Tafiya A Cikin Tunanin Zaki Najib Mahmud
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Nau'ikan
لا يتطرف بالمعنى السابق إلا من حمل على كتفيه رأسا فارغا وخاويا، اللهم إلا أضغاثا دفع بها إلى ذلك الرأس عن فهم أو غير فهم. وذلك لسببين؛ الأول: أن تكون الأفكار التي شحن بها رأسه غير علمية؛ لأن الفكرة العلمية مقطوع بصوابها، والثاني: أن ما يمتلئ به رأس المتطرف، ما دام لا يمت إلى العلم بصلة، لا بد أن يكون فيه الخصائص المضادة للعلم، ومنها حرارة الانفعال، وغموض المعنى، واحتمال أن تتعدد فيه وجهات النظر.
السمة الأخيرة، أن التطرف، في الواقع، حالة من حالات التكوين النفسي، ولا نقول إنه وجهة نظر إلا من باب التساهل، وإنما هو في حقيقته الدفينة حالة نفسية، تجعل صاحبها على استعداد لأن يتطرف وكفى! فليس المهم هو الموضوع الذي يتطرف فيه، بل المهم في تكوينه هو أن يتطرف للتطرف في حد ذاته؛ ومن هنا رأينا أمثلة كثيرة لمتطرفين يقفزون بين يوم وليلة، من تطرف في فكرة إلى تطرف في الفكرة التي تناقضها، فتراه اليوم متطرفا في رؤية إسلامية معينة، ثم تراه غدا في رؤية شيوعية، أو العكس؛ مع أن الإسلام والشيوعية ضدان لا يلتقيان! (انظر في ذلك كله مقاله الرائع «متطرف تحت المجهر» في كتابه «رؤية إسلامية»، ص257، ص268.)
تشجع ... وفكر!
وسقراط مصر - مثل سقراط أثينا - كان فليسوفا تنويريا، يدعو إلى رفع «الوصاية» عن الإنسان، المصري أولا والعربي ثانيا؛ لأنه بلغ سن الرشد، ولم يعد قاصرا بحيث يحتاج إلى غيره ليفكر نيابة عنه؛ ولهذا كان شعاره «لتكن لديك الشجاعة لتستخدم عقلك»، تشجع، وفكر ... تشجع واعرف بنفسك ولنفسك، وأعمل العقل في كل مناحي الحياة، وفي أي موضوع يطرح عليك، ولا تركن إلى الكسل والجبن الشائعين عند بعض الناس الذين يعتقدون أن في القصور راحة، وأن التفكير العقلي المستقل أمر خطير جدا، ولا تقل لنفسك إنني لست بحاجة إلى التفكير، إذا كان هناك من يقوم عني بهذه المهمة الثقيلة! فالتفكير هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان، والله العليم بكل شيء، هو الذي وهب الإنسان العقل ليستخدمه استخداما جيدا ليكون خليفة له على الأرض! وشيخ الفلاسفة يجعل هذه الفكرة جوهر دعوته في كل ما كتب: «الخط الفكري الذي تنطوي عليه كتاباتي، على اختلاف موضوعاتها، وعلى طول الأمد الذي امتدت خلاله هو الإيمان بأن الفرد الإنساني مسئول عما يفعل، وأن هذه المسئولية لا تعني شيئا إذا لم يكن العقل وحده هو مدار «الحكم» في كل المسائل التي تطلب فيها التفرقة بين الصواب والخطأ. أما الموقف الذي تسوده عاطفة فلا خطأ فيه ولا صواب؛ لأن المرجع فيه إلى القلب وما ينبض به» ... (مجتمع جديد أو الكارثة، ص5)، وها هنا نراه يلتقي مع المضمون المحوري للفكر التنويري، لكنه يضيف إضافة جديدة وهي التفرقة الواضحة بين المجال الذي يستخدم فيه الوجدان والخيال، «فإذا كان المجال مجال علم فلا يجوز للشعور أن يتسلل إلى سياق الحديث بألفاظه الدالة على الوجدان، أما إذا كان المجال مجال أدب وفن، فليتخذ ما يشاء من لفظ؛ ليثير في مسامعه المشاعر التي يقصد إلى إثارتها فيه ... فلنعط ما للعقل للعقل، وما للشعور للشعور» ... (قصة نفس، ص182).
