بحوث ندوة أثر القرآن في تحقيق الوسطية ودفع الغلو
بحوث ندوة أثر القرآن في تحقيق الوسطية ودفع الغلو
Mai Buga Littafi
وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
Lambar Fassara
الثانية
Shekarar Bugawa
١٤٢٥هـ
Inda aka buga
المملكة العربية السعودية
Nau'ikan
[خطة البحث]
بحوث
ندوة
أثر القرآن في تحقيق الوسطية ودفع الغلو المحور الأول
الوسطية والاعتدال في القرآن والسنة مفهوم الوسطية والاعتدال
الدكتور / ناصر بن عبد الكريم العقل أدلة الوسطية في القرآن والسنة
الدكتور / محمد بن عمر بازمول مظاهر الوسطية في الإسلام
الدكتور / سليمان بن إبراهيم العايد المحور الثاني
دلالة القرآن على سماحة الإسلام ويسره مفهوم السماحة واليسر في الكتاب والسنة وأدلتها
الدكتور / ناصر بن عبد الله الميمان سماحة الإسلام في التعامل مع المخالف
الدكتور / حمزة بن حسين الفعر سماحة الشريعة في التعامل مع الواقع للدول والأفراد
الدكتور / عبد الرحمن بن زيد الزنيدي المحور الثالث
الغلو: مظاهره وأسبابه مفهوم الغلو في الكتاب والسنة
الدكتور / صالح بن غانم السدلان مظاهر الغلو في الاعتقاد والعمل والحكم على الناس
الدكتور / عبد السلام بن برجس العبد الكريم أسباب الغلو العلمية والمنهجية وعلاجها
الدكتور / عبد الرحمن بن معلا اللويحق المحور الرابع
استثمار تعليم القرآن في ترسيخ الوسطية ومعالجة الغلو معالجة القرآن لظواهر الانحراف والغلو
الدكتور / إبراهيم بن سعيد الدوسري أثر معلم القرآن في تربية طلابه على الاعتدال
الدكتور / عبد الله بن علي بصفر مؤسسات تعليم القرآن الكريم وأثرها في نشر الوسطية
الدكتور / حمد بن موسى السهلي
[المحور الأول الوسطية والاعتدال في القرآن والسنة]
[مفهوم الوسطية والاعتدال]
المحور الأول
الوسطية والاعتدال في القرآن والسنة مفهوم الوسطية والاعتدال
للدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل
1 / 1
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وبعد:
فإن الله تعالى ميز هذه الأمة (أمة الإسلام) بالوسطية بين الأمم فقال سبحانه ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣] والوسطية هنا تعني: العدل والخيار وسائر أنواع الفضل، فهي أفضل الأمم.
ثم ميز الله أهل السنة والجماعة بالوسطية بين فرق المسلمين، فقال ﷺ «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ. . .» الحديث.
فأهل السنة هم في جملتهم (العدول الخيار) أهل التوسط والاعتدال في كل أمور الدين: عقيدة وعلما وعملا وأخلاقا ومواقف. وسط بين الغلو والتقصير وبين التفريط والإفراط في سائر الأمور.
وسأتحدث في هذه المقالة عن مفهوم الوسطية والاعتدال في اللغة والاصطلاح، وهو موضوع الفرع الأول من المحور الأول في ندوة (أثر القرآن الكريم في تحقيق الوسطية ودفع الغلو) .
مفهوم الوسطية والاعتدال: ا - مفهوم الاعتدال: الاعتدال لغة: قال في القاموس المحيط: (العدل: ضد الجور، وما قام في النفس أنه مستقيم)، و(عدل الحكم تعديلا: أقامه، و(عدل)
1 / 5
فلانا: زكّاه، و(عدل) الميزان (سواه)، و(الاعتدال توسط حال بين حالين في كم أو كيف، وكل ما تناسب فقد اعتدل، وكل ما أقمته فقد عدَلته وعدّلته)، والعدول: هم الخيار.
وذكر في القاموس المحيط (١) من معاني العدل والاعتدال: الحكم بالعدل، والاستقامة، والتقويم، والتسوية، والمماثلة، والموازنة، والتزكية، والمساواة، والإنصاف، والتوسط.
أما اصطلاحا فالاعتدال: هو التزام المنهج العدل الأقوم، والحق الذي هو وسط بين الغلو والتنطع، وبين التفريط والتقصير، فالاعتدال والاستقامة وسط بين طرفين هما: الإفراط والتفريط.
