Refutation of Those Who Deny the Authority of the Sunnah
الرد على من ينكر حجية السنة
Mai Buga Littafi
مكتبة السنة
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٩٨٩ م
Nau'ikan
[القِسْمُ الثَّالِثُ] (*): بَيَانُ الشُّبَهِ التِي أَوْرَدَهَا بَعْضُ مَنْ يُنْكِرُ حُجِيَّةَ السُنَّةِ وَالرَدِّ عَلَيْهَا:
تأليف الدكتور / عبد الغني محمد عبد الخالق
_________
(*) هذا هو القسم الثالث من كتاب (دفاع عن السنة، لأبي شهبة)، وهو فصل من الكتاب المهم (حجية السنة) لعبد الغني عبد الخالق، رحمهما الله تعالى
1 / 395
بسم الله الرحمن الرحيم
قد تبين مما تقدم (*) أن حُجِّيَّةَ السُنَّةِ [ضرورة] دينية. وتبين لك أدلة حجيتها بأجلى بيان: بحيث لا يبقى معه في قلب مؤمن شبهة أو شك.
غير أن بعض من تظاهر بالإسلام والمحافظة عليه، وتطهيره مما طرأ عليه من تغيير وتبديل - يورد لضعاف العقول من المسلمين شبهًا يبطل بها حُجِّيَّةَ السُنَّةِ.
وإن ممن تأثر بهذه الشبهة الدكتور محمد توفيق صدقي: حيث أخض ينشرها في مجلة " المنار " (١)، ويزكيها ويدافع عنها تحت عنوان «الإسلام هو القرآن وحده» ظنًا منه أنه بذلك يخدم دينه ويدافع عنه.
ولو أننا ضربنا صفحًا عن حكاية هذه الشبه، وبيان فسادها، لكان منا رأيًا متينًا، ومذهبًا صحيحًا. إذ الإعراض عن القول المُطَّرَحِ أحرى لإماتته وإخمال ذكر قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهًا للجهال عليه.
غير أنا لما تخوفنا من شرور العواقب، واغترار الجهلة بمحدثات الأمور وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد هذه الشبهة، وَرَدِّ هذه الأقوال بقدر ما يليق بها من الرد، أجدى على الأنام، وأحمد للعاقبة إن شاء الله» (٢).
فلا يتأثر بها شخص آخر مثله: ممن هو بعيد عن الفقه وأصوله ولا يدري م الدين وتعاليمه إلا القشور.
...
_________
(*) مما هو جدير بالتنويه إليه أن هذا البحث الماتع هو فصلة من كتاب يعد بحق مفخرة مصنفات القرن الرابع عشر الهجري، ألا وهو " حُجِّيَّةَ السُنَّةِ". الناشر.
(١) ص ٩ ع ٧ ص ٥١٥ وع ١٢ ص ٩١٣، ٩١٤.
(٢) اقتباس (بتصرف يسير) من كلام مسلم بن الحجاج في مقدمة " صحيحه ": ج ١ ص ٢٢.
1 / 396
الشُبْهَةُ الأُولَى: قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الكِتَابَ قَدْ حَوَى كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ ..:
أن الله تعالى يقول: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (١) ويقول: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (٢).
وذلك يدل على أن الكتاب قد حوى كل شيء من أمور الدين، وكل حكم من أحكامه، وأنه قد بينه بيانًا تامًا، وفصله تفصيلًا واضحًا: بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر مثل السُنَّةِ ينص على حكم من أحكام الدين أو يبينه ويفصله، وإلا: لكان الكتاب مفرطا فيه، ولما كان تبيانا لكل شيء، فيلزم الخلف في خبره تعالى. وهو محال.
...
الجواب:
أنه ليس المراد من الكتاب - في الآية الأولى -: القرآن، بل المراد به: اللوح المحفوظ، فإنه الذي حوى كل شيء، واشتمل على جميع أحوال المخلوقات كبيرها وصغيرها، جليلها ودقيقها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، على التفصيل التام، كما قال ﷺ: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وهذا هو المناسب لذكر هذه الجملة عقب قوله: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ (٣). فإن أظهر الأقوال - في معنى المثلية هنا: أن أحوال الدواب من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاء، موجودة في الكتاب المحفوظ مثل أحوال البشر في ذلك كله.
ولو سلمنا أن المراد به القرآن - كما هو في الآية الثانية: فلا يمكن حمل الآيتين على ظاهرهما: من العموم، وأن القرآن اشتمل على بيان وتفصيل كل شيء، وكل حكم، سواء أكان ذلك من أمور الدين أم من أمور الدنيا، وأنه لم يفرط في
_________
(١) [سورة الأنعام، الآية: ٣٨].
(٢) [سورة النحل، الآية: ٨٩].
(٣) [سورة الأنعام، الآية: ٣٨].
1 / 397
شيء منها جميعها. وإلا للزم الخلف في خبره تعالى. كما هو ظاهر بالنسبة للأمور الدنيوية، وكما يعلم مما سبق في بيان أن القرآن يتعذر العمل به وحده بالنسبة للأحكام الدينية. فيجب العدول عن ظاهرهما، وتأويلهما.
وللعلماء في تأويلهما وجوه:
الوجه الأول: أن المراد: أنه لم يفرط في شيء من أمور الدين وأحكامه، وأنه بَيَّنَهَا جميعها دون ما عداها، لأن المقصود من إنزال الكتاب: بيان الدين، ومعرفة الله، ومعرفة أحكام الله
إلا أن هذا البيان على نوعين:
بيان بطريق النص، وذلك: مثل بيانه أصول الدين وعقائده، وبيانه وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، وحل البيع والنكاح، وحرمة الربا والفواحش، وحل أكل الطيبات وحرمة أكل الخبائث.
وبيان بطريق الإحالة على دليل من الأدلة الأخرى التي اعتبرها الشارع في كتابة أدلة وَحُجَجًا على خلقه. فكل حكم - مما بينته السنة أو الإجماع أو القياس أو غير ذلك من الأدلة المعتبرة: فالقرآن مبين له. لأنه بين مدركه ووجهنا نحوه، وأرشدنا إليه، وأوجب علينا العمل به. ولولا إرشاده لهذا المدرك، وإيجابه العمل بمقتضاه: لما علمنا ذلك الحكم وعملنا به. فالقرآن إذن هو: أساس التشريع، وإليه ترجع جميع أحكام الشريعة الإسلامية بهذا المعنى.
