ـ[الرَّوْض الْأنف فِي شرح السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ هِشَام]ـ
الْمُؤلف: أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد السُّهيْلي (الْمُتَوفَّى: ٥٨١هـ)
الْمُحَقق: عمر عبد السَّلَام السلَامِي
الناشر: دَار إحْيَاء التراث الْعَرَبِيّ، بيروت
الطبعة: الطبعة الأولى، ١٤٢١هـ/ ٢٠٠٠م
عدد الْأَجْزَاء: ٧
[ترقيم الْكتاب مُوَافق للمطبوع وَهُوَ مذيل بالحواشي]
Shafi da ba'a sani ba
المجلد الأول
مُقَدّمَة
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْمُقدمَة:
الْحَمد لله رب الْعَالمين حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، الْحَمد لله الَّذِي أَحْيَا بِذكرِهِ قُلُوب عباده الصَّالِحين، فَقَامُوا لإحياء عُلُوم هَذَا الدّين.
وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد سيد الْأَوَّلين والآخرين وصفوة الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وقائد الغر المحجلين وعَلى آله السَّادة الأكرمين وَأَصْحَابه الغر الميامين وَمن اتبعهم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين أما بعد:
إِن أهم مَا يُمَيّز هَذَا الْعَصْر عَمَّا تقدمه من عصور هُوَ التَّفَاوُت أبنائه إِلَى تراث الْآبَاء والأجداد وَالسَّعْي الحثيث إِلَى بَعثه وحقيقه؛ لما فِيهِ من ذخائر وكنوز قل نظيرها عِنْد غَيرنَا من الْأُمَم الْأُخْرَى، مدفوعين إِلَى ذَلِك بدافع ديني، وَهُوَ الْحفاظ على عُلُوم هَذَا الدّين.
فحري بمثقفي هَذِه الْأمة والمتخصصين من أبنائها أَن يحافظوا على تراث الْآبَاء والأجداد، وَأَن يسعوا جاهدين لتجديده وإحيائه ودراسته وفهمه وَشَرحه، وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ بِمَا يتوصلون إِلَيْهِ نم معارف وعلوم وفنون؛ لِأَن الْعُلُوم حلقات مُتَّصِلَة عبر مسيرَة الْحَيَاة، وَهَكَذَا يتم التواصل بَين الأجداد والأحفاد.
وَمِمَّا لَا شكّ فِيهِ أَن ظُهُور الرسَالَة المحمدية يعْتَبر أعظم حَادث فِي تَارِيخ الْعَرَب خَاصَّة والبشرية عَامَّة، وَلم يدون فِي تَارِيخ الْعَرَب أَو السِّيرَة شَيْء إِلَى أَن مَضَت أَيَّام الْخُلَفَاء، بل لم يدون فِي هَذِه الْمدَّة غير الْقُرْآن الْكَرِيم ومبادئ النَّحْو، فقد رَأينَا
1 / 5
الْمُسلمين يحفزهم حرصهم على حفظ الْقُرْآن إِلَى كِتَابَته فِي حَيَاة النَّبِي ﷺ.
وَلما كَانَت أَيَّام الْخَلِيفَة ﵁ أحب أَن يدون فِي التَّارِيخ كتاب، فاستقدم عبيد بن شرية الجرهمي من صنعاء فَكتب لَهُ كتاب "الْمُلُوك وأخبار الماضين"، وَبعد ذَلِك أَخذ أَكثر من وَاحِد من الْعلمَاء يتجهون إِلَى علم التَّارِيخ من ناحيته الْخَاصَّة لَا الْعَامَّة، وَهِي سيرة الرَّسُول ﷺ، ولعلهم وجدوا فِي تدوين مَا يتَعَلَّق بِهِ ﵊ شَيْئا يُحَقّق مَا فِي أنفسهم من تعلق بِهِ، وَحب لتخليد آثاره، بعد أَن منعُوا من تدوين أَحَادِيثه إِلَى أَيَّام الْخَلِيفَة الرَّاشِدِي الْخَامِس عمر بن عبد الْعَزِيز ١ ﵁ خافة أَن يخْتَلط الحَدِيث بِالْقُرْآنِ، فجَاء أَكثر من رجل كلهم مُحدث، فدونوا فِي السِّيرَة كتبا. نذْكر مِنْهُم: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام الْفَقِيه الْمُحدث الَّذِي مكنه نسبه من قبل أَبِيه الزبير، وَأمه أَسمَاء بنت أبي بكر أَن يروي الْكثير من الْأَخْبَار وَالْأَحَادِيث عَن النَّبِي ﷺ وحياة صدر الْإِسْلَام.
وحسبك أَن تعلم أَن ابْن إِسْحَاق والواقدي والطبري، أَكْثرُوا من الْأَخْذ عَن عُرْوَة ﵁ وَلَا سِيمَا فِيمَا يتَعَلَّق بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَة وَالْمَدينَة، وغزوة بدر إِلَى غير ذَلِك. وَلِهَذَا كَانَ ابْن إِسْحَاق من أَوَائِل من كتب كتابا فِي السِّيرَة، وَلذَلِك اعْتَبرهُ الْعلمَاء شيخ رجال السِّيرَة.
