يقول اللورد كريشنا «لارجونا» في إحدى فقرات «الجيتا»: «حارب لا تخش الموت وأنت تقاتل. حين يقتل جسدك فسوف تظل نفسك الحقيقية خالدة، كما تخلع ملابسك تخلع النفس الجسد عند الموت وترتدي جسدا آخر جديدا أكثر تناسبا لها». رسالة كريشنا للإنسان هي أن يبتسم؛ فالإنسان الحكيم هو الذي لا يحزن أبدا. أما البكاء فليس إلا للبلهاء. إن الحياة ليست إلا سلسلة متصلة لا نهائية من الولادة والموت والولادة والموت. والإنسان لا يموت أبدا وإنما يتخذ جسده من كل موت أشكالا مختلفة. وهذه الفكرة تشبه ما قاله الماديون من أن المادة لا تفنى وإنما تتحول إلى أشكال أخرى من المادة، جسد الإنسان يتحول عند الموت إلى كربون وغازات تدخل في تكوين كائنات أخرى حية وهكذا. وكما قال الفلاسفة: إن قانون الحياة الوحيد الثابت هو قانون التغيير، قالت الجيتا أيضا هذه الحقيقة، لكن «الجيتا» فصلت بين الفلسفة وبين الحياة التي يعيشها الإنسان، وأوقعت الإنسان العادي في تناقض شديد مثلها مثل الأديان الأخرى التي فصلت بين الدين والدنيا. كما أنها أسست فلسفتها على وجود المطلق وهو النفس الخالدة غير المتغيرة، على حين أن الفلسفة المادية تقول: إن كل شيء في الحياة نسبي وليس هناك شيء مطلق.
وتدخل «الجيتا» أيضا في شرح قانون السببية في الحياة وتقول: إن كل شيء له سبب. لكنها تقول إن هناك عالمين، عالم الأسباب، وهو غير مرئي، وعالم المسببات، وهو العالم المرئي، وإن الخروج من العالم اللا مرئي إلى العالم المرئي هو نوع من الخلق ويتبع قانون السببية.
تقول «الجيتا»: إن الذي يخلق هو الإنسان حين يدرك عظمة نفسه. أما الإنسان الضال فهو الذي نسي عظمة نفسه. الله هو الإنسان حين يدرك عظمة نفسه. لورد كرشنا كان إنسانا عرف عظمة نفسه؛ ولهذا استطاع أن يخلق الجيتا. الخلق يحدث مرة واحدة، ويعجز الإنسان عن إعادة ما خلقه مرة ثانية. لورد كريشنا نفسه عجز عن إعادة «الجيتا» حين طلب منه «أرجونا» أن يكتبها مرة أخرى. هذا الخلق العقلي والفني أو الإلهام ليس اتحاد الإنسان بنفسه. وهو يتطلب جهدا وصبرا وقدرة على التركيز على النفس من أجل اكتشافها.
وقد وجدت أن «الجيتا» كانت أكثر من العقل الغربي الحديث إدراكا لماهية الإلهام الفني وضرورة الجهد الإنساني والعمل المتصل للوصول إليه. كثير من المفكرين في الغرب قالوا: إن الإلهام الفني عملية مجهولة وتأتي للإنسان بالصدفة. بعضهم قال: إن الإلهام يهبط من السماء. كان الدين الهندوكي لا يعترف إلا بالجهد الإنساني، وليس في هذا الدين إله سوى الإنسان، وليس فيه معجزات أمام الإنسان الخلاق الذي عرف نفسه واكتشفها.
وتشرح «الجيتا» فلسفة «اليوجا» وتقول: إن اليوجا هي وصول الإنسان إلى النقاء العقلي، أو إلى الارتفاع فوق «الأنا» وفوق العقل العادي والتحرر من الأضداد في الحياة؛ لأن الحياة تقوم على الأضداد، على الخير والشر، على الفرح والحزن، على الألم واللذة ... وهكذا. اليوجا ارتفاع فوق كل هذا. معنى ذلك أن ينتصر الإنسان على الألم وعلى اللذة أيضا ويصبح بغير ألم وبغير لذة.
اليوجا هي فن العمل بغير ألم، هي أن يصبح الإنسان منفصلا عن رغبات «الأنا» جميعا سواء كانت رغبات خير أم شر.
وتقول الجيتا: إن فن الحياة هو أن تعيش هذه اللحظة الحاضرة؛ لأنها اللحظة الحقيقية الوحيدة؛ فالماضي مات، والمستقبل لم يولد بعد. لا تندم ولا تحزن على شيء مضى، ولا تأمل ولا تخف من أي شيء سيحدث في المستقبل. ذكرني هذا بأغنية زوربا اليوناني حين قال: لا أخشى شيئا، لا آمل شيئا، أنا حر. تقول «الجيتا»: عش هذه اللحظة الحاضرة بكل ما عندك، انس نفسك أو أعط نفسك كلية لهذه اللحظة. حينما تقوم بعمل ما أعط نفسك تماما لهذا الشيء الذي تعمله تكتشف أنك قد خلقت شيئا عظيما.
أن تنسى نفسك في اللحظة الحاضرة معناه أن تنسى أحزان وأفراح الماضي، وأن تنسى آمال ومخاوف المستقبل.
بعبارة أخرى: أن تكون حرا، معناه أن تنسى «الأنا» وتعيش ملتصقا «بالنفس» الخالدة فيك أو «الله» داخلك، أن تكون كالجبل أو البحر أو المحيط الذي لا يؤثر فيه شيء. هنا القوة والانتصار على كل شيء في الحياة، والوصول إلى حالة من السمو فوق الخير والشر معا.
بهذا كله لا ينشغل عقلك في القلق أو الخوف أو الترقب أو الندم أو الأمل أو غير ذلك من هذه المشاعر والرغبات، يتفرغ العقل تماما لما هو يعمله في هذه اللحظة.
Shafi da ba'a sani ba