قال الشافعي (١): " فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة، إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها. قال الله ﵎: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (٢) وقال: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (٣)، وقال: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً
_________
(١) في صدر " الرسالة ": ص ٢٠.
(٢) [سورة إبراهيم، الآية: ١].
(٣) [سورة النحل، الآية: ٤٤].
1 / 398
وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (١) وقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (٢).
«والبيان اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشبعة الفروع، فأقل ما في تلك المعاني المجتمعة المتشبعة: أنها بيان لمن خوطب بها - ممن نزل القرآن بلسانه - متقاربة الاستواء عنده وإن كان بعضها أشد تأكيد بيان من بعض. ومختلفة عند من يجهل لسان العرب».
«فجماع ما أبان الله لخلقه في كتابه مما تعبدهم به بما مضى في حكمه جل ثناؤه - من وجوه:
(فمنها): ما أبانه لخلقه نَصًّا. مثل جمل فرائضه في أن عليهم صلاة وزكاة وَحَجًّا وَصَوْمًا، وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونص الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وَبَيَّنَ لهم كيف فرض الوضوء، مع غير ذلك مما بين نَصًّا».
«ومنها: ما أحكم فرضه بكتابه، وبين كيف هو على لسان نبيه، مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتها وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه».
«ومنها: ما سن رسول الله ﷺ مما ليس لله فيه نص حكم، وقد فرض الله في كتابة طاعة رسوله ﷺ والانتهاء إلى حكمه. فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قبل».
«ومنها: ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم. فغنه يقول ﵎: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ (٣)،
_________
(١) [سورة النحل، الآية: ٨٩].
(٢) [سورة الشورى، الآية: ٥٢].
(٣) [سورة محمد، الآية: ٣١].
1 / 399
وقال: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (١)، وقال: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (٢)، إلى آخر ما قال.
ثم قال: (٣) «البيان الرابع: كل ما سَنَّ رسول الله مما ليس فيه كتاب. وفيما كتبنا في كتابنا هذا - من ذكر ما مَنَّ الله به على العباد: من تعلم الكتاب والحكمة - دليل على أن الحكمة سُنَّةُ رسول الله، مع ما ذكرنا مما افترض الله على خلقه من طاعة رسوله وبين من موضعه الذي وضعه الله به من دينه - الدليل على أن البيان في الفرائض المنصوصة في كتاب الله من أحد هذه الوجوه:
(منها): ما أتى الكتاب على غاية البيان فيه، فلم يحتج مع التنزيل فيه إلى غيره.
(ومنها): ما أتى على غاية البيان في فرضه وافترض طاعة رسوله. فبين رسول الله عن الله: كيف فرضه وعلى من فرضه؟ ومتى؟ يزول بعضه ويثبت ويجب؟
(ومنها): ما بينه عن سنة نبيه بلا نص كتاب، وكل شيء منها بيان في كتاب الله، فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه: قبل عن رسول الله سننه بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل لما افترض الله من طاعته. فيجمع القبول لما في كتاب الله ولسنة رسول الله القبول لكل واحد منهما عن الله، وإن تفرقت فروع الأسباب التي قبل بها عنهما. كما أحل وحرم وفرض وحد بأسباب متفرقة. كما شاء - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (٤) [الأنبياء: ٢٣]. اهـ.
ومن هذا الكلام الأخير تعلم الجواب عما قاله الدكتور صدقي في مقاله (٥): «لم كان بعض الدين قرآنا والبعض الآخر حديثا؟ وما الحكمة في ذلك؟».
_________
(١) [سورة آل عمران، الآية: ١٥٤].
(٢) [سورة الأعراف، الآية: ١٢٩].
(٣) ص ٣٢.
(٤) [سورة الأنبياء، الآية: ٢٣].
(٥) س ٩ ع ٧ ص ٥١٥.
1 / 400
وقد حكي أن الشافعي ﵀ كَانَ جَالِسًا فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ فَقَالَ: «لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَجَبْتُكُمْ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ»، فَقَالَ رَجُلٌ: «مَا تَقُولُ فِي المُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ الزُّنْبُورَ؟» فَقَالَ: «لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ»، فَقَالَ: «أَيْنَ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ؟» فَقَاَل: قَالَ اللهُ تَعَالَى ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ...﴾. ثم ذكر إسنادًا إلى النبي ﷺ أنه قال: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» ثم ذكر إسنادًا إلى عمر ﵁ أنه قال: «لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ الزَّنْبُورِ». فأجابه من كتاب الله مستنبطًا بثلاث درجات، وقد حكي عن ابن مسعود في لعنة الواشمة والمستوشمة نحو ذلك مما تقدم ذكره (*).
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَيْسَ [لِلْجَلْدِ] (**) وَالتَّغْرِيبِ ذِكْرٌ فِي نَصِّ الْكِتَابِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فَهُوَ عَيْنُ كِتَابِ اللَّه
وقد روي في حديث العسيف الزاني: " أن أباه قال للنبي ﷺ: اقض بيننا بكتاب الله. فقال - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - «لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ» ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة إن اعترفت. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: «وَلَيْسَ [لِلْجَلْدِ] (**) وَالتَّغْرِيبِ ذِكْرٌ فِي نَصِّ الْكِتَابِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فَهُوَ عَيْنُ كِتَابِ اللَّه» (١). اهـ.
...
الوجه الثاني: أن الكتاب لم يُفَرِّطْ في شيء من أمور الدين على سبيل الإجمال، وَبَيَّنَ جميع كليات الشريعة دون النص على جزئياتها وتفاصيلها. ومن المعلوم أنَّ ذلك لا يكفي في استنباط المجتهد مَا يُقَوِّمَ العبادة، وَيُحرِّرُ المُعَامَلَةَ. فَلاَ بُدَّ له من الرجوع إلى مَا يُبيِّنُ له المُجْمَلَ وَيُفَصِّلَهُ لَهُ، وَيُبيِّنُ جزئيات هذه الكليات. وسيأتي عند الكلام على كون السُنَّة مُسْتَقِلَّةٌ بالتشريع - بيان آراء العلماء في هذا الوجه.