أضف إِلَى ذَلِك أَن سيرة ابْن إِسْحَاق ت: ١٥١هـ كَانَت مقسمة إِلَى ثَلَاثَة أَجزَاء:
- الْمُبْتَدَأ، ويتناول التَّارِيخ الجاهلي.
- المبعث، ويتناول حَيَاة النَّبِي ﷺ فِي مَكَّة وَالْهجْرَة.
_________
١ ذكر الْحَافِظ ابْن حجر ﵀ فِي "فتح الْبَارِي" ١/ ٢٠٤ فِي شَرحه قَول الْخَلِيفَة عمر بن عبد الْعَزِيز لأبي بكر بن حزم: "انْظُر مَا كَانَ من حَدِيث رَسُول الله ﷺ فاكتبه".
وَقَالَ الْحَافِظ فِي مَوضِع آخر من "فتح الْبَارِي" ١/ ٢١٨: "أول من دون الحَدِيث ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ على رَأس الْمِائَة بِأَمْر الْخَلِيفَة عمر بن عبد الْعَزِيز، ثمَّ كثر التدوين، ثمَّ التصنيف، وَحصل بذلك خير كثير، فَللَّه الْحَمد".
1 / 6
- الْمَغَازِي، وتشمل حَيَاة النَّبِي ﷺ فِي الْمَدِينَة المنورة.
ثمَّ قيض الله لهَذَا المجهود - مجهود ابْن إِسْحَاق - رجلا لَهُ شَأْنه، هُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الْملك بن هِشَام ت: ٢١٣هـ الْمعَافِرِي، فَجمع هَذِه السِّيرَة ودونها، وَكَانَ لَهُ فِيهَا قلم لم يَنْقَطِع عَن تعقب ابْن إِسْحَاق فِي الْكثير مِمَّا أوردهُ بالتحرير والاختصار والنقد، أَو بِذكر رِوَايَة أُخْرَى فَاتَ ابْن إِسْحَاق ذكرهَا، هَذَا إِلَى تَكْمِلَة أضافهان وأخبار أَتَى بهَا.
ثمَّ جَاءَ من بعدهمْ أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن السُّهيْلي المتوفي سنة ٥١٨هـ فعني بِهَذَا الْكتاب وتناوله على نَحْو جَدِيد ونهج آخر، وَهُوَ بِمَنْزِلَة الشَّرْح وَالتَّعْلِيق عَلَيْهِ، فَوضع كِتَابه "الرَّوْض الْأنف" - وَهُوَ الْكتاب الَّذِي بَين أَيْدِينَا- فِي ظلّ مجهودي ابْن إِسْحَاق وَابْن هِشَام، يتعقبهما فِيمَا أخبرا بالتحرير والضبط، ثمَّ الشَّرْح وَالزِّيَادَة، فجَاء عمله هَذَا كتابا آخر فِي السِّيرَة بحجمه وَكَثْرَة مَا حواه من آراء، تشهد لصَاحِبهَا بطول الباع، وَكَثْرَة الِاطِّلَاع.
وَمِمَّا نَقله صَاحب "كشف الظنون" ١ فِي معرض حَدِيثه عَن كتاب "الرَّوْض الْأنف" قولا للْإِمَام السُّهيْلي يشْرَح فِيهِ تأليفه لهَذَا الْكتاب حَيْثُ يَقُول: " ... فَإِنِّي اتنحيت فِي هَذَا الْإِمْلَاء بعد الاستخارة إِلَى إِيضَاح مَا وَقع فِي سيرة رَسُول الله ﷺ الَّتِي سبق إِلَى تأليفها أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق المطلبي، ولخصها عبد الْملك بن هِشَام الْمعَافِرِي النسابة مَا بَلغنِي علمه وَيسر لي فهمه من لفظ غَرِيب أَو إِعْرَاب غامض أَو كَلَام مستغلق أَو نسب عويص.
وَكَانَ بَدْء إملائي هَذَا الْكتاب فِي محرم سنة / ٥٦٩/ هـ تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة، وَكَانَ الْفَرَاغ مِنْهُ فِي جُمَادَى الأولى من ذَلِك الْعَام تحصل فِيهِ من فَوَائِد الْعُلُوم والآداب وَأَسْمَاء الرِّجَال والأنساب وَمن الْفِقْه الْبَاطِن اللّبَاب وتعليل النَّحْو وصنعة الْإِعْرَاب مَا هُوَ مستخرج من نَيف على مائَة وَعشْرين ديوانًا أَو نَحْوهَا". اهـ.
_________
١ انْظُر "كشف الظنون" لحاجي خَليفَة: ١/ ٩١٧، ٩١٨. ط. دَار إحْيَاء التراث - بِلَا تَارِيخ.
