Repentance, Repentance Before Regrets
التوبة التوبة قبل الحسرات
Mai Buga Littafi
دار ابن خزيمة
Nau'ikan
حقيقة التوبة وضرورتها
أخي المسلم: أتدري ما هي حقيقة التوبة إلى الله؟
حقيقتها: الرجوع والإقلاع عن الذنوب والندم على ما سلف في الماضي.
قال الإمام ابن القيم: هي الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب وترك ما يكره؛ فهي رجوع من مكروه إلى محبوب.
أخي: ما أحلى الرجوع إلى الله تعالى .. فالتائب راجع عن طريق يسخط الله تعالى إلى طريق يحبه الله تعالى ...
ضرورة التوبة:
أخي المسلم: لقد نادى الله تعالى عباده نداءَ رحيم إذ يقول تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: ٣١].
قال الإمام القرطبي: (وتوبوا إلى الله فإنكم لا تخلون من سهو وتقصير في أداء حقوق الله تعالى فلا تتركوا التوبة في كل حال).
وعن هذه الآية قال الإمام ابن القيم ﵀: وهذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم ..
وقال طلق بن حبيب ﵀: إن حقوقَ الله أعظم من أن يقوم بها العبد ولكن أصبِحُوا تائبين وأمسوا تائبين.
1 / 5
أخي: الرجوع إلى الله تعالى خُلُقٌ ثابت للمؤمن؛ فهو في كل أحواله راجع إلى الله تعالى .. منيبًا إلى ربه ﵎.
أخي: أليس عجيبًا أن يخبرنا النبي ﷺ عن نفسه: أنه يتوب إلى الله في يومه أكثر من مرة؟ ! !
قال رسول الله ﷺ: «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة!» رواه مسلم.
ذاك هو نبينا ﷺ يخبرك بكثرة إنابته ورجوعه إلى الله تعالى وهو الذي غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فكيف بك أيها الإنسان؟ ! !
أخي: الرجوع إلى الله ضرورةٌ تحتاج إليها كحاجتك إلى الطَّعام والشَّراب! وإلا فأين أنت من قول الفاروق عمر بن الخطاب ﵁: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن تُوزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر؛ يومئذ تُعرضون لا تخفى منكم خافية».
أخي المسلم: ذاك هو خلق المسلم الصادق، محاسبة النفس .. ومراجعة الطريق الصحيح .. وسَوقُه لهذه النفس اللجوء إلى طاعة ربها تعالى .. حتى تستقيم على الهدى والرشاد.
قال الحسن البصري ﵀ وهو يقف عند قوله تعالى ﴿لَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللوَّامَةِ﴾: لا تلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والعاجز
1 / 6
يمضي قدمًا لا يعاتب نفسه.
أخي المسلم: اجعل التوبة دائمًا من شغلك .. ولا تستح وأنت تطرق باب ربك تعالى في صباحك ومسائك.
أخي: كما أنك تفكر في صباح كل يوم في معاشك وزادك في الدنيا .. ففكر أيضا في رجوعك إلى الله تعالى؛ فتزوَّد ليوم معادك؛ فإن من أراد السفر إلى مكان تفقَّد متاعَه وزادَه، فأكمل الناقص، وسفرك إلى الله تعالى خير ما تتفقد من أجله التوبة والرجوع إلى الله في كل حين .. ومن علم أنه راجع إلى الله تعالى تهيأ لذلك بما يليق بهذا اللقاء .. فقبيح بك أن تلقى الله - تعالى - على حال لا يرضاها! فما حُجَّتُك يومها؟ ! وما عُذْرُك أمام مَنْ لا تخفى عليه خافية؟ ! !
* * *
باب التوبة مفتوح
أخي المسلم: الرجوع إلى الله تعالى في كل حين ليس بصعب، وليعلم العبد أنه متى أراد التوبة والرجوع إلى ربه تعالى فسيجده قريبًا منه، سامعًا لصوته .. غافرًا لزَلَّته ..
فيا من أسرفتَ في الذنوب .. ويا من أوبقتك المعاصي، أين أنت من باب ربك تعالى؟ !
أين أنت من رحمة غافر الذنوب؟ !
1 / 7
أين أنت من قابل التائبين؟
أين أنت من جابر كسر المذنبين الراجعين؟ !
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: ٥٣].
قال ابن عباس ﵄: من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله ﷿!
