Refutation of the Claims of Orientalists Goldziher, Joseph Schacht, and Their Supporters
الرد على مزاعم المستشرقين جولد تسهير ويوسف شاخت ومن أيدهما من المستغربين
Mai Buga Littafi
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
Nau'ikan
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه، ويدفع نقمه، ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد، فيقول الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [الصف:٨]، فقد تعرضت السنة النبوية الشريفة للطعون والشبهات من الحاقدين والحاسدين منذ العصور الأولى للإسلام. ومنذ بداية القرن العشرين تعرضت السنة لحملة طعون وشبهات مغرضة من المستشرقين بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم وتشكيكهم في أهم مصادر شريعتهم، ولكن الله تعالى هيأ لهذه الأمة جهابذة ورجالا في القديم والحديث حفظوا السنة وصانوها من عبث العابثين، ومن افتراءات المغرضين، فبيَّنوا الحق من الباطل والصحيح من السقيم، وذادوا عن حياض السنة المطهرة وفندوا وردوا على شبهات أولئك الطاعنين بالحجة والبرهان. ومن أهم هؤلاء الطاعنين في السنة المستشرقان اليهوديان: إجناتس جولدتسيهر وجوزيف شاخت. ويتناول هذا البحث نقد آراء هذين المستشرقين والرد عليهما فيما يتعلق بنقل السنة النبوية الشريفة والاعتماد في ذلك على نقد المتن والإسناد. فهذان المستشرقان ومن أيدهما من المسشرقين والمستغربين الذين انخدعوا بآراء المستشرقين، يرون أن الحديث النبوي الشريف الذي بين أيدي المسلمين اليوم قد وضعه واخترعه أصحاب الفرق والمذاهب الفقهية الإسلامية، وأن المنهجية التي اعتمدها المحدثون في نقد الحديث غير علمية، وأنها اعتمدت على نقد السند دون المتن. ومما يؤسف له أن نتائج دراسات هذين المستشرقين هي المعتمدة اليوم في
1 / 1
الأوساط الغربية وفي الجامعات الأوروبية والأمريكية وأقسام الشرق الأوسط في الغرب، وخلصت المقالة إلى نقض مزاعم المستشرقَيْن ومن أيدهما بالأدلة العلمية، وأكدت ما قاله العلماء المسلمون من أن منهجية النقد التي اعتمدها المحدثون والفقهاء المسلمون للتثبت من صحة الحديث وقبوله هي منهجية علمية وصحيحة وشاملة، وأن علماء المسلمين كما نقدوا السند نقدوا المتن.
ولهذا ينقسم البحث إلى مقدمة وثلاثة أقسام وخاتمة وتوصيات.
القسم الأول: عرض لآراء المسلمين حول منهجية توثيق السنة وأهمية الاعتماد في النقد على السند والمتن معا.
والقسم الثاني: عرض لآراء المستغربين والمستشرقين فيما يتعلق بتوثيق السنة ونقد المتن والرد عليهم.
والقسم الثالث: نظرية الإسناد عند شاخت والرد عليه، وأخيرا تأتي الخاتمة والتوصيات.
ويسرني أن أشكر مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف على عقده لندوة: عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية، هذه الندوة المباركة المهمة الرائدة، والتي أسأل الله تعالى لها التوفيق، وإنني أشكر كذلك المسؤولين والعاملين في المجمع، وأسأل الله تعالى لهم مزيدا من التقدم والنجاح في خدمة كتاب الله تعالى والسنة والسيرة النبوية الشريفة، وأن يزيد الله تعالى هذا البلد الطيب رخاء وأمنا وطمأنينة، إنه سميع مجيب.
1 / 2
القسم الأول: عرض لآراء المسلمين حول منهجية توثيق السنة بالاعتماد على نقد السند والمتن معا
تمهيد: آراء المسلمين في توثيق السنة وأهمية الإسناد
ينقسم علم الحديث النبوي الشريف إلى قسمين رئيسين هما (١) علم الحديث رواية وعلم الحديث دراية، أما علم الحديث رواية فهو: «العلم الذي يقوم على ما أضيف إلى النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلْقية أو خُلُقية نقلا دقيقا محررا» (٢)، وأما علم الحديث دراية أو علم مصطلح الحديث فهو كما يقول ابن جماعة: «معرفة القواعد التي يعرف بها أحوال السند والمتن» (٣)، وهو كذلك علم يعرف منه حقيقة الرواية وشروطها وأنواعها وأحكامها، وحال الرواة وشروطهم وأصناف المرويات
_________
(١) تعني كلمة الحديث الجديد ضد القديم، وتعني القصة، وحدث الشيء حدوثا: وقع، وجد. ولمزيد من المعلومات انظر: إسماعيل بن حماد الجوهري، الصحاح، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، (بيروت: دار العلم للملايين، ١٣٩٩؟/١٩٧٩م)، ط٢، ج:١، ص: ٢٧٨ -٢٧٩، وإبراهيم مصطفى وعبد السلام هارون وآخرون: المعجم الوسيط، (القاهرة: مجمع اللغة العربية، لا ت.)، ج: ١، ص: ١٦٠، ومحمد الصباغ، الحديث النبوي، مصطلحه، بلاغته، كتبه، (بيروت: ١٩٨٢م/١٤٠٢؟)، ص: ١٣٩- ١٤٠.
Th. W. Juynboll، art." HADITH “، EI، vol. iii، p.; J. Robson، art. “ HADITH “، EI، vol. iii، p..