1 / 7
هَذَا وَقد حظي كتاب "الرَّوْض الْأنف" اهتماما من قبل الْعلمَاء اللاحقين، فَاخْتَصَرَهُ عز الدّين بن أبي، الْمَعْرُوف بِابْن الْجَمَاعَة الْمُتَوفَّى / ٨١٩/ تسع عشة وَثَمَانمِائَة لِلْهِجْرَةِ وَسَماهُ "نور الرَّوْض"وَعَلِيهِ حَاشِيَة لقَاضِي الْقُضَاة يحيى الْمَنَاوِيّ الْمُتَوفَّى سنة/ ٨٧١/ هـ إِحْدَى وَسبعين وَثَمَانمِائَة. ثمَّ جرد سبطه زين العابدين بن عبد الرؤوف هَذِه الْحَاشِيَة.
وَقد انْتفع بمادة هَذَا الْكتاب كثير مِمَّن جاؤوا بعده، وَلَا سِيمَا ابْن الْقيم فِي كِتَابه "بَدَائِع الْفَوَائِد".
وَمن الجدير بِالذكر أَن الإِمَام السُّهيْلي تألق وَعلا شَأْنه بَين الْعلمَاء من خلال هَذَا الْكتاب، لأَنهم وجدوا من خلاله أَن الإِمَام السُّهيْلي بذلك جهدًا بارعًا صادعًا بِأَن الرجل كَانَ إِمَامًا فِي فنون عصره بِنَصِيب وفير، وَقد لاءم بَين فنون مَعْرفَته حَتَّى جعل مِنْهَا وحدة يصدر عَنْهَا فِي كل مَا يكْتب.
وَمِمَّا يزيدنا إعجابًا بِهَذَا الإِمَام أَنه فقد بَصَره، علما أَن الْكتب كَانَت فِي زَمَانه خطوطة، فَمَتَى طالع كل هَذَا؟ وَكَيف طالعه؟ وتراثه يشْهد لَهُ بِأَنَّهُ استوعب كل مَا قرأن، وبدت سَعَة اطِّلَاعه ونفاذ بصيرته وَقُوَّة تفكيره فِي أَكثر مَا كتب.
وَمِمَّا يجعلنا أَيْضا شديدي الاحترام لهَذَا الرجل مُلَاحظَة تِلْكَ الْحَقِيقَة الَّتِي تطالعنا فِي كِتَابه هَذَانِ إِنَّهَا الْأَمَانَة الصادقة فِي النَّقْل، وَفِي نِسْبَة كل شَيْء إِلَى قَائِله، فَلم يَأْتِ بِزِيَادَة مفتراه، أَو يقترف فِي نَقله نقصا قد يُغير نم مَفْهُوم القولن وَلِهَذَا نرَاهُ ينْقل مَا يتَّفق مَعَ الْحق، وَمَا يُقَارِبه فِي بعض أحيانه.
وَكفى بِالْمَرْءِ شرفًا أَن يعتني بقلمه وفكره وروحه بسيرة أشرف الْبشر سيدنَا مُحَمَّد ﷺ ويحيطها بالرعاية والاهتمام.
وَلِهَذَا كُله فقد رَأَتْ دَار إحْيَاء التراث الْعَرَبِيّ فِي بيروت أَن تعيد طبع كتاب:
1 / 8
"الرَّوْض الْأنف" شرح سيرة ابْن هِشَام ١ طباعة حَدِيثَة وترتيب جَدِيد، فأوكلوا لنا الْعَمَل فِي هَذَا الْكتاب ضمن خطة مقررة تتناسب وظروف الدَّار، وَهَذَا شَأْن العديد من الْكتب فِي كثير من دور النشر كَمَا هُوَ مَعْرُوف.
وَقد وَضعنَا سيرة ابْن هِشَام فِي أَعلَى الصفحات، يَليهَا شرح الإِمَام السهيلين ثمَّ يَلِيهِ التعليقات والهوامش فِي الْأَسْفَل.
وَكَانَت خطة الْعَمَل فِي الْكتاب كَمَا يَلِي:
١- تَصْحِيح تجارب الشَّارِح، وَحل وتوضيح العديد من أَلْفَاظه الغامضة وكلماته المصحفة.
٢- تَخْرِيج الْآيَات القرآنية، والعديد من الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة بعد ضَبطهَا من مصادرها الأساسية.
٣- وضع تعليقات وهوامش ضَرُورِيَّة للْكتاب، حَسْبَمَا تَقْتَضِيه الْحَاجة، وللأمانة هُنَا، فقد اتنفعنا كثيرا من تعليقات الْأُسْتَاذ عبد الرَّحْمَن الْوَكِيل، فجزاه الله عَنَّا وَعَن الْمُسلمين كل خير.
٤- ضبط الْكثير من الْأَعْلَام والكلمات الغريبة والأشعار بالشكل للإيضاح.
٥- وَضعنَا محتوى مُوَافق للشرح فِي نِهَايَة كل جُزْء، أضف إِلَى ذَلِك أننا جعلنَا التراويس مُوَافقَة للشرح أَيْضا فِي كل الْأَجْزَاء.
هَذَا، وَزِيَادَة فِي الْفَائِدَة فقد وَضعنَا تراجم موجزة فِي أول الْكتاب للأئمة الثَّلَاثَة:
ابْن إِسْحَاق صَاحب السِّيرَة، وَابْن هِشَام ملخصها، والسهيلي شارحها.