وفي الأثر: لما أهبط الله ﷿ إبليس لعنه الله قال: بعزتك إني لا أفارق ابن آدم حتى تفارق روحه جسده!
قال الرب تعالى: «وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر بها».
أخي المسلم: لا تنسَ أنَّ الله تعالى غنيٌّ عن تعذيب عباده ولا يضرُّه عصيان العاصي، ولا تنفعه طاعة المطيع ﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ [النساء: ١٤٧].
﴿وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: ٤٠].
أخي: كثير أولئك الذين ييأسون من رحمة الله تعالى بسبب ما ارتكبوه من الذنوب والمعاصي ونسوا أن الله تعالى يحبُّ من عباده إذا أذنبوا أن يتوبوا إليه ويستغفروه: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ [الشورى: ٢٥]؛ فأين المذنبون من هذا
1 / 8
كلِّه؟ ! فإنك أيها العاصي لن تجد أرحم بك من الله تعالى.
فها هو ﵎ يدعوك إلى التَّوبة وقد فتح لك بابها، فلا تكن من القانطين.
قال النبي ﷺ: «إن الله ﷿ يبسط يدَه بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها». رواه مسلم.
قيل للحسن البصري ﵀: إن الرجلَ يُذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب، إلى متى هذا؟ !
فقال الحسن: لا أعرف هذا إلا من أخلاق المؤمنين!
أخي المسلم: فلا ينبغي لعاقل أن يقنط من رحمة الله تعالى .. ولا يقل: "إن ذنبي كبير". وليعلم أن ذنبَه مهما كان كبيرًا فلن يكون أكبرَ من رحمة الله تعالى ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: «فلا يَحلُّ لأحد أن يَقْنطَ من رحمة الله، ولا أن يُقنط الناس من رحمته؛ لذا قال بعض السلف: وإن الفقيهَ كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصي الله».
فبادر أيها المذنب ثم بادر بالدخول إلى رحمة الله من باب التوبة، ولتعلم أن هذا الباب لا يُغلق إلا يوم أن تبلغ الروح الحلقوم!
قال النبي ﷺ: «إن اللهَ يَقْبَلُ توبةَ العبد ما لم يُغرغر». رواه أحمد والترمذي/ صحيح الترمذي (٣٥٣٧).
1 / 9
وعن مغيث بن سمي قال: كان رجل ممن كان قبلكم يعمل بالمعاصي فبينما هو يسير ذات يوم إذ تفكر فيما سلف فقال: اللهم غفرانك. ثلاث مرات، فأدركه الموت على تلك الحالة فغفر اللهُ له.
فيا أيها العاصي ارحم نفسك ولا تكن من الغافلين عن رحمة الغفور الرحيم ..
أخي: أليس من سعادة التوَّابين أنَّ اللهَ تعالى قال: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: ٢٢٢].
أخي: أليس من سعادة التوَّابين أن الله تعالى يفرح بأوبة الراجعين وإقبال المذنبين!
فالتوبة .. التوبة .. وها هو الباب مفتوح وربُّك تعالى يبسط يده بالليل والنهار لقبول التائبين .. وإقالة المذنبين.
* * *
التسويف في التوبة
أخي المسلم: إن أعظمَ البلاء الذي يقع على المذنبين (تسويف التوبة!)
يقول: سوف أتوب! سوف أترك الذنوب!
سوف أتوب بعد فترة!
هذا هو حجاب التوبة الذي حجب الخلق عن الرجوع والإنابة إلى الله تعالى!
1 / 10
سوف .. لعلي .. !
أخي: ما أسوأ هذا الحجاب الذي حجب العصاةَ عن التوبة!
قال يحيى بن معاذ ﵀: الذي حجب الناس عن التوبة طول الأمل! وعلامة التائب إسبال الدمعة، وحب الخلوة، والمحاسبة للنفس عند كل همة.
أيها المذنب! إلى متى وأنت غارق في المعاصي؟ !
أيها المذنب! إلى متى وأنت معرض عن طريق النجاة؟ !
أيها المذنب! إلى متى وأنت عبدٌ للشيطان؟ !
إلى متى؟ ! إلى متى؟ ! إلى متى؟ !
قدم لنفسك توبةً مرجُوة ... قبل الممات وقبلَ حبس الألسُن
بادر بها غلق النفوس فإنها ... ذخر وغُنْمٌ للمُنيب المحسن
أخي: كم من عصاة سوَّفوا التوبة فأخذهم الموت على غرة وهم لا يشعرون! فندموا حين لم ينفع الندم! وتدفقت الدموع وكثرت الحسرات حين لا ينفع الحزن والندم!