والاعتدال هو: الاستقامة والتزكية، والتوسط والخيرية.
فالاعتدال يرادف الوسطية التي ميز الله بها هذه الأمة، قال تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٤٣]
وقد فسر الرسول ﷺ هذا بقوله: (والوسط: العدل) (٢) ومن معاني العدل والوسط: الخيار.
_________
(١) انظر: (عدل) (٢ / ٥٩٤) .
(٢) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، الحديث رقم (٤٤٨٧) .
1 / 6
ولا يتحقق الاعتدال في الاعتقاد والعمل والعلم والدعوة وغيرهما إلا بالتزام الكتاب والسنة وسبيل المؤمنين.
ب - مفهوم الوسطية: الوسطية في اللغة: قال في المعجم الوسيط الصحيح:
(وسط) الشيء - (يسطه) وسطا، وسِطة: صار في وسطه ويقال: وسط القوم، ووسط المكان. فهو واسط. و- القوم، وفيهم وساطة: توسط بينهم بالحق والعدل.
(وسُط) الرجل - (يوسُط) وساطة، وسِطة: صار شريفا وحسيبا. فهو وسيط.
(أوسط) القومَ: صار في وسطهم.
(توسط) فلان: أخذ الوسط بين الجيد والرديء. و- بينهم: وسط فيهم بالحق والعدل. والشيءَ: صار في وسطه. يقال: توسط القومَ.
(الأوسط): المعتدل من كل شيء، وأوسط الشيء: ما بين طرفيه. وهو من أوسط قومه: من خيارهم.
(الوسَط) وسط الشيء: ما بين طرفيه، وهو منه. والمعتدل من كل شيء. يقال: شيء وسط: بين الجيد والرديء. وما يكتنفه أطرافه ولو من غير تساو. والعدل. والخير: (يوصف به المفرد وغيره) . وفي التنزيل العزيز: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] عدولا أو خيارا. وهو من وسط قومه: من خيارهم.
1 / 7
والصلاة الوسطى: العصر، لتوسطها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل، وقيل الصلاة الوسطى: الفضلى، وفسرها بعضهم بالجمعة. (ج) وُسَط.
(الوَسوط): المتوسط. وبيت من بيوت الشَّعْر أكبر من المظلة وأصغر من الخباء أو هو أصغرها. (ج) وسط.
الوُسوط: وُسوط الشمس، توسطها السماء.
(الوسيط): المتوسط بين المتخاصمين، والمتوسط بين المتبايعين أو المتعاملين. والمعتدل بين شيئين. وهي وسيطة. (ج) وسطاء، ويقال هو وسيط فيهم: أوسطهم نسبا وأرفعهم مجدا.
فالوسطية تأتي بمعنى: التوسط بين شيئين، وبمعنى العدل، والخيار، والأجود، والأفضل، وما بين الجيد والرديء، والمعتدل، وبمعنى الحسب والشرف.
ونجد أهل السنة والسلف الصالح - بحمد الله - تحققت فيهم هذه المعاني الفاضلة، كما سيأتي بيانه.
الوسطية في الشرع والاصطلاح: وردت الوسطية في القرآن الكريم في أكثر من آية وفي السنة في أكثر من حديث على المعاني التالية:
(١) بمعنى العدل والخيرية والتوسط بين الإفراط والتفريط، ومن ذلك قوله ﷿ ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] أي، عدلا [سورة البقرة - آية ١٤٣] . وبهذا المعنى فسرها النبي ﷺ في حديث أبي سعيد الخدري فقال: (الوسط: العدل) (صحيح البخاري ك التفسير ح ٤٤٨٧) .
1 / 8
(٢) وفسرها ابن جرير الطبري (٣ / ٢٤٢) بمعنى التوسط بين الإفراط والتفريط.
(٣) وكذلك ابن كثير (١ / ٢٧٥) فسرها: بالخيار الأجود.
(٤) وتأتي الوسطية في السنة كذلك بمعنى الأوسط والأعلى كما وصف النبي ﷺ الفردوس بأنه «أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ» -[البخاري ك الجهاد ح ٢٧٩٠] .
(٥) ويأتي معنى الوسطية على اعتبار الشيء بين الجيد والرديء، كما قال ابن عباس - في رواية عنه - «كَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتًا دُونًا، وَبَعْضُهُمْ قُوتًا فِيهِ سَعَةٌ، فَقَالَ اللَّهُ: ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ [المائدة: ٨٩] الْخُبْزِ وَالزَّيْتِ» .