(٢) السيوطي، تدريب الراوي شرح تقريب النواوي، تحقيق عزت عطية وموسى محمد علي، (القاهرة: دار الكتب الحديثة، ١٩٨٠م)، ج: ١، ص: ٤٠، وقارن بمحمد عجاج الخطيب، أصول الحديث، علومه ومصطلحه، (بيروت: دار الفكر، ١٤١٩؟/١٩٩٨م)، ط١، ص: ٦.
(٣) عصام البشير، أصول منهج النقد عند أهل الحديث، (بيروت: ١٩١٢م/١٤١٢؟)، ط٢، ص: ٦٨، وقارن بالسيوطي، تدريب الراوي شرح تقريب النواوي، ص: ٤٠.
1 / 3
وما يتعلق بها (١) .
وأما السنة اصطلاحا: فهي تعني عند المحدثين: «كل ما أثر عن الرسول ﷺ من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خَلْقية أو خُلُقية، أو سيرة» (٢)، ويضاف إلى تعريف السنة والحديث بعض ما أضيف للصحابي وللتابعي (٣) .
وقد أدى علم المصطلح وظيفة الحفاظ على السنة النبوية من خلال قواعد دقيقة لنقد السند والمتن مما أدى لمعرفة أنواع الحديث والتمييز بين الصحيح والحسن والضعيف والموضوع. والوظيفة الأخرى التي أداها علم المصطلح هو تقسيم الحديث إلى مقبول ومردود؛ ولهذا يعتقد المسلمون أن ما عندهم من أحاديث مقبولة هي فعلا أحاديث النبي ﷺ وأقوال الصحابة والتابعين؛ لأنها نقلت إلينا بواسطة رواة ثقات يعتمد عليهم.
وتعتمد صحة الحديث على صحة الإسناد والمتن معا. والسند لغة هو: ما ارتفع من الأرض ... (٤)، أما السند اصطلاحا فهو: سلسلة الرواة الذين نقلوا الحديث من النبي ﷺ وحتى تدوين الحديث في كتب الحديث
_________
(١) السيوطي، تدريب الراوي شرح تقريب النواوي، ج: ١، ص: ٤٠.
(٢) محمد عجاج الخطيب، أصول الحديث، ص: ١٤.
(٣) لمزيد من المعلومات عن تعريف الحديث انظر: نور الدين العتر، منهج النقد في علوم الحديث، (دمشق: ١٤١٢/١٩٩٢)، ط٣، ص: ٢٦- ٢٧ وقارن بمحمد الصباغ، الحديث النبوي، ص: ١٤٠، ١٤٦ – ١٤٨، ومحمد عجاج الخطيب، أصول الحديث، ص: ١٥.
p. i John Burton، Hadith studies، (Manchester)،
(٤) محمد مرتضى الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، (بيروت: دار مكتبة الحياة، لا ت.)، ج: ١، ص: ٣٨١-٣٨٢.
1 / 4
المعتمدة، أو هو الإخبار عن طريق المتن (١) وإنما سمي السند بالسند، كما قال ابن جماعة؛ لأن الحفاظ يعتمدون في صحة الحديث أو ضعفه عليه (٢) . فالإسناد هو قسم أساسي من الحديث، ولذا يقال: إن علم الإسناد هو نصف علوم الحديث، فالإسناد هو المسبار الذي يحاكم كل ما يقال، والحديث الذي لا سند له كبيت لا سقف له أو لا أساس له. (٣)
لقد اهتم العلماء المسلمون بالإسناد وبينوا أهميته من خلال عبارات مشهورة فقد قال محمد بن سيرين: «إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم» (٤)، وقال سفيان الثوري: «الإسناد هو سلاح المؤمن. فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل؟» (٥)، وقال عبد الله بن المبارك: الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء (٦)، ولهذا فعندما كان يسأل أهل البدع عمن أخذوا الحديث كانوا يسكتون لئلا يفتضحوا.
_________
(١) السيوطي، تدريب الراوي شرح تقريب النواوي، ج: ١، ص: ٤٣، وانظر: John Burton، Hadith studies، p.i..
(٢) السيوطي، تدريب الراوي شرح تقريب النواوي، ج: ١، ص: ٤٣، وانظر:. p.،art. HADITH: EIvol. iiiTh. W. Juynboll
(٣) عصام البشير، أصول منهج النقد عند أهل الحديث، ص: ٦١.
(٤) مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ١٣٧٤؟/١٩٥٥م)، ط١، ج:١، ص: ١٤، وقارن بـ
J. Robson، '' The Isn؟d in Muslim Traditions''، Glag University Ori.،Soci. Trans.P.، () .
(٥) محمد بهاء الدين، المستشرقون والحديث النبوي، (عمان: دار النفائس، ١٤٢٠هـ/١٩٩٩م)، ط١، ص: ١٥ – ١٦، نقلا عن ابن أبي حاتم، المجروحين، ج:١، ص: ١٩، والخطيب البغدادي، شرف أصحاب الحديث، ص: ٤٢.
(٦) مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، ج: ١ ص:١٥.
1 / 5
ولما للإسناد من أهمية بين العلماء المسلمين فقد تعدى استخدامه لكل العلوم كعلم الأدب العربي، والتاريخ والطب وغيرها من علوم. (١) وكان من ثمرة اهتمام المسلمين بالإسناد نشأة علم سمي بعلم الجرح والتعديل (٢)، وكما يقول المستشرق سبرنجر Sprenger: إن المسلمين درسوا تراجم ما يقرب من نصف مليون راوٍ (٣)، وكل ذلك من أجل الحديث النبوي الشريف.