قال أبو بكر الواسطي ﵀: «التأنِّي في كل شيء حسن إلا في ثلاث خصال: عند وقت الصلاة، وعند دفن الميت، والتوبة عند المعصية».
أيها المذنب! ألك أمان من الموت؟ !
أيها المذنب! هل تعلم متى ستموت؟ !
1 / 11
أيها المذنب! هل أنذر الموت أحدًا؟ ! هل أمهل الموت أحدًا؟ !
كم من مذنب إذا سئل: لماذا لا تتوب؟ !
قال: دعوني أتلذذ بشبابي فإذا كبرت تبت وتفرغت للعبادة!
هذا المغرور وغيره كثيرون غرهم ما هم فيه من الصحة والعافية!
ولكن نسي هؤلاء أن الموت لا يفرِّق بين الصغير والكبير! فكم من صغار وشباب ماتوا! وكم من كبار عمروا وعاشوا!
أخي: أولئك هم الذين عاشوا الأماني الكاذبة!
أفاقوا يوم أن نزل عليهم الموت! وهل ينفع الندم يومها؟ ! ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: ١٨].
(من قريب): قال ابن عباس والسُّدي: قبل المرض والموت.
فيا مذنبًا احذر التسويف!
ويا مذنبًا احذر من غفلة لا يوقظك منها إلا ملك الموت!
فإذا النُّفوس تَقَعْقَعَتْ ... في ضيقِ حَشْرَجَة الصُّدُور
فهُنَاكَ تعلمُ مُوقنًا ... ما كُنتَ في غُرور
1 / 12
يا مذنبًا .. احذر من غفلة تقول بعدها: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾.
فلا يكون لك جوابًا يومها إلا: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.
قال يحيى بن معاذ ﵀: (الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادمًا مع الخاسرين!)
فيا حسرة المذنب يومها! ويا طول ندم العاصي! !
يا أيها العَبْدُ المُسيءُ إلى متى ... تُفْنى زمانَكَ في عَسَى ولَرُبَّمَا
بادر إلى مولاك يا مَنْ عُمْرُهُ ... قد ضَاعَ في عصيْانهِ وتصَرَّمَا
وقد جاء في بعض الآثار أن أكثرَ صياح أهل النار من التسويف!
فيا أيها المذنب بادر بإطفاء نار المعاصي بالتوبة النَّصُوح .. وإياك من ذر الرماد على نار المعاصي بـ (سوف) ويوم أن ينكشف هذا الرماد ستعلم يومها أنك كنت في غرور وأماني كاذبات! !
فيا أيها العاصي! إذا نزل الموت انكشفت الغشاوة عن العيون وأيقن المذنب أن الوعيد شديد .. فحشرجت الروح! فيا لها من لحظات فاز فيها السعداء وشقي المذنبون! !
أخي المسلم: احذر (سوف) و(سأتوب)؛ فإن "سوف" من أقوى أعوان عدوِّك اللَّدود (الشيطان)، لا يزال يدعوك إلى تأخير
1 / 13
التوبة حتى يفجأك الموت وأنت على غير توبة!
فبادر بطاعة الرحمن واعص هوى النفس والشيطان.
شروط التوبة
أخي المسلم: للتوبة شروط لابد أن تكون في توبتك وأنت مقبل على طريق التائبين.
أولًا: الإخلاص في التوبة:
أخي المسلم: اجعل توبتَك لله وحده ليس لأحد فيها نصيب، ولتكن كما قال القرطبي: حياء من الله تعالى لا من غيره.
فإن العبد إذا أخلص في توبته وَفَّقَه الله تعالى في إتمامها وثبَّتَه عليها.
ثانيًا: الإقلاع عن المعصية:
فلتعلم أخي أنه ليس بتائب من قال: إني قد تبتُ. وهو واقع في الشهوات المحرمة؛ بل وجب على التائب من محرم أن يقلع عنه، وإن كانت توبته من ترك واجب بادر إلى فعله، وإن كانت حقوقًا للعباد ردَّها إلى أصحابها.
ثالثًا: الندم على ما سلف:
أخي المسلم: إن العاصي مُعْتَد على حقوق الله تعالى، وليس هذا بالهيِّن؛ فمن تاب ورجع كان لزامًا عليه أن يُكْثر من الندم على ما فرط منه في حق الله تعالى .. عسى الله أن يرحم ويعفو ..