قال أبو سليمان الخطابي - في " معالم السُنن " (٢) - «سمعتُ ابن الأعرابي
_________
(١) انظر " تفسير الفخر الرازي ": ج ٤ ص ٤٠، ٤١.
(٢) ج ١ ص ٨.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) انظر في قول عبد الله بن مسعود ﵁ ص ١٦ من هذا الكتاب.
(**) في الكتاب المطبوع وردت كلمة (لِلْرَّجْمِ) بينما هي في " تفسير الرازي " (لِلْجَلْدِ) كما أثبتها، انظر " مفاتيح الغيب " للفخر الرازي: ١٢/ ٥٢٨، الطبعة الثالثة: ١٤٢٠ هـ، نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان.
1 / 401
يقول ونحن نسمع منه هذا الكتاب (يعني " سنن أبي داود ") فأشار إلى النسخة وهي بين يديه: «لو أن رجلا لم يكن عنده من العلم إلا المصحف الذي فيه كتاب الله ثم هذا الكتاب: لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بتة. وهذا كما قال شك فيه: لأن الله تعالى أنزل كتابه تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَقَالَ: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (١) فأخبر سبحانه أنه لم يغادر شيئا من أمر الدين لم يتضمن بيانه الكتاب إلا أن البيان على ضربين: بيان جَلِيٌّ تناوله الذكر نَصًّا، وبيان خفي اشتمل عليه معنى التلاوة ضمنا، فما كان من هذا الضرب كان تفصيل بيانه موكولا إلى النبي وهو معنى قوله سبحانه: لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون فمن جمع بين الكتاب والسنة فقد استوفى وجهي البيان». اهـ.
الوجه الثالث - وقد حكاه الألوسي (٢) عن بعضهم -: أن الأمور إما دينية أو دنيوية. والدنيوية لا اهتمام للشارع بها: إذ لم يبعث له. والدينية إما أَصْلِيَّةٌ أَوْ فَرْعِيَّةٌ. والاهتمام بالفرعية دون الاهتمام بالأصلية: فإن المطلوب أولًا بالذات من بعثة الأنبياء هو التوحيد وما أشبهه، بل المطلوب من خلق العباد هو معرفته تعالى، كما يشهد له قوله سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (٣) بناء على تفسير كثير " العبادة ": بالمعرفة. وقوله تعالى - في الحديث القدسي المشهور على الألسنة المصحح من طريق الصوفية: «كُنْتُ كَنْزًا مَخْفِيًّا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ. فَخَلَقْتُ الْخَلْقَ لأُعَرِّفَ» (*) والقرآن العظيم: قد تكفل بالأمور الدينية الأصلية على أتم وجه. فليكن المراد من «كُلِّ شَيْءٍ» ذلك.
_________
(١) [سورة الأنعام، الآية: ٣٨].
(٢) في " تفسيره ": ج ١٤ ص ١٩٧.
(٣) [سورة الذاريات، الآية: ٥٦].
(*) قال ابن عراق في " تنزيه الشريعة ": ج ١ ص ١٤٨: قال ابن تيمية: «موضوع» [الناشر].
1 / 402
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ إِنَّ اللهَ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ القُرْآنِ دُونَ السُنَّةِ ..:
أن الله تعالى تكفل بحفظ القرآن دون السُنَّةِ. كما يدل عليه قوله سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (١) ولو كانت السُنَّةُ حُجَّةً ودليلًا مثل القرآن: لتكفل الله بحفظها اَيْضًا.
...
الجَوَابُ:
أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الشريعة كلها: كتابها وسنتها. كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (٢). ونور الله: شَرْعُهُ وَدِينُهُ الذي ارتضاه للعباد وكلفهم به وضمنه مصالحهم، والذي أوحاه إلى رسوله - من قرآن أو غيره -: ليهتدوا به إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
وأما قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ فللعلماء في ضمير الغيبة فيه - قولان:
أحدهما: أنه يرجع إلى محمد ﷺ فلا يصح التمسك بالآية حينئذ.
ثانيهما: أنه يرجع إلى الذكر، فإن فسرناه بالشريعة كلها - من كتاب وسنة - فلا تمسك بها اَيْضًا. وإن فسرناه بالقرآن فلا نسلم أن في الآية حصرا حَقِيقِيًّا. أي: بالنسبة لكل ما عدا القرآن. فإن الله تعالى قد حفظ أشياء كثيرة مما عداه: مثل حفظه النبي ﷺ من الكيد والقتل، وحفظه العرش والسموات والأرض من الزوال إلى أن تقوم الساعة. والحصر الإضافي بالنسبة إلى شيء مخصوص، يحتاج إلى دليل وقرينة على هذا الشيء المخصوص ولا دليل عليه سواء أكان سنة أم غيرها.
_________
(١) [سورة الحجر، الآية: ٩].
(٢) [سورة التوبة، الآية: ٣٢].
1 / 403
فتقديم الجار والمجرور ليس للحصر، وإنما هو لمناسبة رؤوس الآي.
بل: لو كان في الآية حصر إضافي بالنسبة إلى شيء مخصوص: لما جاز أن يكون هذا الشيء هو السُنَّةُ. لأن حفظ القرآن متوقف على حفظها، ومستلزم له: بما أنها حصنه الحصين، ودرعه المتين، وحارسه الأمين، وشارحه المبين: تفصل مجمله، وتفسر مشكله، وتوضح مبهمه، وتقيد مطلقه، وتبسط مختصره. وتدفع عنه عبث العابثين، ولهو اللاهين، وتأويلهم إياه على حسب أهوائهم وأغراضهم، وما تمليه عليهم رؤساؤهم وشياطينهم، فحفظها من أسباب حفظه، وصيانتها صيانة له.
ولقد حفظها الله تعالى كما حفظ القرآن: فلم يذهب منها - وَللهِ الحَمْدُ - شيء على الأمة، وإن لم يستوعبها كل فرد على حدة.
قال الشافعي (١) في صدد الكلام على لسان العرب:
«ولسان العرب: أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه».
«والعلم به - عند العرب - كالعلم بالسنة عند أهل الفقه: لا نعلم رجلا جمع السنن: فلم يذهب منها عليه شيء».
«فإذا جُمِعَ علم عامة أهل العلم بها: أتى على السنن، وإذا فرق علم كل واحد منهم: ذهب عليه الشيء منها. ثم كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيره».