بدأ المسلمون بالاهتمام الزائد بالسؤال عن الإسناد بعد فتنة مقتل عثمان ﵁، ففي ذلك الزمان نشطت حركة الوضع. واتخذ المحدثون اجراءات وقائية لمنع الكذابين من ترويج كذبهم، وللحفاظ على السنة فاستخدموا ضدهم سلاح الإسناد، يقول الإمام الثوري: عندما اخترع الكذابون أسانيد كاذبة استخدمنا ضدهم تاريخ الرواة (٤) .
ويقول محمد بن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة -أي الحرب بين علي ومعاوية ﵄ (٥) قالوا: سموا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا
_________
(١) عبد الفتاح أبو غدة، الإسناد من الدين، (بيروت: ١٩٩٢م/١٤١٢؟)، ص: ٣٥ – ٣٦.
(٢) انظر: إبراهيم بن الصديق، علم علل الحديث من خلال كتاب الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام لأبي الحسن بن القطان الفاسي، (المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ١٤١٥/١٩٩٥)، ط١، ج:١، ص: ٣٦-٣٧. وانظر كذلك
J. Robson، art.”Al-Djarh wa al-Ta’dil”، EI، vol.ii، p..
(٣) عبد الفتاح أبو غدة، الإسناد من الدين، ص: ٣٢.
(٤) عصام البشير، أصول منهج النقد عند أهل الحديث، ص: ٨٠.
(٥) يرى بعض المستشرقين أن تاريخ الفتنة بدأ عام ١٢٦ هـ/ ٧٤٣ م وذلك عندما قتل الخليفة الأموي الوليد بن يزيد، ولذلك فالبدء باستخدام الإسناد عندهم يرجع لعام ١٢٠ هـ. ولمزيد من المعلومات انظر Azami، Studies، p. ٢١٣ – ٢١٨
1 / 6
أنهم اختلفوا في تأويلها وفهمها. ومثال ذلك الأحاديث التي تمنع المرأة البكر من الزواج بغير إذن وليها (١)، هذه الأحاديث قد قبلت في المذهب الحنفي إلا أن الأحناف أولوها بأنها مصروفة إلى المرأة التي لم تبلغ، أما المذهب الشافعي فقد قبل هذه الأحاديث وعمم مضمونها ليشمل المرأة البكر البالغ وغير البالغ.
٤- اعتمد نشوء المذاهب العقدية في القرون الثلاثة الأولى للإسلام على تفسيرات عديدة لنصوص القرآن والسنة.
٥- إن علم مختلف الحديث خير شاهد على اعتناء العلماء بنقد المتون، فهذا العلم يعنى بالأحاديث النبوية الشريفة التي ظاهرها التعارض (٢) . وقد اهتم العلماء مبكرا بهذا العلم بدءا من مؤلَّف الإمام محمد بن إدريس الشافعي: اختلاف الحديث (٣)، وغيره من المؤلفات ككتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، وكتاب مشكل الآثار للطحاوي. أضف إلى ذلك فقد ذكر العلماء وجوها عديدة للترجيح بين مختلف الحديث بعضها راجعة للسند وأخرى راجعة للمتن، ذكر منها الحافظ العراقي والسيوطي والآمدي مائة وجه وعشرة أوجه (٤) . كل هذا يدل على عناية فائقة من علمائنا بنقد المتن حتى قال ابن خزيمة (٣١١ هـ): «ليس ثم حديثان متعارضان من كل وجه، ومن وجد شيئا من ذلك فليأتني لأؤلف له بينهما» (٥) .
_________
(١) انظر هذه الأحاديث ومعانيها في الشوكاني، نيل الأوطار، ج: ٥، ص: ١٢٠ – ١٢٣
(٢) عبد المجيد السوسوة، منهج التوفيق والترجيح، (عمان: دار النفائس، ١٩٩٨م)، ص: ٥٤.
(٣) انظر الزركلي، الأعلام، ج:٦، ص: ٢٦.
(٤) عبد المجيد السوسوة، منهج التوفيق والترجيح، ص: ٣٣١، ٤٢٩ – ٤٥٧.
(٥) المرجع السابق نفسه، ص: ٧١ – ٧٢.
1 / 7
الدين عتر (١)، وهمام سعيد (٢)، ومحمد عجاج الخطيب (٣)، ومحمد أبو شهبة (٤)، هؤلاء كلهم رفضوا آراء المستشرقين ومن تابعهم من المستغربين، تلك الآراء التي تزعم بأن نقد الحديث ومعرفة درجة صحته كانت تعتمد فقط على نقد السند دون المتن، والمشكلة كما يزعم هؤلاء أن نقد السند كان نقدا شكليا، وكان ينقصه منهجية النقد العامة لأي حديث نقد المتن الذي لم يكن له وجود عند العلماء المسلمين (٥) .
أما آراء علماء السنة من المحدثين حول هذا الموضوع فهي أنه كان هناك تكامل وشمول في المنهج النقدي لدى المحدثين بحيث شمل السند والمتن معا، والأدلة من علم المصطلح كثيرة على هذه القضية بحيث نستطيع القول بأن زعم المستشرقين بأن العلماء اعتنوا بنقد السند دون المتن هو على شهرته أشد مزاعمهم ضعفا وأوضحها سقوطا (٦)، وإن علماء الحديث والفقه قد نقدوا المتن بما فيه الكفاية، ولكن المستشرقين ومن أيدهم يريدون لهذا النقد أن يتجاوز حدود الشرع مما يؤدي إلى رفض الأحاديث التي لم تجد قبولا لدى عقولهم المتحجرة.