_________
١ طبع الْكتاب سَابِقًا عدَّة مَرَّات، وَكَانَ أفضل طبعاته تِلْكَ الطبعة الَّتِي حققها الْأُسْتَاذ الْفَاضِل عبد الرَّحْمَن الْوَكِيل فِي ٧ مجلدات فِي طبعته الأولى لعام ١٤١٠هـ= ١٩٩٠م، وَهَذِه الطبعة هِيَ الَّتِي كَانَت أساسًا لعملنا.
1 / 9
وَبعد، فَهَذَا مَا فِي وسعنا تَقْدِيمه لخدمة هَذَا الْكتاب بِمَا يسر الله بِهِ وأعان. سائلين الْمولى تَعَالَى أَن يتَقَبَّل منا هَذَا الْعَمَل خَالِصا لوجهه الْكَرِيم، وَأَن يَجعله ذخْرا لنا ولآبائنا وَأُمَّهَاتنَا أجمعينن وَأَن ينفع بِهِ عباده فِي كل حِين، وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين.
بيروت فِي محرم ١٤٢١/ نيسان ٢٠٠٠م وَكتبه
الشَّيْخ عمر عبد السَّلَام السلَامِي
1 / 10
تَرْجَمَة ابْن إِسْحَاق:
اسْمه وَنسبه:
هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يسَار خِيَار، أَبُو بكر، وَيُقَال أَبُو عبد الله الْمدنِي الْقرشِي المطلبي، مولى قيس بن مخرمَة، وجده، يسَار كَانَ من سبي "عين التَّمْر" الَّتِي افتتحها الْمُسلمُونَ فِي السّنة الثَّانِيَة عشرَة من الْهِجْرَة أَيَّام أبي بكر الصّديق ﵁، وَهِي بَلْدَة قريبَة من الأنبار غربي الْكُوفَة، وَكَانَ فتحهَا على يَد خَالِد بن الْوَلِيد ﵁. وبكنيسة "عين التَّمْر" وجد الْمُسلمُونَ جد ابْن إِسْحَاق بن الغلمة الَّذين كَانُوا رهنا فِي يَد كسْرَى، كَانَ مَعَه جد عبد الله بن أبي إِسْحَاق الْحَضْرَمِيّ النَّحْوِيّ، وجد الْكَلْبِيّ، فجيء بيسار إِلَى الْمَدِينَة المنورة.
مولده ووفاته:
ولد ابْن إِسْحَاق فِي الْمَدِينَة المنورة شَابًّا يافعًا جميل الْوَجْه، فَارسي الْخلقَة، وَمِمَّا ذكره ابْن النديم عَنهُ: أَن أَمِير الْمَدِينَة بلغه أَن مُحَمَّدًا يغازل النِّسَاء، فَأمر
1 / 11
بإحضاره وضربه أسواطًا، وَنَهَاهُ عَن الْجُلُوس فِي مُؤخر الْمَسْجِد ١.
وَمِمَّنْ أدْرك ابْن إِسْحَاق فِي الْمَدِينَة المنورة من الصَّحَابَة أنس بن مَالك ﵁.
ثمَّ مَا لبث ابْن إِسْحَاق أَن ترك الْمَدِينَة ورحل إِلَى غَيرهَا من الْبلدَانِ، فَكَانَت رحلته الألى إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة سنة ١١٥هـ، وَفِي الْإسْكَنْدَريَّة حدث عَن جمَاعَة من أهل مصر مِنْهُم: عبيد الله بن الْمُغيرَة، وَعبيد الله بن أبي جَعْفَر، وَيزِيد بن حبيب، وَغَيرهم كثير. وَقد انْفَرد ابْن إِسْحَاق بِرِوَايَة أَحَادِيث عَنْهُم لم يروها غَيره.
ثمَّ كَانَت رحلته إِلَى الْكُوفَة والجزيرة والري والحيرة وبغداد، وَفِي بَغْدَاد التقى بالخليفة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور، وصنف لِابْنِهِ الْمهْدي كتاب "السِّيرَة" وَكَانَ أَكثر رُوَاته من تِلْكَ الْبِلَاد. وَقد عَاشَ ابْن إِسْحَاق بَقِيَّة حَيَاته فِي بَغْدَاد إِلَى أَن وافته الْمنية يها سنة ١٥١هـ - على قَول الخزرجي - وَدفن ابْن إِسْحَاق فِي مَقْبرَة لخيزران من مَقَابِر بَغْدَاد.