«وهم في العلم طبقات: (منهم): الجامع لأكثره وإن ذهب عليه بعضه
_________
(١) في " الرسالة ": ص ٤٢، ٤٣.
1 / 404
(ومنهم): الجامع الأقل مما جمع غيره. وليس قليل ما ذهب - من السنن - على من جمع أكثرها: دليلًا على أن يطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم.
بل يطلب عند نظرائه ما ذهب عليه، حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله (بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي): فيتفرد جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وعوا منها». اهـ.
وكما أن الله تعالى قيض للكتاب العزيز، العدد الكثير والجم الغفير: من ثقات الحفظة، في كل قرن -: لينقلوه كاملًا من السلف إلى الخلف: كذلك قيض سبحانه للسنة الشريفة مثل هذا العدد - أو أكثر -: من ثقات الحفظة، فقصروا أعمارهم - وهي الطويلة - على البحث والتنقيب عن الصحيح من حديث رسول الله ﷺ: ينقلونه عمن كان مثلهم في الثقة والعدالة، إلى أن يصلوا إلى رسول الله ﷺ. حتى ميزوا لنا الصحيح من السقيم، ونقلوه إلينا: سليمًا من كل شائبة، عَارِيًا عن أي شك وشبهة، واستقر الأمر، وأسفر الصبح لذي عينين.
ولأن الله تعالى قد حفظ سنة رسوله كما حفظ القرآن، وجعلها حصنه ودرعه، وحارسه وشارحه -: كانت الشجي في حلوق الملحدين، والقذى في عيون المتزندقين، والسيف القاطع: لِشُبَهِ المنافقين، وتشكيكات الكائدين.
فلا غرو إذا لم يألوا جُهْدًا، ولم يدخروا وُسْعًا: في الطعن في حجيتها، والتهوين من أمرها، والتنفير من التمسك بها، والاهتداء بهديها: لينالوا من القرآن ما يريدون، ومن هدم الدين ما ينشدون، ﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (١).
...
_________
(١) [سورة التوبة، الآية: ٣٢].
1 / 405
الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَتْ السُنَّةُ حُجَّةً لأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِكِتَابَتِهَا وَلَعَمِلَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ عَلَى جَمْعِهَا وَتَدْوِينِهَا!!:
[قَالُوا]: لو كانت السنة حجة لأمر النبي ﷺ بكتابتها، ولعمل الصحابة والتابعون - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - من بعد على جمعها وتدوينها. فإن حجيتها تستدعي الاهتمام بها والعناية بحفظها والعمل على صيانتها حتى لا يعبث بها العابثون ولا يبدلها المبدلون - ولا ينساها الناسون ولا يخطئ فيها المقصرون. وحفظها وصيانتها إنما يكون بالأمر بتحصيل سبيل القطع بثبوتها للمتأخرين. فإن ظني الثبوت لا يصح الاحتجاج به كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (١) وقوله: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ﴾ (٢) ولا يحصل القطع بثبوتها إلا بكتابتها وتدوينها كما هو الشأن في القرآن. لكن التالي باطل. فإن النبي ﷺ لم يقتصر على عدم الأمر بكتابتها بل تعدى ذلك إلى النهي عنها والأمر بمحو ما كتب منها. وكذلك فعل الصحابة والتابعون. ولم يقتصر الأمر منهم على ذلك بل امتنع بعضهم من التحديث بها أو قَلَّلَ منه ونهى الآخرين عن الإكثار منه. ولم يحصل تدوينها وكتابتها إلا بعد مضي مدة طويلة تكفي لأن يحصل فيها من الخطأ والنسيان والتلاعب والتبديل والتغيير ما يورث الشك في أي شيء منها وعدم القطع به ويجعلها جديرة بعدم الاعتماد عليها وأخذ حكم منها.
فهذا الذي حصل من النبي ﷺ ومن الصحابة والتابعين يدل على أن الشارع قد أراد عدم حصول سبيل القطع بثبوتها. وهذه الإرادة تدل على أنه لم يعتبرها وأراد أن لا تكون حجة.
وإليك من الأحاديث والآثار ما يقنعك بما ادعينا حصوله من النبي ﷺ والصحابة والتابعين:
روى مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وَحَدِّثُوا عَنِّي، وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
_________
(١) [سورة الإسراء، الآية: ٣٦].
(٢) [سورة الأنعام، الآية: ١١٦]، [سورة يونس، الآية: ٦٦]، [سورة النجم، الآية: ٢٣]، [سورة النجم، الآية: ٢٨].
1 / 406
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كُنَّا قُعُودًا نَكْتُبُ مَا نَسْمَعُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ فَخَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «مَا هَذَا تَكْتُبُونَ؟» فَقُلْنَا: مَا نَسْمَعُ مِنْكَ، فَقَالَ: «أَكِتَابٌ مَعَ كِتَابِ اللهِ؟» فَقُلْنَا: مَا نَسْمَعُ، فَقَالَ: «أَكِتَابٌ [غَيْرُ] كِتَابَ اللهِ امْحِضُوا كِتَابَ اللهِ، [وَأَخْلِصُوهُ]» قَالَ: فَجَمَعْنَا مَا كَتَبْنَا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ أَحْرَقْنَاهُ بِالنَّارِ، قُلْنَا: أَيْ رَسُولَ اللهِ ﷺ. أَنَتَحَدَّثُ عَنْكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ تَحَدَّثُوا عَنِّي وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَتَحَدَّثُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: " نَعَمْ، تَحَدَّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَحَدَّثُونَ عَنْهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ أَعْجَبَ مِنْهُ».
وروى أبو داود عَنِْ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، [عَلَى] مُعَاوِيَةَ ﵄ فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ [فَأَمَرَ إِنْسَانًا يَكْتُبُهُ]، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمَرَنَا أَنْ لاَ نَكْتُبَ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ». فَمَحَاهُ.