1 / 14
رابعًا: العزم على عدم العودة إلى الذنب:
فلابد أخي من استحضار هذا الشرط: أن تتوب وأنت عازم على مفارقة الذنب فراقًا لا رجعة معه .. وصدق العزم دليل على صدق التوبة.
خامسًا: عدم الإصرار:
فقد مدح الله تعالى عبادَه المتَّقين أنهم إذا أذنبوا لا يُصرُّون على الذنب فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٦].
سادسًا: ملازمة العمل الصالح:
فالتائب راجعٌ عن الذنوب والمعاصي إلى ظلِّ الطاعات؛ فناسب أن يكثر من الأعمال الصالحة التي تكون جابرًا لأيَّام تفريطه وعصيانه ..
ولا يدري العبد على أي حال يُخْتَم له، ومن واظب على الصالحات بعد توبته لعل الله تعالى أن يختم له بالخاتمة الحسنة فيلقى الله تعالى تائبًا .. منيبًا.
سابعًا: التوبة وقت القبول:
فإن التائب تقبل توبته ما لم يحدث مانع من قبولها، والذي يمنع
1 / 15
قبول التوبة شيئان: ١ - حضور الأجل ٢ - وطلوع الشمس من مغربها.
قال الله تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: ١٨].
قال علي بن أبي طالب ﵁: «لا يزال العبد في مهل من التوبة ما لم يأته ملك الموت يقبض روحه، فإذا نزل ملك الموت فلا توبة حينئذ».
وهناك شرط آخر ذكره الإمام القرطبيُّ ﵀؛ قال: «وقد قيل: من شروطها الاعتراف بالذَّنب وكثرةُ الاستغفار».
أخي المسلم: تلك الشروط ركائزُ قويةٌ لتوبة يرجو بها صاحبها وجهَ الله تعالى .. ولا خير في توبة لا تقوم على تلك الدعائم.
والإتيان بتلك الشروط لابد منه لتوبة صافية صحيحة ..
ولكن تجد الكثيرين وهم ينوون التوبةَ لا يستكملون تلك الشروط، وهؤلاء مَثَلُهم كمثل رجل بنى بنيانًا فأقام بعض دعائمه وأهمل بعضها!
فقَدِّر لبنيان كهذا هل سيستمر ثابتًا؟ !
فإنه حتمًا سيخر على بانيه!
فلتبن أخي لنفسك توبةً تستكمل شروطها وتؤسِّس دعائمها على أساس قويٍّ راسخ ..
1 / 16
وما على العبد إن هو راجع نفسَه وبحث بين ثناياها حتى يعلم صدقها من كذبها؟ !
ولكن الناس تعوَّدوا التهاونَ في كلِّ شرط يردُّ النَّفسَ عن هواها ويُلزمها طريق الجد!
وأما تلك الشروط التي فيها حفظ للحقوق الدنيوية فتجد الناس حازمين فيها، يطلبون فيها أعلى درجات الكمال! ! وكل ذلك من ضعف البصيرة وتشتُّت نور الإيمان والإقبال على دار الغرور.
ومن استنارت بصيرتُه سعى لإدراك الباقي وأعرض عن الفاني، فاجعل أخي ديدنك دائمًا النظر في حقوق الله تعالى أولًا ثم النظر في حقوقك، ومن كان هذا وصفُه لم يضيع اللهُ حقوقَه ولم يَكله إلى نفسه .. وهَوَّنَ الله له سائر أموره، ورفع درجتَه يوم لقائه.
فانظر أخي في تلك الشروط نظرَ مشفق على نفسه باحث لها عن سبيل نجاتها.
وإن العاقلَ مَنْ حاسب نفسَه على تفريطها .. وألزمها المحجَّةَ الواضحة إن هي تنكَّبَت الطريق.
وصدق التوبة طريق إلى صدق العمل .. وصدق العمل طريق إلى حسن الخاتمة، وحسن الخاتمة طريق إلى الجنة.
التوبة النصوح
إلى من ملأت الغفلة قلبه .. إلى من أسرت الشهوة فؤاده ..
1 / 17
أيها الغافل! إلى متى الغفلة؟ !
أيها المذنب! إلى متى الخوضُ في أوحال المعاصي؟ !
هل لك في توبة صادقة تمحو بها أدران الذنوب؟ ! هل لك في توبة نصوح تغسل بها أدران المعاصي؟ !
هي التوبة النصوح أغلى من كلِّ غال .. وأنفس من كل نفيس!