_________
(١) انظر كتابه منهج النقد في علوم الحديث.
(٢) انظر كتابه الفكر المنهجي عند المحدثين.
(٣) انظر كتابه أصول الحديث.
(٤) انظر كتابه دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين. وقد كتب العلماء والباحثون المعاصرون مؤلفات عديدة تتكلم على نقد المتن، ومن أهمها: ١- نقد المتن بين صناعة المحدثين ومطاعن المستشرقين لنجم عبد الرحمن خلف، ٢- مقاييس نقد متون السنة لمسفر الدميني، ٣- جهود المحدثين في نقد المتن لمحمد طاهر الجوابي، ٤- منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي لصلاح الدين الإدلبي.
(٥) انظر جولدتسيهر، دراسات محمدية، ترجمة الصديق بشير نصر، في فصول من كتاب دراسات محمدية من مجلة كلية الدعوة الإسلامية، العدد١٠، طرابلس الغرب، ١٩٩٣م، ص: ٥٠٨ – ٥٠٩.
(٦) نور الدين عتر، السنة المطهرة والتحديات، ص: ٦٧ - ٦٨.
1 / 8
القسم الثاني: عرض لآراء المستغربين فيما يتعلق بتوثيق السنة عبر نقد المتن والسند والرد عليهم
...
القسم الثاني: عرض لآراء المستغربين والمستشرقين فيما يتعلق بتوثيق السنة عبر نقد المتن والسند والرد عليهم
١- عرض لآراء المستغربين من المسلمين المعاصرين الذين يؤيدون وجهة نظر المستشرقين:
انتقد بعض المستغربين من المسلمين المعاصرين ما ذهب إليه المحدثون في طريقة معرفة صحة الحديث.
ويقول هؤلاء المستغربون إن صحة أي حديث يجب أن تبنى أولا على صحة متنه وليس على صحة إسناده (١)، وإن السؤال الذي يجب أن يطرح على كل حديث هو: هل يمكن للرسول ﷺ أن يقول مثل هذا الكلام أو لا؟. والسبب في طرح هذا السؤال دائما هو زعمهم بأنه يوجد في كتب الحديث المعتمدة كالكتب الستة بعض الأحاديث المخالفة للعقل والعلم، ويستحيل أن يكون الرسول ﷺ قد قالها. وآراء هؤلاء المستغربين ليست جديدة، بل هي تكرار لما قاله المستشرقون بل لما قالته بعض الفرق الإسلامية أيام الإمام الشافعي، بل وقبله (٢) .
_________
(١) من الذين تبنوا هذه الدعوى في مؤلفاتهم: أحمد أمين، وأبو رية في مصر، وسيد أحمد خان (١٨٩٧م) في الهند، والمدعو: المولوي شراغ علي، وزعيم فرقة (أهل القرآن) غلام أحمد برويز، وغيرهم. انظر مكي الشامي، السنة النبوية ومطاعن المبتدعة فيها، (عمان: دار عمار للنشر والتوزيع، ١٤٢٠؟/١٩٩٩م)، ص: ١٠٣-١٠٥.
(٢) انظر ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، (بيروت: ١٩٧٢م)، ص: ٤٢، ٢٠٤ – ٢٠٥، ٢٢٤، ٢٢٨ – ٢٢٩، ٢٤٥، ٣٢٦.
1 / 9
ويعد محمد عبده (١٨٤٠ – ١٩٠٥م) أول عالم مسلم معاصر توجه بنقده لبعض الأحاديث المقبولة والصحيحة عند العلماء المسلمين (١)، وتابع محمد عبده تلامذته الذين وسعوا أفكاره وفصلوها (٢)، ويمكن تلخيص آرائهم كما يلي:
١- زعمهم أن الحديث النبوي كتب في وقت متأخر أي خلال النصف الأول من القرن الثاني الهجري. ولذلك فلا يمكننا الاعتماد على صحة الحديث لوجود احتمالات وقوع الخطأ من الرواة ومن مدوني الحديث.
٢- لقد وضعت أحاديث كثيرة واختلطت بالأحاديث الصحيحة مما يجعل عملية الفصل بينها صعبة جدا.
٣- لقد روى الصحابة والتابعون معاني الأحاديث وليس الأحاديث بعينها، ولهذا لم يحتج النحاة بالأحاديث المروية في النحو. والاختلاف في الروايات بين رواة الحديث دليل على أنهم كانوا ينقلون المعنى (٣) .
٤- لا يمكننا الاعتماد على علم الجرح والتعديل لأنه علم متناقض، إذ يقدم علماء هذا العلم معلومات متناقضة عن الرواة (٤) .
_________
(١) Cf. G.H.A. Juynboll، The Authenticity of the Tradition، (Lieden،)، p..
(٢) شرح Juynboll آراءهم في كتابه المذكور سابقا. انظر المرجع السابق نفسه، الفصل: ٢ و٧.
(٣) م. أبو رية، أضواء على السنة النبوية، (مصر، لا ت.)، ص: ٢٨٦، وانظر الرد على هذا الرأي في: محمد أبو زهو، الحديث والمحدثون، (بيروت: دار الكتاب العربي، ١٤٠٤؟/١٩٨٤م)، ط١، ص:١٥٠-١٥٢.