وأخرج الحاكم عن القاسم بن محمد أنه قال: قالت عائشة: جمع أبي الحديث عن رسول الله ﷺ فكانت خمسمائة حديث. فبات ليلة يتقلب كثيرا. فغمني فقلت: تتقلب لشكوى أو لشيء بلغك فلما؟ أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك. فجئته بها. فدعا بنار فأحرقها وقال: «خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ وَهِيَ عِنْدَكِ فَيَكُونُ فِيهَا أَحَادِيثٌ عَنْ رَجُلٍ اِئْتَمَنْتُهُ وَوَثِقْتُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ كَمَا حَدَّثَنِي. فَأَكُونُ قَدْ تَقَلَّدْتُ ذَلِكَ». وأخرجه اَيْضًا أبو أمية الأحوص بن المفضل الغلابي، عن القاسم أو ابنه عبد الرحمن. وزاد: «وَيَكُونُ قَدْ بَقِيَ حَدِيثٌ لَمْ أَجِدْهُ». (١) فيقال: لو كان قاله رسول الله ﷺ ما خفي على أبي بكر. «إِنِّي حَدَّثْتُكُمْ الحَدِيثَ وَلاَ أَدْرِي لَعَلِّي لَمْ أَسْمَعْهُ حَرْفًا حَرْفًا». ذكره في " منتخب كنز العمال ". وذكره الذهبي في " التذكرة " (*) عن الحاكم بنحو الرواية الأولى، وقال: «فَهَذَا لاَ يَصِحُّ»
_________
(١) قال ابن كثير: «هذا غريب من هذا الوجه جدًا، وعلي بن صالح [أحد رجال سند الروايتين] لا يعرف؛ والأحاديث عن رسول الله ﷺ أكثر من هذا المقدار بألوف، ولعله إنما اتفق له جمع تلك فقط، ثم رأى ما رأى لما ذكر». وتعقبه السيوطي: بأنه لعله جمع ما فاته سماعه من النبي وحدثه به بعض الصحابة والظاهر أنه لا يزيد على المقدار، ثم خشي أن يكون الذي حدثه وهم.
---------------------
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) ذكر الذهبي في " تذكرة الحفاظ ": ١/ ٥ وأورده بسند الحاكم ثم عَقَّبَ على ذلك بفوله: «فَهَذَا لاَ يَصِحُّ»، قارن بما ورد في ص ١٧٩ من هذا الكتاب. ويقول الشيخ المعلمي اليماني - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: «... لَكِنَّ الخَبَرَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ»، انظر " الأنوار الكاشفة ": ص ٣٨، طبعة سنة: ١٤٠٦ هـ / ١٩٨٦ م، نشر المطبعة السلفية ومكتبتها / عالم الكتب. بيروت - لبنان.
1 / 407
وقال الحافظ الذهبي في " التذكرة ": ومن مراسيل ابن أبي مليكة أَنَّ الصِدِّيقَ جَمَعَ النَّاسَ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهِمْ فَقَالَ: «إِنَّكُم تُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُول الله ﷺ أَحَادِيثَ تَخْتَلِفُونَ فِيهَا وَالنَّاسُ بَعْدَكُمْ أَشَدُّ اخْتِلاَفًا. فَلاَ تُحَدِّثُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ شَيْئًا. فَمَنْ سَأَلَكُمْ فَقُولُوا: بَيْنَنَا وَبَيْنكُمْ كِتَابُ اللهِ. فَاسْتَحِلُّوا حَلاَلَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ» (١).
وروى ابن عبد البر عَنْ قَرَظَةَ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجْنَا نُرِيدُ العِرَاقَ فَمَشَى مَعَنَا عُمَرُ إِلَى «صِرَارٍ» (٢) فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: " أَتَدْرُونَ لِمَ مَشَيْتُ مَعَكُمْ؟ " قَالُوْا: " نَعَمْ نَحْنُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَشَيْتَ مَعَنَا "، فَقَالَ: " إِنَّكُمْ تَأْتُونَ أَهْلَ قَرْيَةٍ لَهُمْ دَوِيٌّ بِالقُرْآنِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ فَلاَ تَصُدُّوهُمْ بِالحَدِيثِ فَتَشْغَلُوهُمْ، [جَوِّدُوا] القُرْآنَ وَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَامْضُوا وَأَنَا شَرِيكُكُمْ "، فَلَمَّا قَدِمَ قَرَظَةُ قَالُوا: " حَدِّثْنَا "، قَالَ: " نَهَانَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ "» وذكره الذهبي مختصرًا.
وروى الذهبي في " التذكرة ": أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سُئِلَ: أَكُنْتَ تُحَدِّثُ فِي زَمَانِ عُمَرَ هَكَذَا فَقَالَ: «لَوْ كُنْتُ أُحَدِّثُ فِي زَمَانِ عُمَرَ مِثْلَ مَا أُحَدِّثُكُمْ لَضَرَبَنِي بِمِخْفَقَتِهِ»
وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه: أن عمر حبس ثلاثة: ابن مسعود وأبا الدرداء، وأبا مسعود الأنصاري، فقال: «قَدْ أَكْثَرْتُمْ الحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ».
وروى البيهقي في " المدخل "، وابن عبد البر، عن عروة بن الزبير: أن عمر بن الخطاب ﵁ أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب النبي ﷺ في ذلك فأشاروا عليه بأن يكتبها. فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا ثم أصبح يوما وقد عزم الله له فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله. وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ﵁ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ السُّنَنَ [فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ] أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَشَارُوا عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَهَا. فَطَفِقَ عُمَرُ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهَا شَهْرًا، ثُمَّ أَصْبَحَ يَوْمًا وَقَدْ عَزَمَ اللَّهُ لَهُ، قَالَ: «إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَكْتُبَ السُّنَنَ، وَإِنِّي ذَكَرْتُ قَوْمًا كَانُوا قَبْلَكُمْ كَتَبُوا كُتُبًا فَأَكَبُّوا عَلَيْهَا وَتَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ [أَلْبَسُ] كِتَابَ اللَّهِ بِشَيْءٍ أَبَدًا».
_________
(١) انظر ما علقه الذهبي على هذا الأثر: ج ١ ص ٣، ٤.
(٢) هو (كما في " القاموس "): موضع بقرب المدينة. وورد في " مذكرة تاريخ الشريع: ص ٨٧ هكذا: «حِرَاءٍ»: وهو خطأ بَيِّنٌ، لأن حراء: غار بمكة كان يتعبد فيه النبي ﷺ، وعمر كان مقيمًا بالمدينة لأنها عاصمة الخلافة.