(٦) وفسر بعضهم: (أوسط) في الآية بأنه: الأعدل والأمثل، فتكون الآية على هذا التفسير مندرجة تحت المعنى الأول الذي هو (العدالة والخيار والأجود) .
(٧) كما تأتي الوسطية بمعنى: ما بين طرفي الشيء وحافتيه.
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: ٢٣٨] والصلاة الوسطى صلاة العصر، وسميت الوسطى؛ لأن قبلها صلاتين، على اختلاف في تحديد أي الصلوات هي (١) .
_________
(١) (ابن كثير ١ / ٢٩١) .
1 / 9
ومن ذلك ما جاء في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَنَّهُ خَطَّ خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطًّا وَسَطَ الْخَطِّ الْمُرَبَّعِ، وَخُطُوطًا إِلَى جَانِبِ الْخَطِّ الَّذِي وَسَطَ الْخَطِّ الْمُرَبَّعِ، وَخَطًّا خَارِجًا مِنَ الْخَطِّ الْمُرَبَّعِ، وَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هَذَا الْإِنْسَانُ الْخَطُّ الْأَوْسَطُ، وَهَذِهِ الْخُطُوطُ إِلَى جَانِبِهِ الْأَعْرَاضُ تَنْهَشُهُ» (١) .
ومن ذلك قوله ﷺ: «وَسِّطُوا الْإِمَامَ وَسُدُّوا الْخَلَلَ» (٢) .
(٨) وتأتي الوسطية بمعنى التوسط الظرفي. ومن ذلك قوله ﷺ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ جَلَسَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ» (٣) ضعفه الألباني: ضعيف سنن أبي داود (٣٩٣) .
وتأتي الوسطية مقابل: - الغلو: وهو مجاوزة الحد. قال تعالى: ﴿لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾ [النساء: ١٧١] وقال ﷺ: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ» .
- والإفراط: وهو بمعنى الغلو، وهو تجاوز القدر في الأمور.
- والتفريط: وهو بمعنى التقصير.
فمنهج أهل السنة وسط في ذلك بين غلو الخوارج وتفريط المرجئة.
- والجفاء: خلاف البر والصلة. قال ﷺ في حق القرآن: «وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ» . أي: لا تنقطعوا عن تلاوته.
فأهل السنة وسط بين جفاء الأعراب، وتقعر العجم.
_________
(١) (ابن ماجه ح ٤٢٣١) .
(٢) (أبو داود ح ٦٨١) .
(٣) (أبو داود ح ٤٨٨٦) .
1 / 10
- والظلم: وهو مجاوزة الحق. ولذلك سمى الله الشرك ظلما ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]
فأهل السنة هم الوسط في العدل والإنصاف. وعليه؛ فالوسطية، والاعتدال معنيان مترادفان في المفهوم اللغوي، والشرعي الاصطلاحي، فهما: العدل والاستقامة والخيرية والاعتدال والقصد والفضل والجودة.
فالاعتدال والوسطية منهج الحق ومنهج الأنبياء وأتباعهم، ويتمثل ذلك بالإسلام بعد مبعث النبي ﷺ وبالسنة، ومنهج السلف بعد ظهور الأهواء والافتراق، فأهل السنة والجماعة هم العدول الأخيار في العقيدة والعبادة والأخلاق والمواقف.
هذا، ونسأل الله أن يجعلنا من أهل الحق والعدل والاستقامة، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، ويقيهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
[أدلة الوسطية في القرآن والسنة]
[مقدمة]
المحور الأول
الوسطية والاعتدال في القرآن والسنة أدلة الوسطية في القرآن والسنة
للدكتور محمد بن عمر بازمول
1 / 11
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١]
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١]
أما بعد:
فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فهذه ورقات أفردتها في تقرير بعض من أدلة الوسطية من القرآن العظيم والسنة النبوية، أتقدم بها في ندوة " أثر القرآن الكريم في
1 / 15
تحقيق الوسطية ودفع الغلو "، التي ستنعقد في مكة المكرمة، ضمن فعاليات مسابقة الملك عبد العزيز الدولية لحفظ القرآن الكريم وتلاوته، وتفسيره في ٣ - ١١ / ٨ / ١٤٢٤ هـ.
سائلا الله المزيد من التوفيق والهدى والرشاد للقائمين على هذه الندوة، وأن يجعل ﷾ جهودهم في موازين حسناتهم، إنه سميع مجيب.
