الأولى. وكان أوّل من اِستقبلنا حال دخولنا دولة المتصرّف، فرادنا إلى ردهة الاستقبال الّتي دخلناها، وكانت وقتئذٍ حافلة بحضرات المدعوّين من كبار القوم وسراة المسيحيّين وأعيانهم. وقد وجدنا في ما بين أظهرهم بعض أسرة سرسق وأسرة بسترس، وهاتان الأسرتان من أشهر الأسر في بلاد الشام، وهما من طائفة الروم الأرتدكس وأصلهما غالبًا من لبنان، ويسكنان الآن في مدينة بيروت ولهما هناك شهرة كبيرة وصيت ذائع حتّى يقال أنّهما أعظم أهل بيروت ثراء وأكثرهم مالا. ثمّ كان من المدعوّين أيضًا حضرة الفاضل سليم بك تابت. ولعلّ القارئ يلاحظ على أنّي أفردت هذا الشخص بالذكر وعيّنته بالاسم، دون ما سواه من المحتفلين، وما أدراه أنّ سليم بك تابت هذا جدير أن يبلغ من أنفسنا تلك المكانة، وأن يفسح له في رحلتنا بقدر ما يسع ذكر مروءته وكرم أخلاقه وحسن تربيته. وما نريد من ذلك إلا أن يعرف القرّاء له ما عرفناه من الكرم والمعروف. أمّا هو فإنه سليل أسرة مسيحيّة محترمة في تلك البلاد. وما كان يلفتنا إليه ويجعله منّا في تلك المنزلة أنّه ثريّ وجيه ولا أنّه عزيز في قومه، وإنّ الناس في هذا الباب كثيرون مزدحمون، وإنّما رأيت في الرجل همّة عالية ونشاطًا كبيرًا وبديهة حاضرة لا يملّ مجلسه ولا تسأم معاشرته، لأنّه جميل المحاضرة ظريف ما اِستطاع، كأنّ الشام بيته والمسافرين إليها ضيوفه، ممّا دلّنا على أنّ فيه غيرة على بلده وحرصًا غريبًا على أن لا يقع نظر السائح منها إلا على ما يحبّ ويستحسن. وقد عجبنا جدًّا من أنّه قادر على نفسه، غالب لها على إرادتها، إذ لم يمنعه تحيّزه لدينه وتعصّبه لمذهبه أن يقسط بين الناس في لطفه ومودّته، يستوي عنده في ذلك
المسيحي والمسلم واليهودي وغيرهم من أيّ ملّة أو نحلة. ثمّ هو لا يألو جهدًا في مساعدة الإنسان متى قصده وطلب معونته. وإنّه لجدير بمن تجتمع له هذه الخلال الطيّبة والشمائل المحمودة أن ينال من قلوب الناس محبّة تامّة ومن ألسنتهم ثناءً جميلًا. ولذلك قلّما ينعقد مجلس سرور، أو تتألّف حفلة أنس أو تتّسق جمعية مفيدة، حتّى يكون من أهمّ مروّجيها وأصحاب القدح المعلّى فيها. وبعدما جلسنا برهة نتحدّث مع هؤلاء المدعوّين الكرام، دعينا إلى غرفة الطعام. وهناك تعاطينا من المآكل الشهيّة اللذيذة ما حمدنا الله على إساغته. وقد كانت الموسيقى في هذه الأثناء تصدح بألحانها المطربة. ثمّ عدنا إلى قاعة الاستقبال،
1 / 47