1 / 408
وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ البَرِّ (*) عَنْ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا، يُحَدِّثُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ﵁ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ هَذِهِ الأَحَادِيثَ، أَوْ كَتَبَهَا، ثُمَّ قَالَ: «لاَ كِتَابَ مَعَ كِتَابِ اللَّهِ». قَالَ مَالِكٌ ﵀: «لَمْ يَكُنْ مَعَ ابْنِ شِهَابٍ كِتَابٌ إِلاَّ كِتَابٌ فِيهِ نَسَبُ قَوْمِهِ. قَالَ: وَلَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ يَكْتُبُونَ إِنَّمَا كَانُوا يَحْفَظُونَ، فَمَنْ كَتَبَ مِنْهُمُ الشَّيْءَ فَإِنَّمَا كَانَ يَكْتُبُهُ لِيَحْفَظَهُ. فَإِذَا حَفِظَهُ مَحَاهُ».
وَرَوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ﵁ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ السُّنَّةَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ لاَ يَكْتُبَهَا، ثُمَّ كَتَبَ فِي الأَمْصَارِ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَمْحُهُ».
وَرَوَى عَنْ جَابِرِ [عَنْ] عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَخْطُبُ يَقُولُ: «أَعْزِمُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ كِتَابٌ إِلاَّ رَجَعَ فَمَحَاهُ، فَإِنَّمَا هَلَكَ النَّاسُ حَيْثُ تَتَبَّعُوا أَحَادِيثَ عُلَمَائِهِمْ وَتَرَكُوا كِتَابَ رَبِّهِمْ».
وَرَوَى عَنْ أَبِي نَضْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لأَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ: لَوِ اكْتَتَبْتَنَا الْحَدِيثَ فَقَالَ: «لاَ نُكْتِبُكُمْ خُذُوا عَنَّا كَمَا أَخَذْنَا عَنْ نَبِيِّنَا ﷺ».
وَرَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «قُلْتُ لأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَلاَ نَكْتُبُ مَا نَسْمَعُ مِنْكَ؟ قَالَ: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوهَا مَصَاحِفَ!، إِنَّ نَبِيَّكُمْ ﷺ كَانَ يُحَدِّثُنَا فَنَحْفَظُ، فَاحْفَظُوا كَمَا كُنَّا نَحْفَظُ».
وَرَوَى عَنْهُ اَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ﵁: إِنَّكَ تُحَدِّثُنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَدِيثًا عَجِيبًا، وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ نَزِيدَ فِيهِ أَوْ نَنْقُصَ. قَالَ: «أَرَدْتُمْ أَنْ تَجْعَلُوهُ قُرْآنًا؟، لاَ، وَلَكِنْ خُذُوا عَنَّا كَمَا أَخَذْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ».
وَرَوَى عَنْ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «نَحْنُ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نُكْتِبُ».
وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّا لاَ نَكْتُبُ الْعِلْمَ وَلاَ نُكْتِبُهُ».
وَرَوَى عَنْهُ اَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ كِتَابَةِ الْعِلْمِ، وَقَالَ: «إِنَّمَا [ضَلَّ] مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْكُتُبِ».
_________
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) تصحيح الأخطاء ما بين [.....] الواردة في كتاب " جامع بيان العلم وفضله " الذي نقل عنه المؤلف في هذه الصفحة وما بعدها، اعتمدت فيها على الكتاب المطبوع: " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، الطبعة الأولى: ١٤١٤ هـ - ١٩٩٤ م، نشر دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع. الرياض - المملكة العربية السعودية، ١ مج، ١٥٤٨ صفحة.
1 / 409
وَرَوَى عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ مَرْوَانَ، دَعَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَقَوْمًا يَكْتُبُونَ وَهُوَ لاَ يَدْرِي، فَأَعْلَمُوهُ فَقَالَ: «أَتَدْرُونَ لَعَلَّ كُلَّ شَيْءٍ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ لَيْسَ كَمَا حَدَّثْتُكُمْ».
وَرَوَى عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: «كَتَبْتُ عَنْ أَبِي كِتَابًا [كَبِيرًا] فَقَالَ: " ائْتِنِي بِكُتُبِكَ "، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَغَسَلَهَا».
وَرَوَى عَنْ [سُلَيْمِ] بْنِ أَسْوَدَ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: «كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ [﵁] يَكْرَهُ كِتَابَةَ الْعِلْمِ».
وَرَوَى عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلاَلٍ قَالَ: «أُتِيَ عَبْدُ اللَّهِ بِصَحِيفَةٍ فِيهَا حَدِيثٌ. فَدَعَا بِمَاءٍ فَمَحَاهَا، ثُمَّ غَسَلَهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا [فَأُخْرِجَتْ]، ثُمَّ قَالَ: «أُذَكِّرُ بِاللَّهِ رَجُلًا يَعْلَمُهَا عِنْدَ أَحَدٍ إِلاَّ أَعْلَمَنِي بِهِ، وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهَا بِدِيرِ هِنْدٍ لَبَلَغْتُهَا، بِهَذَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ قَبْلَكُمْ حِينَ نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ».
وَرَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ [الأَسْوَدِ]، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَصَبْتُ أَنَا وَعَلْقَمَةُ، صَحِيفَةً فَانْطَلَقَ مَعِي إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ بِهَا وَقَدْ زَالَتِ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ تَزُولُ، فَجَلَسْنَا بِالْبَابِ، ثُمَّ قَالَ لِلْجَارِيَةِ: «انْظُرِي مَنْ بِالْبَابِ»، فَقَالَتْ: «عَلْقَمَةُ وَالأَسْوَدُ»، فَقَالَ: «ائْذَنِي لَهُمَا، فَدَخَلْنَا فَقَالَ: «كَأَنَّكُمَا قَدْ أَطَلْتُمَا الْجُلُوسَ؟»، قُلْنَا: «أَجَلْ»، قَالَ: «فَمَا مَنَعَكُمَا أَنْ تَسْتَأْذِنَا؟» قَالاَ: «خَشِينَا أَنْ تَكُونَ نَائِمًا»، قَالَ: «مَا أُحِبُّ أَنْ تَظُنُّوا بِي هَذَا إِنَّ هَذِهِ سَاعَةٌ كُنَّا نَقِيسُهَا بِصَلاَةِ اللَّيْلِ»، فَقُلْنَا: «هَذِهِ صَحِيفَةٌ فِيهَا حَدِيثٌ حَسَنٌ»، فَقَالَ: «يَا جَارِيَةُ هَاتِي الطَّسْتَ وَاسْكُبِي فِيهِ مَاءً»، قَالَ: «فَجَعَلَ يَمْحُوهَا بِيَدِهِ (١) وَيَقُولُ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ (٢)»، فَقُلْنَا: «انْظُرْ فِيهَا فَإِنَّ فِيهَا حَدِيثًا عَجَبًا»، فَجَعَلَ يَمْحُوهَا وَيَقُولُ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَاشْغِلُوهَا بِالْقُرْآنِ وَلَا تَشْغَلُوهَا بِغَيْرِهِ».