1 / 16
[مدخل الإسلام وسط بين الأديان]
مدخل
الإسلام وسط بين الأديان من خصائص الإسلام الوسطية والتوازن (١) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت ٧٢٨ هـ) ﵀: " قد خص الله ﵎ محمدا ﷺ بخصائص ميزه الله بها على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل له شرعة ومنهاجا أفضل شرعة، وأكمل منهاج مبين.
كما جعل أمته خير أمة أخرجت للناس؛ فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها، وأكرمها على الله من جميع الأجناس.
هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم. وجعلهم وسطا عدلا خيارا؛ فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله، وكتبه، وشرائع دينه من الأمر والنهي والحلال والحرام.
فأمرهم بالمعروف، ونهاهم عن المنكر، وأحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، لم يحرم عليهم شيئا من الطيبات كما حرم على اليهود، ولم يحل لهم شيئا من الخبائث كما استحلتها النصارى.
ولم يضيق عليهم باب الطهارة والنجاسة كما ضيق على اليهود، ولم يرفع عنهم طهارة الحدث والخبث كما رفعته النصارى، فلا يوجبون الطهارة من الجنابة، ولا الوضوء للصلاة، ولا اجتناب النجاسة في الصلاة،
_________
(١) انظر: الإسلام مقاصده وخصائصه / د. محمد العقلة / ص ٥٠.
1 / 17
بل يعد كثير من عبادهم مباشرة النجاسات من أنواع القرب والطاعات، حتى يقال في فضائل الراهب: " له أربعون سنة ما مس الماء "! ولهذا تركوا الختان، مع أنه شرع إبراهيم الخليل ﵇ وأتباعه.
واليهود إذا حاضت المرأة عندهم، لا يؤاكلونها ولا يشاربونها، ولا يقعدون معها في بيت واحد، والنصارى لا يحرمون وطء الحائض، وكان اليهود لا يرون إزالة النجاسة، بل إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه بالمقراض، والنصارى ليس عندهم شيء نجس يحرم أكله، أو تحرم الصلاة معه.
وكذلك المسلمون وسط في الشريعة فلم يجحدوا شرعه الناسخ لأجل شرعه المنسوخ، كما فعلت اليهود. ولا غيروا شيئا من شرعه المحكم ولا ابتدعوا شرعا لم يأذن به الله، كما فعلت النصارى.
ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلو النصارى، ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود.
ولا جعلوا الخالق سبحانه متصفا بخصائص المخلوق، ونقائصه، ومعايبه من الفقر والبخل والعجز كفعل اليهود، ولا المخلوق متصفا بخصائص الخالق سبحانه التي ليس كمثله فيها شيء كفعل النصارى.
ولم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود.
ولا أشركوا بعبادته أحدا كفعل النصارى.
وأهل السنة والجماعة في الإسلام كأهل الإسلام في أهل الملل، فهم وسط في باب صفات الله ﷿ بين أهل الجحد والتعطيل، وبين أهل التشبيه والتمثيل، يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسله
1 / 18
من غير تعطيل ولا تمثيل، إثباتا لصفات الكمال، وتنزيها له عن أن يكون له فيها أنداد وأمثال، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] رد على الممثلة، ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] رد على المعطلة.
وقال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١ - ٤]
فالصمد: السيد المستوجب لصفات الكمال.
والأحد: الذي ليس له كفو ولا مثال.
وهم وسط في باب أفعال الله ﷿ بين المعتزلة المكذبين للقدر، والجبرية النافين لحكمة الله ورحمته وعدله، والمعارضين بالقدر أمر الله ونهيه وثوابه وعقابه.
وفي باب الوعد والوعيد، بين الوعيدية الذين يقولون بتخليد عصاة المسلمين في النار، وبين المرجئة الذين يجحدون بعض الوعيد وما فضل الله به الأبرار على الفجار.
وهم وسط في أصحاب رسول الله ﷺ بين الغالي في بعضهم الذي يقول فيه بإلهية أو نبوة أو عصمة، والجافي فيهم الذي يكفر بعضهم أو يفسقه وهم خيار هذه الأمة "اهـ (١) .
وقال ﵀: " وكذلك في سائر أبواب السنة، هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان " اهـ (٢) .
_________
(١) الجواب الصحيح (١ / ٦ - ٨) .
(٢) مجموع الفتاوى (٣ / ٣٧٥) .