مَنْزِلَته ومكانته يبن الْعلمَاء:
يعْتَبر ابْن إِسْحَاق أحد الْأَئِمَّة الأعلامن وَلَا سِيمَا فِي الْمَغَازِي وَالسير، وَهُوَ الَّذِي ألف السِّيرَة الْمَشْهُورَة النِّسْبَة إِلَى ابْن هِشَام، وَقد ألفها بِأَمْر من الْخَلِيفَة أبي جَعْفَر الْمَنْصُور، ليعلمها لِابْنِهِ الْمهْدي، وَفِي هَذَا يَقُول ابْن عدي عَنهُ: "لَو لم يكن لِابْنِ إِسْحَاق من الْفضل إِلَى أَنه صرف الْمُلُوك عَن الِاشْتِغَال بكتب لَا يحصل مِنْهُ شَيْء، للاشتغال بمغازي رَسُول الله ﷺ ومبعثه ومبتدأ الْخلق، لكَانَتْ هَذِه الْفَضِيلَة سبق لَهَا ابْن إِسْحَاق، وَقد فتشت أَحَادِيثه الْكَثِيرَة فَلم أَجدهَا تهيء أَن يقطع عَلَيْهِ بالضعف،
_________
١ لِأَن الْمَسَاجِد آنذاك يجْتَمع فِيهِ الرِّجَال وَالنِّسَاء للصَّلَاة، فصفوف الرِّجَال من الْأَمَام وصفوف النِّسَاء خلفهَا، وَقد ورد حَدِيثا عَن النَّبِي ﷺ فِي ذَلِك وَهُوَ قَوْله: "خير صُفُوف الرِّجَال أَولهَا وشرها آخرهَا، وَخير صُفُوف النِّسَاء آخرهَا وشرها أَولهَا" الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي بَاب تَسْوِيَة الصُّفُوف وإقامتها وَفضل الأول فَالْأول مِنْهَا.
1 / 12
وَرُبمَا أَخطَأ وأتهم فِي الشَّيْء بعد الشَّيْء كَمَا يُخطئ غَيره".
كَمَا أننا نجد غير وَاحِد من الْأَئِمَّة الاعلامن كَابْن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَشعْبَة بن الْحجَّاج وسُفْيَان الثَّوْريّ، يوثقونه وَلَا يَتَّهِمُونَهُ بِشَيْء مِمَّا اتهمه بِهِ غَيرهم.
فنجد عَالما جَلِيلًا كَالْإِمَامِ مَالك بن أنس ﵀، وَآخر كهشام بن عُرْوَة بن الزبير ﵁، يكادان يخرجانه من حَظِيرَة المحديثين، وَلَا يدخران وسعًا فِي اتهامه بِالْكَذِبِ والدجل.
وَمِمَّا قَالَه الإِمَام مَالك عَنهُ: "ابْن أسْحَاق كَذَّاب ودجال من الدجاجلة"، وَرُوِيَ عَن الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل ﵀ أَنه قَالَ: "ابْن إِسْحَاق لَيْسَ بِحجَّة"، وَحكم عَلَيْهِ ابْن معينفي رِوَايَة عَنهُ بِأَنَّهُ سقيم، وَلَيْسَ بِحجَّة.
وَالْحق - وَالله أعلم - أَن الحاملين عَلَيْهِ لم تكن ساحتهم مبرأة عَن الْغَايَة، وَلم تكن مَعَ الْحق مُطَابقَة، لِأَن ابْن إِسْحَاق كَانَ يطعن فِي نسب مَالك بن أنس، وَفِي علمه وَيَقُول: ائْتُونِي بِبَعْض كتبه حَتَّى أبين عيوبه، فَأَنا بيطار كتبه. فانبرى لَهُ مَالك، وفتش هُوَ الآخر عَن عيوبه، وَسَماهُ دجالًا، وَكَانَت بَينهمَا هَذِه الْحَرْب الكلامية.
كام غاظ هِشَام بن عبد الْملك من ابْن إِسْحَاق أَنه كَانَ يَدعِي رِوَايَته عَن امْرَأَته، وَالرِّوَايَة فِي ظن هِشَام لَا بُد أَن تصحبها الرُّؤْيَة، وَلَقَد فَاتَ هشامًا أَن الرِّوَايَة قد تكون من وَرَاء حجاب، أَو أَن ابْن إِسْحَاق حمل عَنْهَا صَغِيرا.
وَأما مَا رمي بِهِ ابْن إِسْحَاق من التَّدْلِيس وَغَيره، فقد عقد فِي ذَلِك الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فِي كِتَابه "تَارِيخ بَغْدَاد"، وَابْن سيد النَّاس فِي كِتَابه "عُيُون الْأَثر" فصلين عرضا فيهمَا لتفنيد جَمِيع المطاعن الَّتِي وجهت إِلَيْهِ.
يبْقى هُنَا مأخذًا على ابْن إِسْحَاق، وَهُوَ أَنه كَانَت تعْمل لَهُ الْأَشْعَار، وَيُؤْتى بهَا، وَيسْأل أَن يدخلهَا فِي كِتَابه "السِّيرَة" فيفعل ذَلِك بِلَا وقُوف وَلَا تَنْقِيح.
وَهَذَا مطْعن فِي مِقْدَار علمه بالشعر، فَكَانَ يقبل الْأَشْعَار غثها وسمينها، باطلها وصحيحها، وَلَو أَن ابْن إِسْحَاق حكم ذوقه، ووقف من هَذِه الْأَشْعَار وَقْفَة النَّاقِد،
1 / 13
لخص كِتَابه من أشعار أَكْثَرهَا مَوْضُوعَة، ولخلص نَفسه من مطْعن جارح يسجله عَلَيْهِ الْآخرُونَ على مر السنين.