وَرَوَى عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى يُحَدِّثُنَا بِأَحَادِيثَ فَقُمْنَا لِنَكْتُبَهَا، فَقَالَ: «أَتَكْتُبُونَ مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي؟» قُلْنَا: نَعَمْ قَالَ: «فَجِيئُونِي بِهِ»، فَدَعَا بِمَاءٍ فَغَسَلَهُ،
_________
(١) قال أبو عبيد (أحد رواة هذا الأثر): «يروى أن هذه الصحيفة أخذت من أهل الكتاب، فلذا كره عبد الله».النظر فيها: (انظر " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر: ج ١ ص ٦٦ أو " مختصره ": ص ٣٤)
(٢) [سورة يوسف، الآية: ٣].
1 / 410
وَقَالَ: «احْفَظُوا عَنَّا كَمَا حَفِظْنَا».
وَرَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «[كَتَبَ إِلَيَّ] أَهْلُ الْكُوفَةِ مَسَائِلَ أَلْقَى فِيهَا ابْنَ عُمَرَ فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتُهُ مِنَ الْكِتَابِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ مَعِيَ كِتَابًا لَكَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ».
وفي رواية أخرى: «كُنَّا نَخْتَلِفُ فِي أَشْيَاءَ [فَكَتَبْتُهَا] فِي كِتَابٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهَا ابْنَ عُمَرَ أَسْأَلُهُ عَنْهَا خُفْيًا فَلَوْ عَلِمَ بِهَا كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ».
وَرَوَى عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَلْقَمَةَ: «اكْتُبْ لِيَ النَّظَائِرَ»، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْكِتَابَ يُكْرَهُ؟»، قَالَ: «بَلَى، إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ أَحْفَظَهَا ثُمَّ أَحْرِقَهَا».
وَرَوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: قُلْتُ لِعَبِيدَةَ: «أَكْتُبُ مَا أَسْمَعُ مِنْكَ؟»، قَالَ: «لاَ» قُلْتُ: «وَإِنْ وَجَدْتُ كِتَابًا أَقْرَأَهُ عَلَيْكَ؟»، قَالَ: «لاَ».
وَرَوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ [عِنْدَ] عَبِيْدَةَ، فَقَالَ لِي: «لَا تُخَلِّدَنَّ عَنِّي كِتَابًا».
وَرَوَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمُرَادِيِّ قَالَ: «لَمَّا حَضَرَ عُبَيْدَةَ الْمَوْتُ دَعَا بِكُتُبِهِ فَمَحَاهَا».
وَرَوَى عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عُبَيْدَةَ أَنَّهُ دَعَا بِكُتُبِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَمَحَاهَا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: «أَخْشَى أَنْ يَلِيَهَا قَوْمٌ يَضَعُونَهَا غَيْرَ مَوْضِعِهَا».
وَرَوَى عَنِْ الْقَاسِمِ (*): «أَنَّهُ كَانَ لاَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ».
وَرَوَى عَنِْ سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: «مَا مَا كَتَبْتُ حَدِيثًا قَطُّ».
وَرَوَى عَنِْ االشَّعْبِيَّ أَنَّهُ قَالَ: «مَا كَتَبْتُ سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ قَطُّ وَلاَ اسْتَعَدْتُ حَدِيثًا مِنْ إِنْسَانٍ مَرَّتَيْنِ». وفي رواية أخرى زيادة: «وَلَقَدْ نَسِيتُ مِنَ [الْحَدِيثِ] مَا لَوْ حَفِظَهُ إِنْسَانٌ كَانَ بِهِ عَالِمًا».
وَرَوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ [النَّخَعِي]: «أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَكْتُبَ الأَحَادِيثَ فِي الْكَرَارِيسِ»
وَرَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لاَ تَكْتُبُوا فَتَتَّكِلُوا».
_________
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ]:
(*) في الكتاب المطبوع ورد خطأ (عن القاسم به محمد)، والصواب (عَنِ الْقَاسِمِ) دون ذكر أبيه، انظر " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال، ص ٢٨٧، حديث رقم: ٣٦٦.
1 / 411
وَرَوَى عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: " قُلْتُ لإِبْرَاهِيمَ: إِنِّي أَتَيْتُكَ وَقَدْ جَمَعْتُ الْمَسَائِلَ. فَإِذَا رَأَيْتُكَ كَأَنَّمَا تَخْتَلِسُ مِنِّي وَأَنْتَ تَكْرَهُ الْكِتَابَةَ. قَالَ: «لاَ عَلَيْكَ. فَإِنَّهُ قَلَّ مَا طَلَبَ إِنْسَانٌ عِلْمًا إِلاَّ آتَاهُ اللَّهُ مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ، وَقَلَّ مَا كَتَبَ رَجُلٌ كِتَابًا إِلاَّ اتَّكَلَ عَلَيْهِ».
وَرَوَى عنْ إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الطَّالْقَانِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِجَرِيرٍ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ، «أَكَانَ مَنْصُورٌ (يَعْنِي ابْنَ الْمُعْتَمِرِ) يَكْرَهُ كِتَابَ الْحَدِيثِ؟»، قَالَ: «نَعَمْ، مَنْصُورٌ، وَمُغِيرَةُ، وَالأَعْمَشُ كَانُوا يَكْرَهُونَ كِتَابَ الْحَدِيثِ».
وَرَوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: «أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَهَابُونَ الكُتُبَ حَتَّى كَانَ الآنَ حَدِيثًا. قَالَ: وَلَوْ كُنَّا نَكْتُبُ لَكَتَبْتُ مِنْ عِلْمِ سَعِيدٍ وَرِوَايَتِهِ شَيْئًا كَثِيرًا».