(٤) المرجع السابق نفسه، ص: ٢٨٦ – ٣٣٥.
1 / 10
ـ بما أن معظم الأحاديث النبوية رويت عن طريق الآحاد فإن احتمال وقوع الخطأ منهم كبير، إذ إنهم بشر. وتنطبق هذه القاعدة أيضا على الأحاديث الآحاد المروية في كل من صحيحي البخاري ومسلم. والفقهاء والمحدثون لديهم الحرية في اختيار الأحاديث التي يرونها مناسبة لمذاهبهم (١) .
٢- عرض آراء بعض المستشرقين:
تعرض الحديث النبوي الشريف لحملة طعونات وتشكيكات من المستشرقين. وتختلف وجهة نظرهم عن نظرة المسلمين للحديث. فالمستشرقون يرون أن معظم الأحاديث المنقولة عن النبي ﷺ هي في الحقيقة ليست أقوالا له، ولكن بعض تلك الأحاديث تنقل لنا أفكاره وتقريراته.
وتعتمد حجج المستشرقين ونتائجهم حول نظرتهم إلى الحديث النبوي الشريف على النتائج التي وضعها المستشرق إجناتس جولدتسيهر (١٨٥٠ – ١٩٢١) في كتابه: دراسات محمدية (٢)، Muhammedanisch Studien عام ١٨٨٩. وكل من أتى بعد جولدتسيهر اعتمد على آرائه التي ذكرها في هذا الكتاب. ويرى جولدتسيهر: «إنه من الصعوبة بمكان أن ننخل أو نميز وبثقة من كمية الحديث الكبيرة الواسعة، قسما صحيحا يمكننا نسبته إلى النبي أو إلى أصحابه» (٣) . وتوصل جولدتسيهر إلى النتيجة التالية: «إن الحديث النبوي
_________
(١) أثيرت هذه القضية من بعض معاصري الإمام الشافعي. انظر الشافعي، الرسالة، (القاهرة، ١٩٤٠م)، ص: ٣٦٩ – ٤٠١، ٤٠٥.
(٢) ... Burton، Hadith Studies، p. ii.
(٣) F. Rahman، Islam، (London،)، p.، cf. Goldziher، Muhammedanische Studien، (Halle،)، vol.، p. .
1 / 11
وجد نتيجة للتطور الديني والتاريخي والاجتماعي الإسلامي خلال القرنين الأولين للهجرة» (١) .وقد لخص جوزيف شاخت رأي جولدتسيهر بقوله: «إن الأحاديث المنسوبة للنبي وأصحابه التي يدعى بأنها ترجع إلى عصر النبي وأصحابه في الحقيقة لا تحتوي على معلومات موثوق بها [صحيحة] عن تلك الفترة الإسلامية الأولى، بيد أن تلك الأحاديث تعكس لنا الآراء التي كانت خلال القرنين الأولين من الهجرة والنصف الأول من القرن الثالث الهجري» (٢) .ولكن جولدتسيهر قدم لنا وجهة نظر أخرى في مقالته: Vorlesungen Uber den Islam عام ١٩١٠م، وقد أعطانا البروفسور ج. روبسون ملخصا لها حيث يقول: «لا ينكر جولدتسيهر بالكلية وجود أحاديث صحيحة ترجع إلى القرن الأول بل حتى إلى فم النبي نفسه» (٣) .
ويُعد هذا الرأي من جولدتسيهر تراجعا عما ذكره سابقا في كتابه: (دراسات محمدية) حيث شكك هناك في أي حديث صحيح، ولكنه هنا قبل بعض الأحاديث الصحيحة.
ولهذا السبب يمكن للمرء أن يتساءل: لماذا غيّر جولدتسيهر موقفه من الحديث؟، فهل وجد أدلة جديدة تؤكد له صحة بعض الأحاديث؟ وإذا كان الحال كذلك فما تلك الأدلة؟ ولماذا لم يعد بقية الأحاديث صحيحة كتلك
_________
(١) Goldziher، Muslim Studies، tr. Stern، (London،)، vol.، p..
(٢) J. Schacht، "Re-evaluation of Islamic Tradition”، JRAS،، p..
(٣) J. Robson، “Muslim Traditions”، p..
1 / 12
التي عدَّها صحيحة؟. كل هذه الأسئلة تبرز بسبب تغييره لموقفه، ونجد من الصعوبة أن نجد أجوبة عن كل هذه الأسئلة.
أما نقد المستشرقين للمحدثين فيما يتعلق باعتمادهم على الإسناد في تصحيح الحديث فهم يدعون بأن المسلمين لم يتجاوزوا أبدًا نقد السند إلى نقد المتن، وأن نقد المتن ترك من دون عناية أبدًا (١)، يقول كايتاني: كل قصد المحدثين ينحصر ويتركز في واد جدب ممحل من سرد الأشخاص الذين نقلوا المروي، ولا يشغل أحد نفسه بنقد العبارة والمتن نفسه.. والمحدثون والنقاد المسلمون لا يجسرون على الاندفاع في التحليل النقدي للسنة إلى ما وراء الإسناد بل يمتنعون عن كل نقد للنص إذ يرونه احتقارا لمشهوري الصحابة وثقيل الخطر على الكيان الإسلامي (٢)، ويقول المستشرق شاخت مؤيدا كايتاني: إن العلماء المسلمين أخفوا نقدهم لمادة الحديث وراء نقدهم للإسناد نفسه. (٣) ويعتمد رأيهم هذا على أسباب عديدة [بزعمهم] ونلاحظ أن آراءهم وآراء المستغربين من المسلمين متوافقة في هذا الموضوع.