1 / 19
[أدلة الوسطية من القرآن العظيم والسنة النبوية]
[أولا الأدلة من القرآن العظيم]
أدلة الوسطية
من القرآن العظيم والسنة النبوية الأدلة على وسطية أمة الإسلام فلا إفراط ولا تفريط، لا غلو ولا جفاء، كثيرة من القرآن العظيم، والسنة النبوية، أذكر منها الأدلة التالية:
أولا: الأدلة من القرآن العظيم (١) قول الله ﵎: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٦ - ٧]
ووجه دلالة الآية: أنه سبحانه وصف الصراط المستقيم بأنه غير صراط المغضوب عليهم، وهم اليهود أهل الغلو في الدين، وغير صراط النصارى، وهم أهل الغلو في الرهبانية والتعبد، حتى خرجوا عن حدود الشرع، ليس فقط في العبادة بل حتى في الاعتقاد، يقول ﵎: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا﴾ [النساء: ١٧١] (النساء: ١٧١) .
فإذا كان الصراط المستقيم غير صراط اليهود والنصارى، وكان صراط اليهود والنصارى صراط غلو في الدين، دل ذلك على أن الصراط
1 / 20
المستقيم صراط لا غلو فيه، فهو بين طرفين: إفراط وتفريط، وهذا هو معنى الوسطية التي هي منهاج الدين الإسلامي.
(٢) قال الله ﵎: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ٢١٣] (البقرة: ٢١٣) .
يمتن الله سبحانه على عباده المؤمنين أن هداهم إلى الصراط المستقيم، الذي هو سبيل الرسول ﷺ، ومن يتبعه، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٣] (الأنعام: ١٥٣) .
وللغواية والضلال سبل، كما قال ﵎: ﴿وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: ٨٦] (الأعراف: ٨٦) .
1 / 21
وكل سبيل غير سبيل الحق فهو معوج، كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران: ٩٩] (آل عمران: ٩٩)، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ﴾ [الأعراف: ٤٥] (الأعراف: ٤٥) .
وسبيل الحق هو سبيل الرشد، وهو الصراط المستقيم، كما قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٦] (الأعراف: ١٤٦)، وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: ٣٨] (غافر: ٣٨) .
فالصراط المستقيم وسط بين السبل، التي أشارت إليها الآيات السابقات. وعليه فإن هذه الأمة وسط بين الأمم.
فوصف الأمة بكونها هديت إلى صراط مستقيم، وأنها على صراط مستقيم، وصف يقتضي الوسطية لها في دينها، بين السبل المعوجة، ذات اليمين وذات الشمال.
(٣) قال الله ﵎: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣] (البقرة: ١٤٣) .
1 / 22
وقد تتابعت كلمة المفسرين في أن وصف الأمة بالوسط، يراد به كونهم عدولا خيارا، ويدل عليه الأمور التالية:
١ - أن الله ﷾ وصف هذه الأمة في موضع آخر بالخيرية، فقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ١١٠] (آل عمران: ١١٠) (١) .
٢ - أن هذا التفسير جاء فيه حديث صحيح مرفوع عن رسول الله ﷺ، عن أبي سعيد الخدري قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ. فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيَقُولُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣] قال: عدلا ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣]» (٢) .
٣ - أن هذا التفسير هو الذي يطابق السياق، فإن الله تعالى يقول: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: ١٤٣] فالمناسب لكونهم شهداء على الناس أن يثبت لهم وصف الخيرية والعدالة.
فأمة الإسلام جعلت أمة وسطا: عدلا خيارا؛ والعدل الخيار يتضمن الدلالة على كونهم بين الإفراط والتفريط.
_________
(١) أضواء البيان / المدني / (١ / ٧٥) .
(٢) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، الحديث رقم (٧٣٤٩) .
1 / 23
قال الطبري (ت ٣١٠ هـ) ﵀: " وأرى أن الله ﵎ إنما وصفهم بأنهم وسط؛ لتوسطهم في الدين فلا هم أهل غلو فيه - غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هم أهل تقصير فيه - تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به - ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها " اهـ (١) .