وَرَوَى عَنْ الأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ: «كَانَ هَذَا الْعِلْمُ شَيْئًا شَرِيفًا إِذْ كَانَ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ يَتَلاَقَوْنَهُ وَيَتَذَاكَرُونَهُ، فَلَمَّا صَارَ فِي الْكُتُبِ ذَهَبَ نُورُهُ وَصَارَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ».
وروا هـ ابن الصلاح في " علوم الحديث " (١) مختصرًا بلفظ: «كَانَ هَذَا الْعِلْمُ كَرِيمًا يَتَلَقَّاهُ الرِّجَالُ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا دَخَلَ فِي الكُتُبِ دَخَلَ فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ».
...
الجَوَابُ:
قد اشتملت هذه الشبهة على عدة مسائل حاد فيها صاحبها عن سبيل الحق وتجنب طريق الصواب. فينبغي لنا أن نشرحها مسألة مسألة، ونبين ما في كل منها من خطأ وفساد رأي. حتى تنهار هذه الشبه من جميع نواحيها ويتضح لك بطلانها وتقتنع تمام الاقتناع بفسادها. فنقول:
_________
(١) ص ١٧١.
1 / 412
إِنَّمَا تَحْصُلُ صِيَانَةُ الحُجَّةِ بِعَدَالَةِ حَامِلِهَا:
المعول عليه في المحافظة على ما هو حجة وصيانته من التبديل والخطأ هو أن يحمله الثقة العدل حتى يوصله لمن هو مثله في هذه الصفة. وهكذا. سواء أكان الحمل له على سبيل الحفظ للفظه أو الكتابة له أو الفهم لمعناه فهما دقيقا مع التعبير عن ذلك المعنى بلفظ واضح الدلالة عليه بدون لبس ولا إبهام. فأي نوع من هذه الأنواع الثلاثة يكفي في الصيانة ما دامت صفة العدالة متحققة. فإذا اجتمعت هذه الثلاثة مع العدالة كان ذلك الغاية والنهاية في المحافظة. وإذا اجتمعت وانتفت العدالة لم يجد اجتماعها نفعا ولم يغن فتيلا. ولم نأمن حينئذ من التبديل والعبث بالحجة.
ومن باب أولى ما إذا انفردت الكتابة عن الحفظ والفهم وعدالة الكاتب أو الحامل للمكتوب. فإنا لا نثق حينئذ بشيء من المكتوب. ألا ترى أن اليهود والنصارى كانوا يكتبون التوراة والإنجيل ومع ذلك وقع التبديل والتغيير فيهما لما تجردوا من صفة العدالة حتى لا يمكننا أن نجزم ولا أن نظن بصحة شيء منهما. بل قد نجزم بمخالفة لأصلهما. قال الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ (١).
الكِتَابَةُ لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الحُجِّيَةِ:
فإذا كان المهم في المحافظة على الحجة عدالة الحامل لها - على أي وجه كان حملها - تحققنا أن الكتابة ليست من لوازم الحُجِّيَةِ وأن صيانة الحجة غير متوقفة عليها. وأنها ليست السبيل الوحيد لذلك. وهذا أمر واضح كل الوضوح ولكنا نزيده بيانًا وتثبيتًا بما سنذكره من الأدلة. فنقول:
أولًا: إنا نعلم أن النبي ﷺ كان يرسل السفراء من الصحابة إلى القبائل المختلفة ليدعوا الناس إلى الإسلام ويعلموهم أحكامه ويقيموا بينهم شعائره. ولم يرسل مع
_________
(١) [سورة البقرة، الآية: ٧٩].
1 / 413
كل سفير مكتوبًا من القرآن يكفي لإقامة الحجة على جميع الأحكام التي يبلغها السفير للمرسل إليهم ويلزمهم بها. ولا يستطيع أحد أن يثبت أنه كان يكتب لكل سفير هذا القدر من القرآن. والغالب فيما كان يفعله ﷺ هو أن يكتب للسفير كتابًا يثبت به سفارته ويصحح به بعثته. وفي بعض الأحيان كان يكتب له كتابًا مشتملًا على بعض الأحكام من السُنَّةِ وليس فيه نص قرآني أو فيه نص قرآني إلا أنه لا يكفي لإقامة الحجة على جميع الأحكام التي يراد تبليغها.
فيتبين لنا من هذا أن النبي ﷺ كان يرى في عدالة السفير وحفظه لما حفظه من القرآن والسنة - اللذين لم يكتبهما - الكفاية في إقامة الحجة على المرسل إليهم وإلزامهم اتباعه.
وثانيًا: إنا نعلم أن الصلاة - وهي القاعدة الثانية من قواعد الإسلام - لا يمكن للمجتهد أن يهتدي إلى كيفيتها من القرآن وحده. بل لا بد من بيان الرسول ﷺ. ولم يثبت أنه ﷺ قد أمر بكتابة كيفيتها التي شرحها بفعله وقوله. ولو كانت الكتابة من لوازم الحُجِّيَّةِ لما جاز أن يترك النبي ﷺ هذا الأمر الخطير الذي لا يهتدي إليه المجتهدون من التابعين فمن بعدهم بمحض عقولهم أو باجتهادهم في القرآن - بدون أن يأمر بكتابته التي تقنعهم بالحُجِّيَةِ كما هو الفرض.
وثالثًا: إنا قد بينا أن حجية السُنَّةِ ضرورية دينية وزدنا على ذلك أن أقمنا عليها من الأدلة ما لا سبيل إلى إنكار دلالته أو الشك فيه. ومع ذلك لم يأمر ﷺ أمر إيجاب بكتابة كل ما صدر منه. ولو كانت الحُجِّيَةُ متوقفة على الكتابة لما جاز له ﷺ أن يهمل الأمر بها وإيجابها على الصحابة.
ثم نقول: لو جاءت اليهود والنصارى لصاحب هذه الشبهة فقالوا له: إن القرآن ليس بحجة. فإنه لم ينزل من السماء مكتوبًا، ولو كان حجة لاهتم الشارع بأمره وأنزله مكتوبًا كما أنزل التوراة والإنجيل فماذا يكون جوابه وهو يذهب أن الكتابة من لوازم الحُجِّيَةِ؟ إن قال لهم: إن عصمة النبي ﷺ من الخطأ والتبديل
1 / 414