وَلَا بُد من الْإِشَارَة إِلَى أَمر هام فِي حَيَاة ابْن إِسْحَاق، وَهُوَ أَنه لم يتَخَلَّف عَنهُ فِي الرِّوَايَة كثير من الثِّقَات وَالْأَئِمَّة، فقد أخرج لَهُ الإِمَام مُسلم فِي المتابعات، وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع، وروى لَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة.
وَقد رُوِيَ هُوَ عَن أَبِيه وَعَن الزُّهْرِيّ وَخلق غَيرهم، وروى أَيْضا عَن شَيْخه يحيى الْأنْصَارِيّ، عبد الله بن عون، وَشعْبَة وسُفْيَان الثَّوْريّ وسُفْيَان بن عُيَيْنَة.
وختامًا نقُول عَن سيرته: إِن أصدق قَول قيل فِيهِ هُوَ قَول ابْن عبد الله بن نمير، حَيْثُ قَالَ عَنهُ: فقد روى فِي السِّيرَة عَن المجهولين مَا لَا يحترمه الصدْق، ورى أَيْضا مَا ينفح بِطيب الْحق، وَقد بَقِي فِيهَا مَا لَا يَصح، رغم قيام ابْن هِشَام بتهذيبها، وَهُوَ الَّذِي يَقُول عَن ابْن إِسْحَاق فِي مُقَدّمَة كِتَابه من أَنه سيترك مِمَّا ذكر ابْن إِسْحَاق "أشعارًا ذكرهَا وَلم أر أحدا من أهل الْعلم بالشعر يعرفهَا، وَأَشْيَاء بَعْضهَا يشنع الحَدِيث بِهِ، وَبَعض يسوء بعض النَّاس ذكره، وَبَعض لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقص - إِن شَاءَ الله -، سوى ذَلِك مِنْهُ بمبلغ الرِّوَايَة لَهُ وَالْعلم بِهِ".
رحم الله محدثنا ابْن إِسْحَاق شيخ رجال السِّيرَة وجزاه الله عَنَّا وَعَن الْمُسلمين كل خير، وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين.
1 / 14
تَرْجَمَة ابْن هِشَام
اسْمه وَنسبه:
هُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الْملك بن هِشَام بن أَيُّوب الْحِمْيَرِي ١، عَاشَ فِي أَكثر من بلد، وَلذَلِك فَمن الروَاة من ينْسبهُ إِلَى معافر بن يعفر، حَيْثُ نزح مِنْهُم إِلَى مصر جمهرة كَثِيرَة، وَمن الروَاة من ينْسبهُ إِلَى ذهل، وَقيل غير ذَلِك، وَهَذَا شَأْن كل من يتنقل فِي الْبلدَانِ ويهجر الأوطان.
نشأته:
نَشأ ابْن هِشَام بِالْبَصْرَةِ، وَأخذ الْعلم بدايةً عَن علمائها آنذاك، ثمَّ ارتحل إِلَى مصر ليكمل علومه هُنَاكَ، وَمن هُنَا حصر الروَاة حَيَاة ابْن هِشَام فِي هذَيْن البلدين، وَالْوَاقِع أَن ابْن هِشَام تنقل فِي بلدان كَثِيرَة فَلم تكن حَيَاته محصورة كَذَلِك، وخاصة فِي عصر كَانَ الْعلم فِيهِ يُؤْخَذ سَمَاعا من الْعلمَاء، وَكَانَت الرحلات العلمية ديدن الْعلمَاء.
مولده ووفاته:
لم تذكر المصادر المتوفرة لدينا تَارِيخ مولد ابْن هِشَام، وَهَذَا حَال كثير من الْعلمَاء السَّابِقين، وَيذكر صَاحب "الْأَعْلَام" أَنه ولد بِالْبَصْرَةِ وَنَشَأ فِيهَا، ثمَّ قدم مصر،
_________
١ نِسْبَة إِلَى حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وَفِي حمير بطُون وأفخاذ كَثِيرَة.
انْظُر: "الإنباه" لِابْنِ عبد الْبر - ص/ ١٢٠/.
1 / 15
وَحدث بهَا، وَتُوفِّي فِيهَا، وَقد اخْتلفت الرِّوَايَات فِي وَفَاته، ففريق يَقُول كَانَت وَفَاته سنة ٢١٣ ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ لِلْهِجْرَةِ، وفريق آخر يَقُول إِن وَفَاته كَانَت سنة / ٢١٨هـ/ وَالله أعلم بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب.
مَنْزِلَته ومكنته بَين الْعلمَاء:
كَانَ ابْن هِشَام عَالما بالانساب واللغة وأخبار الْعَرَب، وَقد كَانَ ﵀ إِمَامًا فِي النَّحْو واللغة الْعَرَبيَّة، وَهَذَا مِمَّا حَكَاهُ الإِمَام الذَّهَبِيّ عَنهُ، كَمَا أَنه حِين قدم مصر التقى بِهِ الإِمَام الشَّافِعِي ﵁، وتناشدا الْأَشْعَار كثيرا، وَهَذَا من غرائب ابْن هِشَام، لِأَنَّهُ عِنْدَمَا كَانَ ينْقل عَن ابْن إِسْحَاق الشّعْر، وَكَانَ بعضه ظَاهر الْفساد، فَكَانَ لَا يَسْتَطِيع أَن يقطع فِيهِ بِرَأْي، وَيَقُول: هَكَذَا حَدثنَا أهل الْعلم بالشعر. أضف إِلَى ذَلِك أَن ابْن هِشَام لما هذب سيرة ابْن إِسْحَاق خفف كثيرا من أشعارها.