قليل أولئك الذين يوفَّقون إليها .. والأكثر يتوبون ثم يرجعون ..
أخي المسلم: أتدري ما هي التوبةُ النصوح؟
قال الإمام القرطبي ﵀: «وأصل التوبة النصوح من الخلوص؛ يقال: هذا عسل ناصح إذا خلص من الشمع».
فحقيقة التوبة النصوح: هجرُ للذنوب والآثام بغير عودة ..
وإليك أقوال العالمين العارفين وهم يدلونك على حقيقة التوبة النصوح:
قال عمر بن الخطاب ﵁: «يذنب العبد ثم يتوب فلا يعود فيه».
وقال ابن عباس ﵄: «ألا يعود صاحبها لذلك الذنب الذي يتوب منه».
وقال ابن مسعود ﵁: «الرجل يذنب الذنب ثم لا يعود فيه».
وقال سعيد بن المسيب ﵀: «ما تنصحون بها
1 / 18
أنفسكم».
وقال قتادة ﵀: «هي الصادقة الناصحة».
وقال مجاهد ﵀: «يستغفرون ثم لا يعودون».
وقال الضحاك ﵀: «أن تتحوَّل عن الذنب ثم لا تعود له أبدًا».
أخي المسلم: تلك هي التوبة النصوح كما أخبرك عنها العارفون، وقد اجتمعت أقوالهم في معناها، وإليك أيضًا هذه الباقة من كلام أهل العلم يُعَرِّفونك بحقيقة التوبة النصوح:
قال محمد بن كعب القرظي ﵀: «يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيئ الخلَّان».
وقال شقيق البلخي ﵀: «هو أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة ولا ينفك من الندامة لينجو من آفاتها بالسلامة».
وقال أبو بكر الدقاق ﵀: «التوبة النصوح هي: رد المظالم واستحلال الخصوم وإدمان الطاعات».
أخي المسلم: إن أثر التوبة النَّصوح على المعاصي أشد من أثر الصابون على الثوب الدنس!
والعبد إذا تاب توبة نصوحًا انعكس ذلك في أعماله وأقواله .. فاعتزل الحرام .. وهجر البغيض من الأقوال؛ فكان ذلك بابًا له إلى عمل الصالحات .. وهذا من علامات التوبة الصادقة: أن ترى
1 / 19
صاحبها على حال هي أحسن من حاله الأولى ..
أخي: إذا فكرت في حقيقة التوبة النصوح وجدتَها نادرة الوجود!
فالتائبون كثيرون .. ولكن قليل أولئك الذين يَصدقون في توبتهم!
وكيف لا تكون نادرة وقد عرَّفها جماعة من الصحابة ﵃ فقالوا: (هي التي لا عودة بعدها كما لا يعود اللبن إلى الضرع!)
أخي المسلم: صدق العزيمة دواء لكل داء، وبصدق العزيمة يستطيع العاصي أن يقلع عن كل ذنب! وبضعف العزيمة يقع المرء في أمور وأخطاء قبيحة!
ولك أن تنظر في حال هذين الرجلين أيهما أصدق عزيمة!
رجل استيقظ عند بزوغ الفجر .. وفي البرد الشديد .. في وقت تشتاق فيه النفوس إلى الدفء والنوم، ثم توضأ في ذلك البرد .. ثم خرج من بيته وفراشه الدافئ إلى بيت من بيوت الله تعالى ليلبِّي نداء ربه تعالى: حي على الصلاة .. حي على الفلاح .. والبرد يلفح وجهَه وأطرافه!
ما الذي دعى هذا الرجل إلى ذلك؟ !
أليست هي العزيمة الصادقة في السعي إلى مرضاة الله تعالى؟ !
وهنالك رجل آخر سهر أول ليله في اللهو وهوى النفس! حتى
1 / 20
إذا بدت علامات الفجر رمى بنفسه على فراشه .. فاجتمع عليه السهر وحب النوم والدفء وشدة البرد مع ضعف العزيمة!
فأي الرجلين عندك أصدق عزيمة وأوفر مروءة؟ !
وقس على ذلك كل عمل صالح .. فإن من ألزم نفسه بالصلاة في المسجد، تعودت ذلك وهان عليها .. ومن تساهل في ذلك شق عليه وكان الذهاب عنده إلى المسجد كحمل جبل على كاهله!
أخي المسلم: فحقيقة التوبة النصوح عزم صادق على ترك المعاصي، يقابله عزم صادق على فعل الصالحات.
