها في القاهرة، وأبي كان مثلي يحب قضاء إجازة الصيف في بيت أمه في الكفر، ويدور النقاش بينهما أول كل إجازة صيف. لم يكن نقاشا حادا أبدا، ولا ينتهي بفوز أحدهما على الآخر، نوع من التعادل بين القوتين الكبيرتين في البيت، وتحزم أمي الحقائب وتسافر إلى أهلها مرة، وإلى أهل أبي مرة، هكذا على التوالي.
قبل السفر بأيام أخرج كل ملابسي من الدولاب وأرصها في الحقيبة الكبيرة، وتأتي أمي وتفرغ الحقيبة في الدولاب وهي تصيح: لن تأخذي معك كل ملابسك، ثم إن موعد السفر لم يأت بعد.
وتقف على الكرسي الخشبي العالي، وتشب على أطراف أصابعها لتضع الحقيبة فوق الدولاب، ومن موقعي فوق الأرض وعيناي إلى أعلى أرى ساقيها السمينتين البيضاوين بغير شعر يمتدان تحت ثوبها الحريري إلى فخذين أشد سمنة وأشد بياضا، ثم يلتصقان في النهاية في خط واحد عميق داكن اللون.
ويراودني خاطر غريب، هو أنني هبطت إلى العالم من هذا الخط الداكن، ثم يتبع ذلك على الفور خاطر آخر أكثر غرابة، هو أن أبي له علاقة ما بهذا الخط الداكن. وإلى هنا تتوقف خواطري تماما كأنما وصلت نهاية العالم، وأعود أدراجي إلى مكاني فوق الأرض، ثم أصعد على الكرسي الخشبي العالي وأمد ذراعي فوق الدولاب، لكن يدي لا تصل أبدا إلى الحقيبة.
كل ليلة ومنذ أن تبدأ الإجازة الصيفية وأنا أحلم بأن يدي امتدت وطالت وأمسكت بالحقيبة، وأن ملابسي كلها انتقلت من الدولاب إلى الحقيبة، وأن أمي توقظني في الفجر لأرتدي الملابس الجديدة، وأبي يحكم إغلاق النوافذ والأبواب، والسيارة الأجرة تنتظر أمام الباب، صوت الموتور يرن في أذني عجيبا، ورائحة البنزين تسري في أنفي نفاذة منعشة. وعند محطة القطار يبدو كل شيء مدهشا، رصيف المحطة العالي، والقضبان الممتدة إلى ما لا نهاية في الخندق العميق، وأصوات الأجراس وصفارات القطار والدخان الكثيف يندفع من الفوهة السوداء، والناس تجري وفي أيديهم الحقائب، وبائع السميط ينادي بصوت حاد مرتفع، وسلم القطار العالي. أمسك المقبض الحديدي وأضع قدمي على السلم ويخيل إلي أن القطار سيتحرك وقدمي الثانية لا تزال على الأرض، لكن القطار لا يتحرك، وأجري إلى مقعدي وأنظر من النافذة، وتظل المحطة ثابتة والبيوت ثابتة، وأظن أن القطار لن يتحرك أبدا. وفجأة أحس برأسي يهتز بعنف إلى الوراء ثم إلى الأمام، وتبدأ البيوت في الحركة إلى الوراء، ومن بعدها أعمدة السواري التي تبدأ في الجري إلى الخلف واحدة وراء الأخرى.
وأطل برأسي من النافذة وأنا أشهق بالفرح، الهواء القوي يطير شعري في الفضاء، وفمي مفتوح عن آخره أبتلع الهواء والدخان، ولا أحس إلا بيد أبي تشدني إلى الخلف وصوته يدوي في أذني مختلطا بصوت عجلات القطار: أدخلي رأسك!
Shafi da ba'a sani ba