وَقد أورد الدَّارَقُطْنِيّ قولا عَن الْمُزنِيّ حَيْثُ يَقُول: قدم علينا الشَّافِعِي ﵁ وَكَانَ بِمصْر عبد الْملك بن هِشَام صَاحب "الْمَغَازِي" وَكَانَ عَلامَة أهل مصر بِالْعَرَبِيَّةِ وَالشعر، فَقيل لَهُ فِي الْمصير إِلَى الشَّافِعِي، فتثاقل، ثمَّ ذهب إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا ظَنَنْت أَن الله يخلق مثل الشَّافِعِي ١ ﵁.
وَيَقُول عَنهُ ابْن خلكان: وَهَذَا ابْن هِشَام هُوَ الَّذِي جمع سيرة رَسُول الله ﷺ من الْمَغَازِي وَالسير لِابْنِ إِسْحَاق وهذبها ولخصها، وَشَرحهَا السُّهيْلي الْمَذْكُور، وَهِي الْمَوْجُودَة بأيدي النَّاس الْمَعْرُوفَة بسيرة ابْن هِشَام.
آثَار ابْن هِشَام:
وَلابْن هِشَام العديد من الْآثَار فِي كثير من الْفُنُون نذْكر مِنْهَا على سَبِيل الذّكر لَا الْحصْر:
١- "السِّيرَة النَّبَوِيَّة" الْمَعْرُوف بسيرة ابْن هِشَام، رَوَاهُ عَن ابْن إِسْحَاق.
_________
١ انْظُر: "مَنَاقِب الشَّافِعِي" للبيهقي ٢/ ٤٢، و"توالي التأنيس" ٢/ ٦٠.
1 / 16
٢- "القصائد الحميرية" فِي أَخْبَار الْيمن وملوكها فِي الْجَاهِلِيَّة.
٣- "التيجان لمعْرِفَة مُلُوك الزَّمَان" رَوَاهُ عَن أَسد بن مُوسَى، عَن ابْن سِنَان، عَن وهب بن مُنَبّه.
٤- "شرح مَا وَقع فِي أشعار السِّيرَة من الْغَرِيب".
٥- "مُصَنف فِي أَنْسَاب حمير وملوكها".
إِلَى غير ذَلِك من الْكتب الْأُخْرَى فِي فنون متنوعة من أَبْوَاب الْعلم. ط
رحم الله عالمنا الْجَلِيل عبد الْملك بن هِشَام وجزاه الله عَنَّا وَعَن الْمُسلمين خير الْجَزَاء سائلين الْمولى تَعَالَى أَن يحشرنا وإياهم تَحت لِوَاء الْمُصْطَفى ﷺ وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين.
1 / 17
تَرْجَمَة الإِمَام السُّهيْلي
اسْمه وَنسبه:
هُوَ أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد بن أصبغ بن الْحُسَيْن بن سعدون بن رضوَان بن فتوح بن الْخَطِيب أبي مُحَمَّد بن الْخَطِيب أبي عَمْرو بن أبي الْحسن الخثعي السُّهيْلي الأندلسي المالقي.
قَالَ صَاحب "الوفيات": والسهيلي سنة / ٥٠٨هـ/ فِي الأندلس، وَتُوفِّي سنة / ٥٨١هـ/ فِي مراكش ١. يَقُول ابْن الْعِمَاد الْحَنْبَلِيّ فِي كِتَابه "شذرات الذَّهَب" إِن أَبَا الْقَاسِم مِمَّن توفوا سنة/ ٥٨١هـ/ فِي شعْبَان من تِلْكَ السّنة، وَيكون قد عَاشَ اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة.
نشأته:
نَشأ السُّهيْلي فِي وَاد بالأندلس يُسمى سُهَيْل من كورة مالقة، وَهِي قَرْيَة بِالْقربِ
_________
١ يَقُول ابْن خلكان عَنهُ فِي "وفيات الْأَعْيَان": ومولده سنة ثَمَان وَخَمْسمِائة لِلْهِجْرَةِ بِمَدِينَة مالقة، وَتُوفِّي بِحَضْرَة مراكش يَوْم الْخَمِيس، وَدفن وَقت الظّهْر، وَهُوَ السَّادِس وَالْعشْرُونَ من شعْبَان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة لِلْهِجْرَةِ. وَقَالَ عَنهُ أَيْضا: إِنَّه خثعمي نسبه إِلَى خثعم بن أَنْمَار، وَهِي قَبيلَة كَبِيرَة.
1 / 19
من مالقة سميت باسم الْكَوْكَب ١، لِأَنَّهُ لَا يرى فِي جَمِيع الأندلس إِلَّا من جبل مطل عَلَيْهَا، ومالقة بِفَتْح اللَّام وَالْقَاف، هِيَ مَدِينَة بالأندلس.