لقد كان الفيلسوف الألماني هيجل يقول: «إن العبقري هو ما يدرك متطلبات العصر ويلبيها» ... ولقد أدرك فيلسوفنا أن مطلبنا الأساسي هو استخدام العقل، بعد أن غرقنا في «التفسيرات اللاعقلية» حتى الأذنين! ومن هنا كان حرصه على استخدام العقل والاحتكام إليه في جميع مناحي الحياة، باستثناء الأمور الوجدانية، والاستخدام الجيد للعقل يؤدي إلى نتيجتين مهمتين: الأولى الاهتمام بالعلم الطبيعي، والاعتماد عليه وحده في تفسير ظواهر الطبيعة؛ وبالتالي محاربة الخرافة في شتى صورها (لأن الخرافة باختصار شديد هي تفسير أي ظاهرة من ظواهر الطبيعة خارج نطاق العلم)، غير أن الاهتمام بالعلم لا يعني «حفظ» مجموعة من القوانين العلمية، نفسر بها ظواهر الطبيعة، وإنما يعني «تشرب» الأسلوب العلمي في التفكير، وأن يكون لدينا منهج ذلك العلم لنستخدمه أولا في المشاركة الإيجابية في المكتشفات العلمية، وثانيا ليحمل ذلك المنهج العلمي في صدورنا ميزانا نزن به الأفكار العلمية، كلما نشأت عند الناس فكرة يقابلون بها مشكلة عرضت لهم في حياتهم» (عربي بين ثقافتين، ص107)، وهو يشعر بقلق بالغ من موقف الإنسان العربي نحو «العلم» حدوده وقدراته، ونحو العقل وعجزه ... إلخ، وهو يرى أن الخطير في الأمر أن العربي كثيرا ما يسخر من منجزات العلم الحديث، وأنه بذلك يهزأ بالعقل الإنساني وقدراته، على ظن منه أن مثل هذه الوقفة ترضي ضميره الديني، وأنها وقفة تتضمن أن اعتزاز الإنسان بعقله، واعتداده بقدرته العلمية، كما تشهد بها منجزاته الحديثة، فيه جرأة على رب العالمين، الذي هو العليم القدير؛ مع أن أحدا على مدار الكوكب الأرضي لم يدر في خياله أنه خالق عقل نفسه، أو أنه صاحب الفضل في كل ما ينتج من علم ومنشآت (المرجع نفسه). ومن المفارقات الغريبة أن العربي الذي يرفض «المنهج العلمي» هو من أكثر أهل الأرض شراء لتلك المنجزات الحديثة التي يأتي بها العلم (المرجع السابق).
إن ما ينقصنا هو «منهج العلم» والفرق واسع بين مجموعة الحقائق العلمية التي ننقلها عن الغرب، ونحفظها عن ظهر قلب في مدارسنا وفي جامعاتنا، وبين «المنهج العلمي» الذي استطاع الإنسان بواسطته أن يصل إلى ما قد وصل إليه من حقائق، وها هنا يكمن الداء الذي تولدت لنا منه ضروب من الأورام الخبيثة في حياتنا العقلية، أو قل في حياتنا اللاعقلية، فكان لنا ما كان من بطء شديد في حركة التقدم مع حضارة عصرنا في ركضها السريع (أفكار ومواقف، ص208، 209). وهو في مقال آخر يجعل هذه المشكلة «موطن الداء» في حياتنا العقلية، فمن اليسير أن نلقن الدارسين «مقررا» بعينه وضعت مادته في كتاب، ويطلب من الدارس حفظها عن ظهر قلب ، ويعيدها في هذا الهيكل العظمي على ورقة الامتحان، فيخرج الدارس وفي جعبته معلومات، و«نقط» مبعثرة، وليس في عقله «منهج» للنظرة العلمية أيا كان الموضوع الذي ينظر إليه ابتغاء تعليله ووضعه في سياق ليفهم (بذور وجذور ص69).
أما النتيجة الثانية المترتبة على استخدام العقل استخداما جيدا فهي نتيجة واجتماعية كثيرة، وأن يكون من بين هذه النتائج مناهضة الحكم المستبد (انظر «كيف يولد طاغية»، أفكار ومواقف، ص164 وما بعدها)، ومحاربة الظلم الاجتماعي في شتى صوره لتحقيق العدالة بين الناس، والدعوة إلى المساواة، والديمقراطية، والحرية السياسية لا سيما حرية التفكير والتعبير.
الثورة الحقيقية
فإذا جمعنا بين هاتين النتيجتين المترتبتين على الاستخدام الجيد للعقل، تحققت لدينا ثورة حقيقية: «لأن الثورة الحقيقية هي ثورة فكرية»، وهي تعني أن نقوم بتغيير «أنوال» التفكير القديم التي ظلت باقية معنا على عهدها القديم؛ ولذلك بقيت طبيعة الفكر على حالها، الذي أزعمه أن منوالنا الفكري لم يتغير، وأن النمط الذي نسوق نشاطنا الفكري في إطاره، ما زال كما كان منذ قرون. وهذا المنوال قوامه عناصر كثيرة لعل أهمها الركون إلى «سلطة» فكرية نستمد منها الأسانيد، ومثل هذه السلطة تتمثل عادة في نصوص بعينها محفوظة في الكتب، كما تتمثل كذلك في أقوال يتبادلها الناس، وهي التي تسمى العرف أو التقاليد، وبناء على هذا الموقف نكون الفكرة صوابا إذا استقت مع ما أقرته السلطة الفكرية في الكتب المحفوظة أو الأقوال المأثورة، كما تكون الفكرة خطأ إذا جاءت مخالفة لما أقرته تلك السلطة؛ ومن هنا اشتد سلطان الماضي على الحاضر، وأصبح البرهان الذي لا يرد هو أن نسوق «الشواهد» من سجل القديم، وانحصرت قوة الإبداع الفكري في القدرة على إيجاد السند من القول المأثور، ولن تكون لنا ثورة فكرية إلا إذا أحللنا نمطا جديدا محل هذا النمط القديم، فيكون معيارنا هو: ما هي النتائج العلمية المستقبلية التي تترتب في حياتنا العلمية على هذه الفكرة، أو تلك مما يقدمه لنا رجال الفكر؟ (مجتمع جديد أو الكارثة، ص15، 17).
الرائد ...!
Shafi da ba'a sani ba