لكن المستشرقين قد ذكروا شبهات أكثر مما ذكره مقلدوهم من المستغربين. ومن تلك الشبهات والمزاعم التي ساقها المستشرقون قولهم: كما أنه كان من السهل وضع حديث ما، فقد كان من الأسهل اختراع سند
_________
(١) إجناتس جولدتسيهر، دراسات محمدية، ص: ٥٠٠، ٥٠٨-٥٠٩.
(٢) محمد بهاء الدين، المستشرقون والحديث النبوي، (عمان: دار النفائس، ١٤٢٠؟/ ١٩٩٩م)، ص:١٢٩ -١٣٠.
(٣) يوسف شاخت، أصول الفقه، ترجمة إبراهيم خورشيد وآخرين (بيروت: دار الكتاب اللبناني ١٩٨١م)، ص: ٦٤.
1 / 13
ولصقه بذلك الحديث الموضوع (١)، ولهذا السبب فقد رأوا أنه يصعب قبول أي حديث كحديث صحيح، وأن نعتمد على إسناده فقط. والبديل عندهم هو الاعتماد على نقد المتن لمعرفة صحة الحديث، ومقارنة مضمونه مع القرآن، وقد أدت هذه الانتقادات والاعتبارات بالمستشرقين لرفض كثير من الأحاديث المقبولة بين المسلمين. فمثلا إن الأحاديث التي تتكلم على الخوارج والقدرية، وعن أسماء مدن لم تكن بعد في حياة النبي ﷺ، وعن الخلفاء الراشدين الأربعة، وعن الخلافة الأموية والعباسية، وعن المعجزات النبوية، كل هذه الأحاديث رفضت من المستشرقين؛ لأن النبي بزعمهم لا يمكن أن يقول مثل تلك الأحاديث، والنبي لم يصدر عنه أية معجزات مادية. فالقرآن الذي يمثل صفات الرسول لا يذكر لنا أنه كان يعمل المعجزات. وقد زعم المستشرقون قائلين: «يوجد أحاديث عديدة تتكلم على الفتن قبل يوم القيامة وتتكلم على يوم القيامة، ويوجد أحاديث تصف الجنة والنار بالتفصيل. إن العقلية الغربية تجد من الصعوبة بمكان أن تقبل مثل تلك الأحاديث على أنها أحاديث صحيحة قالها النبي فعلا» . (٢)
إضافة إلى ما سبق ذكره من انتقاد المستشرقين لاعتماد المسلمين على السند أكثر من المتن، فإنهم تحدوا عدالة الصحابة التي يقر بها المسلمون، وزعم المستشرقون بأن الصحابة يمكن أن يكذبوا على النبي ﷺ، ويمكن أن يخترعوا ويضعوا الأحاديث.. فهذا ألفرد جوليوم Alferd
_________
(١) A.A. M Shereef، Studies، p..
(٢) J. Robson، art. “Hadith”، EI، vol.iii، p..
1 / 14
Guillaume في كتابه:The Traditions of Islam (الحديث في الإسلام) يدعي بأن أبا هريرة كان له عادة وضع الأحاديث. (١)
لقد أثارت روايات أبي هريرة ﵁ حفيظة كثير من المتشككين والطاعنين في الحديث الشريف، وذلك لأنه أسلم قبل وفاة النبي ﷺ ووصلت مروياته إلى (٥٣٧٤) حديثا. وهو يعد من أكثر الصحابة رواية عن النبي ﷺ. ويعد علماء الحديث عدالة الصحابة جميعا أمرًا مجمعًا عليه بينهم، وأن الصحابة يستحيل أن يصدر منهم كذب على رسول الله ﷺ.
وقد طعن المستشرقون في مرويات الصحابة الشباب لأنها أكثر عددا من مرويات الصحابة الذين لازموا النبي ﷺ خلال أيامه الأولى. فمثلًا إن عدد الأحاديث التي رويت عن الخلفاء الأربعة هي أقل بكثير من الأحاديث التي رواها أبو هريرة وابن عباس. ولم يتوقف طعن هؤلاء المغرضين بالصحابة الكرام واتهامهم بوضع الأحاديث بل تجاوزه إلى العلماء المسلمين قاطبة من السلف الصالح ولهذا يقول جولدتسيهر: «ولا نستطيع أن نعزو الأحاديث الموضوعة للأجيال المتأخرة وحدها بل هناك أحاديث عليها طابع القدم، وهذه إما قالها الرسول، أو هي من عمل رجال الإسلام القدامى» (٢)، ولهذا فإن جولدتسيهر لم يتوان في نقده لمتن حديث ثبتت صحته بالافتراء على عَلَم من أعلام المسلمين -ألا وهو الإمام الزهري رحمه الله تعالى –
_________
(١) A. Guillaume، The Tradition of Islam، (Oxford،)، p..
(٢) إجناتس جولدتسيهر، العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة محمد يوسف موسى وعبد العزيز عبد الحق، وعلي حسين عبد القادر، (القاهرة: دار الكتب الحديثة، ١٩٥٩م)، ط١، ص: ٤٩-٥٠.