والمعنيان متداخلان، ولا تمانع بينهما، فلا مغايرة بين الحديث وبين ما دل عليه معنى الآية (٢)؛ وذلك أن [الوسط في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه كمركز الدائرة، ثم استعير للخصال المحمودة البشرية، لكن لا لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والإعواز والأوساط محمية محوطة؛ فإن تلك العلاقة بمعزل من الاعتبار في هذا المقام، إذ لا ملابسة بينها وبين أهلية الشهادة التي جعلت غاية للجعل المذكور، بل لكون تلك الخصال أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط؛ كالعفة التي طرفاها الفجور والخمود. وكالشجاعة التي طرفاها الظهور والجبن. وكالحكمة التي طرفاها الجربزة (٣) والبلادة. وكالعدالة التي هي كيفية متشابهة حاصلة من اجتماع تلك الأوساط المحفوفة بأطرافها ثم أطلق على المتصف بها مبالغة كأنه نفسها، وسوى فيه بين المفرد والجمع، والمذكر والمؤنث رعاية لجانب الأصل كدأب سائر الأسماء التي يوصف بها.
_________
(١) تفسير الطبري / هجر / (٣ / ٦٢٦ - ٦٢٧) .
(٢) وهذا ما قرره ابن حجر في فتح الباري / السلفية / (٨ / ١٧٣) .
(٣) الخبث والمكر.
1 / 24
وقد روعيت هاهنا نكتة رائقة: هي أن الجعل المشار إليه عبارة عما تقدم ذكره من هدايته تعالى إلى الحق الذي عبر عنه بالصراط المستقيم، الذي هو الطريق السوي الواقع في وسط الطرق الجائرة عن القصد إلى الجوانب، فإنا إذا فرضنا خطوطا كثيرة واصلة بين نقطتين متقابلتين، فالخط المستقيم إنما هو الخط الواقع في وسط تلك الخطوط المنحنية.
ومن ضرورة كونه وسطا بين الطرق الجائرة كون الأمة المهدية إليه أمة وسطا بين الأمم السالكة إلى تلك الطرق الزائغة أي متصفة بالخصال الحميدة خيارا وعدولا مزكين بالعلم والعمل (١) . والله أعلم (٢) .
ومن فوائد هذه الآية الإرشاد إلى أن كل خير ينفع الناس، فقد أمر الله به، ودعا إليه، وكل شر وفساد فقد نهى الله عنه وأمر بتركه، وهذا ضرورة كون هذه الأمة موصوفة بالخيرية، وأنها هديت إلى الصراط المستقيم.
وهذا الوصف بالوسطية ثبت في نصوص عديدة، تؤكد معنى التوسط وعدم الغلو في مظاهر الدين، من ذلك:
(٤) نهيه عن الغلو في الحكم بين الناس، حيث أمر بالعدل، والظلم خلاف العدل، وهو ميل إلى أحد الطرفين على حساب الآخر، قال الله تبارك
_________
(١) من كلام أبي السعود، في تفسيره إرشاد العقل السليم / دار إحياء التراث / (١ / ١٧٢) .
(٢) وبالتقرير السابق تعلم أن الاستشهاد بآية (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) على معنى وسطية الإسلام، استدلال صحيح، خلافا لمن منع الاستدلال بها على معنى وسطية الإسلام. انظر أحكام القرآن لابن العربي (١ / ٥٠)، وتابعه صاحب رسالة وسطية الإسلام / لعبد الرحمن حبنكة الميداني / مؤسسة الريان / ص ٩ - ١٠.
1 / 25
وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: ٥٨] (النساء: ٥٨)، وقوله ﵎: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: ٨] (المائدة: ٨) .
والآيتان دليل على أمر الله ﵎ بما هو مقتض لخيرية هذه الأمة، وكون أهلها عدولا؛ فأمر بالحكم بالعدل؛ ليس فقط في حكمهم بعضهم على بعض، بل حتى في حكمهم على أعدائهم.
والعدل في الحكم مع الأعداء من مظاهر هذه الخيرية التي خص الله ﷿ بها هذه الأمة.
(٥) نهيه عن الغلو في دعاء الله ﷿، و«الدعاء هو العبادة»، حيث أمر بالتوسط فيه دون الجهر وفوق المخافتة، فقال الله ﵎: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ١١٠] (الإسراء: ١١٠) .
والأمر بابتغاء السبيل بين ذلك يعني أن يكون الدعاء تضرعا دون الجهر وفوق السر، فهذا مظهر من مظاهر الأمر بالتوسط في العبادة، التي هي الدعاء.
(٦) نهيه عن الغلو في طلب الدنيا، فلم يأمر بترك الدنيا، والخروج إلى الفيافي، كما لم يأمر بالاستغراق فيها، وكأن الإنسان لا محل له إلا هذه الحياة
1 / 26