فكن ذا عزم وصدق في توبتك لتستقبل حياة جديدة؛ إذ إن التوبة النصوح كفارة لما مضى من الذنوب.
قال ابن مسعود ﵁: التوبة النصوح تكفر كل سيئة.
فاصدق أيها المذنب في رجوعك إلى الله تعالى تجد ربك تعالى راضيًا عنك.
فضائل التوبة
أخي المسلم: التوبة كنز عظيم .. وغنيمة نادرة .. جعل الله تعالى فيها واسع رحمته وبشائر خيراته لعباده .. حتى يعلموا أن لهم رب يعفو عن الذنب ويتجاوز عن الخطايا لمن تاب إليه والتجأ ببابه طالبًا عفوه ورحمته.
ولكي تقف معي على شرف التوبة ومنزلتها السامية لابد أن
1 / 21
تعلم أن التوبة علاقة بين الله تعالى وعبده التائب إليه؛ وذلك بأن تتصور ما يجده التائب من الكرم الإلهي والرحمة الواسعة! ومن هنا أبدأ معك بأوَّل فضل من فضائل التوبة، وهو أن الله تعالى يفرح بتوبة التائبين.
وقد ضرب لنا النبي ﷺ مثلًا صادقًا لهذا الفرح فقال ﷺ: «لله أفرحُ بتوبة العبد من رجل نزل منزلًا وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده!» رواه البخاري.
وفي مسلم: «فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح».
فتصوَّر أيها التائب فرح الله تعالى بتوبتك! ماذا سيكون جزاء ذلك؟ !
التوبة سبب الفلاح:
أخي المسلم: التوبة الصادقة مفتاح كل فلاح ونجاح، وقد دعا الله تعالى عباده المؤمنين إلى هذا الفلاح بقوله: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور ٣١].
قال نصر بن محمد السمرقندي ﵀: يعني لكي تنجوا من عذابه وتنالوا من رحمته؛ فبين - تعالى - أن التوبة مفتاح كل خير وأن فلاح المؤمن في توبته.
1 / 22
التوبة تكفِّر السيئات:
أخي المسلم: وهذه حسنة أخرى من حسنات التوبة؛ أن يمحو الله عن التائب سيئاته ليلقى الله بصحيفة بيضاء خالية من الذنوب ..
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [التحريم: ٨].
قال ابن عباس ﵄: إذا تاب العبد تاب الله عليه وأنسى الحفظة ما كانوا كتبوا من مساوئ عمله، وأنسى جوارحه ما عملت من الخطايا، وأنسى مقامه من الأرض، وأنسى مقامه من السماء؛ ليجيء يوم القيامة وليس شيء من الخلق يشهد عليه بذلك.
التوبة سبب لنزول الخيرات:
أخي المسلم: ومن فضائل التوبة أيضًا وبركاتها العظيمة أنها سبب في نزول الخيرات وتتابع النِّعم؛ قال الله تعالى حكاية عن هود ﵊: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: ٥٢].
وقال الله تعالى حكاية عن نوح ﵊: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: ١٠ - ١٢].
1 / 23
ولما استسقى عمر بن الخطاب ﵁ في عام الرمادة لم يزد على الاستغفار فسُقوا، فقالوا له: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ...﴾ الآيات السابقة.
وحقيقة الاستغفار هنا كما ذكر الإمام القرطبي: أن يكون ذلك عن إخلاص وإقلاع عن الذنوب.
التوبة سبب لنيل محبة الله تعالى:
وهذه هي الغاية العظيمة التي يسعى لإدراكها الصالحون .. ومن ظفر بمحبة الله تعالى فقد فاز بأعظم كنز.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: ٢٢٢].
ومن أحبه الله تعالى فاز برضوانه وكرامته.
التوبة توجب آثارًا عجيبة للتائب:
فالتائب يجني من توبته آثارًا عجيبة من المحبة والرقة واللطف وشكر الله وحمده والرضا عنه والانكسار والتذلُّل لله تعالى ما هو أحب إلى الله تعالى من كثير من الأعمال الظاهرة.
جاء عن بعض التابعين: إن المذنب يذنب فلا يزال نادمًا مستغفرًا حتى يدخل الجنة، فيقول الشيطان: يا ليتني لم أوقعه فيه!
في التوبة إغاظة للشيطان:
أخي المسلم: أنت في هذه الدنيا في معركة ضروس مع
1 / 24