1 / 15
فاتهمه بالكذب على النبي ﷺ لصالح الأمويين، في رواية قوله ﷺ: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجد الرسول ﷺ ومسجد الأقصى". (١)
فهذا الحديث الذي روي في أصح كتب الحديث النبوي الشريف وورد من ستة وخمسين طريقا لا شك في صحة نسبته للنبي ﷺ لدى المسلمين، ومع ذلك فإن المستشرقين قد شككوا في صحته وعلى رأسهم المستشرق إجناتس جولدتسيهر الذي زعم بأن ابن شهاب الزهري (ت١٢٤؟/٧٤٢م) قد وضع هذا الحديث لأسباب سياسية عندما أراد الخليفة عبد الملك بن مروان (ت٨٦؟/٧٠٥م) أن يشجع الناس لزيارة المسجد الأقصى بدلا من الذهاب إلى مكة المكرمة أثناء فتنة ابن الزبير (ت٧٣؟/٦٩٢م)، فقد استخدم عبد الملك بن مروان ابنَ شهاب الزهري لتحقيق أهدافه السياسية. وقد اعتمد جولدتسيهر في آرائه على ما أورده المؤرخ اليعقوبي (ت٢٩٢؟/٩٠٥م) المعروف بعدائه الشديد للأمويين فقد زعم اليعقوبي بأن عبد الملك أراد أن يحول حج الناس إلى بيت المقدس بدلا عن الحج إلى مكة المكرمة. (٢)
_________
(١) روي هذا الحديث بألفاظ عديدة من ستة وخمسين طريقا في كل من الكتب الستة، وسنن الدارمي، ومسند الإمام أحمد، والسنن الكبرى للبيهقي، ومسند أبي يعلى، والمعجم الكبير للطبراني، ومسند أبي داود الطيالسي، ومسند الحميدي، ومسند الشاميين وغيرها. انظر الموسوعة الذهبية للحديث النبوي الشريف وعلومه، الإصدار الأول، (عمان:، مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي، ١٤١٨؟/١٩٩٧م) .
(٢) M. Lecker، “Biographical Notes on Ibn Shihab Al – Zuhri”، Journal of Semitic Studies، No ()، p.
1 / 16
إن العلماء المسلمين المعاصرين وبعض المستشرقين ردوا ادعاء جولدتسيهر ضد الزهري لأنه زعم غير منطقي، وليس مبنيا على حجج علمية؛ لأنه لم يكن بمقدور الزهري أن ينسب هذا الحديث كذبا على لسان أستاذه سعيد ابن المسيب (٩٤؟/٧١٣م) الذي كان ما زال حيا أثناء رواية الزهري لهذا الحديث، ولاسيما إذا علمنا أن سعيد بن المسيب كان ذا عداء شديد لبني أمية وبخاصة للخليفة عبد الملك بن مروان، فلو فرضنا أن الزهري وضع هذا الحديث لصالح الأمويين فإنه كان سيعرض ثقته للاهتزاز أمام الرواة الذين كانوا يعتبرونه راوية ثقة. (١) ولو وضع الزهري الحديث السابق فإن أستاذه كان سيعارض هذه الرواية، ولن يسمح له بأن ينقل شيئا كذبا على لسانه، وبالإضافة إلى ما سبق فإن هذا الحديث لم يروه الزهري فقط فقد ورد الحديث من خمسة عشر طريقا آخر من غير طريق الزهري، مما يعني أن هذا الحديث كان معروفا قبل أن يرويه الزهري (٢)، وقد بلغ مجموع طرق رواية هذا الحديث ستة وخمسين طريقا كما سبق وذكرنا. فانظر كيف يكون الافتراء بلا دليل ولا حجة قاطعة؟ ثم انظر كيف أن هذا الافتراء يطال علما من أعلام المسلمين ويتهمه بالكذب ليس على الناس بل على النبي ﷺ؟ وحاش للزهري أن يقوم بمثل هذا العمل، وإنما القصد من هذا الافتراء التشكيك برواة الأحاديث ونسف ثقة المسلمين ويقينهم بصحة السنة النبوية الشريفة.
_________
(١) محمد عجاج الخطيب، السنة قبل التدوين، (بيروت: دار الفكر، ١٩٨١م)، ص: ٥١٣.
(٢) محمد شراب، بيت المقدس والمسجد الأقصى: دراسة تاريخية موثقة، (دمشق: دار القلم، ١٩٩٤م)، ص: ٣١٧ – ٣٢٠. وانظر:
Lecker،“ Biographical Notes”، p.، footnote no..
1 / 17
٣- أولا: الرد على ما ادعاه المستشرقون من أنه كان سهلا اختراع سند ولصقه بأي حديث، وأن الأحاديث لا تحتوي على معلومات موثوقة عن الفترة الأولى من الإسلام، وأن الحديث الشريف وجد نتيجة للتطور الديني والتاريخي والاجتماعي:
أ- إن الناظر في هذه الادعاءات من أهل الاختصاص يتعجب من سخفها لأنها تنم عن جهل عميق بعلم الحديث ورجاله وبتاريخ نقل السنة النبوية الشريفة وتوثيقها وتفاني الأمة الإسلامية في ذلك. ولتقريب سخف هذا الادعاء أضرب مثالا: إذا ادعى شخص ما في زماننا أن هناك معركة كبيرة حدثت بين دولتي الأرجنتين والبرازيل وراح ضحيتها آلاف البشر بتاريخ ١/٢٠٠٣، فحتى لو كان صاحب هذه الكذبة يملك ألف قناة فضائية ليمرر كذبته على الناس، فهل يمكن أن يصدقها حتى السذج من أبناء هذا الزمان؟ الجواب لا؛ لأن كذبه سرعان ما سيظهر للناس. وإن تصديق القول بأن الكذابين على رسول الله ﷺ الذين عاشوا في العصور الإسلامية الأولى كانوا يمرحون ويشيعون كذبهم ويفترون على الرسول ﷺ حسبما يحلو لهم وساعة ما يريدون من غير معارض لهم، إن تصديق هذا القول لهو قريب ومشابه لمن يصدق بالمعركة الكاذبة بين الأرجنتين والبرازيل. وإن الحقيقة تثبت عكس ما يقوله المستشرقون، لأن علماء الأمة وعلى رأسهم المحدثون كانوا متيقظين ليل نهار لرصد أي حديث يروى ورصد تاريخ حياة كل من تصدى للرواية، ولهذا فقد قاموا بدراسة حياة ما يزيد على عشرات الألوف من الرواة لمعرفة درجة صدقهم أو كذبهم ولمعرفة درجة حفظهم، فكانوا أدق الناس وأعلمهم في نقل الأخبار ومعرفة
1 / 18
درجات الرجال ومعرفة الأسانيد، ولهذا لم يجد الكذابون سوقا لكذبهم إلا وكان العلماء المحدثون الصيارفة لهم بالمرصاد، يبينون زيف عملة الكذابين، فكيف يقال بعد ذلك: إنه كان من السهل اختراع سند ولصقه بأي حديث؟.
أضف إلى ذلك فقد كان للعلماء طرق كثيرة في معرفة رواية كل محدث وتلامذته الذين رووا عنه، فكيف كان يستطيع راو غير معروف بصحبته لمحدث ما أو بسماعه منه أن يدعي بأنه سمع من ذلك المحدث مع أن تلامذة ذلك المحدث معروفون؟ وكذلك فإن علماء الأمة الذين عاشوا في خير القرون قد بذلوا قصارى جهدهم في الذب عن الحديث النبوي الشريف، وقد رصد علماء الحديث في علوم الحديث ما يسمى بالحديث المقلوب، وعرفوا جيدا قلب الأسانيد مع الأحاديث وكانوا يمتحنون بعضهم بقلب أسانيد الأحاديث وذلك لمعرفة مدى حفظ الحافظ للحديث كما فعل علماء بغداد مع الإمام البخاري عندما امتحنوه. وإن قلب الأسانيد عن سهو وبغير قصد مع الأحاديث يعد عيبا كبيرا يطعن بضبط الراوي، لذا كان العلماء يعرفون الرواة الذين يقلبون الأسانيد في أحاديثهم ويحذرون الناس منهم. قال الخطيب البغدادي: «اتفق أهل العلم على أن السماع ممن ثبت فسقه لا يجوز، ويثبت الفسق بأمور كثيرة لا تختص بالحديث، فأما ما يختص منها فمثل أن يضع متون الأحاديث على رسول الله ﷺ، أو أسانيد المتون، ويقال: إن الأصل في التفتيش عن حال الرواة كان لهذا السبب» (١) .
_________
(١) أحمد بن علي الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، تحقيق محمود الطحان، (الرياض: مكتبة المعارف، ١٤٠٣؟/١٩٨٣م)، ط١، ج: ١، ص: ١٣٠.
1 / 19
ب- إن عناية علماء الحديث الشريف الجبارة بتوثيق السنة، والقواعد التي وضعوها لذلك في الراوي والمروي تثبت أن ما نقل إلينا لم يأت نتيجة للتطور التاريخي والديني والاجتماعي، فأصحاب النبي ﷺ الذين هم أمناء هذه الأمة نقلوا لنا بصدق ما سمعوه من النبي ﷺ، وكذلك فعل التابعون وتابعوهم إلى أن دون الحديث الشريف، فأنَّى لمفتر بعد ذلك أن يهدم هذا البناء العظيم من السنة النبوية الشريفة بكلمة باطلة مفتراة؟ وانظر معي إلى أمانة الصحابي في نقله للسنة، يقول سيدنا أنس بن مالك ﵁: والله ما كل ما نحدثكم عن رسول الله ﷺ سمعناه منه، ولكن لم يكن يكذب بعضنا بعضا. (١)
فإذا كان الأمر كذلك فكيف يصح القول بأن الأمة الإسلامية كلها شاركت في الكذب على رسولها ﷺ؟ ومعلوم أن الكذب في الإسلام من الكبائر، وأما الكذب على الرسول ﷺ فهو من أكبر الكبائر؟ والكذب على نبي هذه الأمة ﷺ لم يمارسه إلا الزنادقة أو الجهلة من الناس الذين فضحهم الله تعالى بين الأمة على أيدي جهابذة علماء الحديث، إذن إن كل ما نقل إلينا عنه ﷺ وصححه العلماء موثوق به، وليس نتيجة للتطور التاريخي أو الديني أو الاجتماعي للأمة الذي يتحدث عنه هؤلاء المستشرقون. وأشير إلى مثال في
_________
(١) أخرجه محمد بن عبد الله الحاكم، المستدرك على الصحيحين، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، (بيروت: دار الكتب العلمية، ١٤١١؟)، ط١، ج:٣، ص: ٦٦٥، ح: ٦٤٥٨. وسليمان بن أحمد الطبراني، في المعجم الكبير، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، (مكتبة العلوم والحكم)، ط٢، ج:١، ص: ٢٤٦، ح: ٦٩٩.
1 / 20