فَأَقَامَ السُّهيْلي بالأندلس عمرا طَويلا، فنهل من كنوز الْعلم مَا نهل، وتزود من المعارف مَا تزَود، واشتهر بَين النَّاس، فَأخذُوا يقصدونه ليأخذوا عَنهُ الْعلم، فذاع سيطه فِي الْبلدَانِ حَتَّى وصل خَبره إِلَى مراكش فَطَلَبه واليها، وأكرمه وَأحسن إِلَيْهِ، وَأَقْبل بِوَجْهِهِ كل الإقبال عَلَيْهِ، وولاه بهَا قَضَاء الْجَمَاعَة ٢، وَبَقِي على ذَلِك الْحَال أعوامًا ثَلَاثَة إِلَى أَن وافاه الْأَجَل فَمَاتَ بهَا ﵀.
أخلاقه وعلمعه:
إِذا نَظرنَا مَلِيًّا فِي مؤلفات الإِمَام السُّهيْلي لظهر لنا جليًا اتجاهه الخلقي النَّبِيل، فقد عَاشَ لنصرة هَذَا الدّين فوهب لَهُ حَيَاته مَا بَين درس لَهُ، وتأليف فِيهِ، وَلِهَذَا عرف بَين النَّاس بالصلاح واشتهر بالورع وَالتَّقوى، أضف إِلَى ذَلِك أَنه كَانَ بِبَلَدِهِ يتسوغ بالعفاف، ويتبلغ بالكفاف.
كَانَ السُّهيْلي ﵀ مالكي الْمَذْهَب، وَكَانَ ضريرًا مُنْذُ السَّابِعَة عشرَة من عمره، وَأخذ الْقرَاءَات عَن سُلَيْمَان بن يحيى وَجَمَاعَة، وروى عَن أبي بكر بن الْعَرَبِيّ وكبار رجال الْعلم فِي تِلْكَ الْبِلَاد، فَأخذ اللُّغَة والآداب عَن ابْن الطراوة، وناظره فِي "كتاب سِيبَوَيْهٍ".
وتصدر للإفتاء والتدريس والْحَدِيث، فَجمع بَين الرِّوَايَة والدراية، فَأخذ النَّاس عَنهُ وانتفعوابه.
_________
١ وَهُوَ سُهَيْل، وَهُوَ كَوْكَب يمَان لَا يرى بخراسان، وَيرى بالعراق، وَقَالَ ابْن كناسَة: سُهَيْل يرى بالحجاز، وَفِي جَمِيع أَرض الْعَرَب، وَلَا يرى بأرمينية. انْظُر "اللِّسَان" وعد الصَّفَدِي فِي "الوفيات": وَأَصله من قَرْيَة بوادي سُهَيْل نم كورة مالقة، وَهِي - كَمَا وصفهَا ياقوت فِي "مُعْجَمه" - سورها على شاطئ الْبَحْر بَين الجزيرة الخضراء والمرية.
٢ ووالي مراكش هُوَ: أَبُو يَعْقُوب بن عبد الْمُؤمن الَّذِي تولى إمرة الْمُوَحِّدين فِي الْمغرب سنة / ٥٥٨هـ/. وَيُقَال: إِنَّه استدعى السُّهيْلي سنة / ٥٧٨هـ/.
1 / 20
وَمِمَّا حُكيَ عَن السُّهيْلي أَنه قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي مشيخته عَن أبي الْمَعَالِي، أَنه سَأَلَهُ فِي مَجْلِسه رجل من الْعَوام فَقَالَ: أَيهَا الْفَقِيه الإِمَام: أُرِيد أَن تذكر لي دَلِيلا شَرْعِيًّا على أَن الله تَعَالَى لَا يُوصف بالجهة، وَلَا يحدد بهَا. فَقَالَ: نعم قَول رَسُول الله ﷺ: "لَا تفضلُونِي على يُونُس بن مَتى" فَقَالَ الرِّجَال: إِنِّي لَا أعرف وَجه الدَّلِيل من هَذَا الدَّلِيل، وَقَالَ كل من حضر الْمجْلس مثل قَول الرجل فَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: أضافني اللَّيْلَة ضيف لَهُ عَليّ ألف دِينَار، وَقد شغلت بالي، فَلَو قضيت عني قلتهَا، فَقَامَ رجلَانِ من التِّجَارَة فَقَالَا: هِيَ فِي ذمتنا، فَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: لَو كَانَ رجلا وَاحِدًا يضمنهَا كَانَ أحب إلين فَقَالَ أحد الرجلَيْن أَو غَيرهمَا: هِيَ فِي ذمتين فَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: نعم إِن الله تَعَالَى أسرى بِعَبْدِهِ إِلَى فَوق سبع سموات، حَتَّى سمع صرير الأقلام، والتقم يُونُس الْحُوت، فَهَوِيَ بِهِ إِلَى جِهَة التحت من الظُّلُمَات مَا شَاءَ الله، فَلم يكن سيدنَا مُحَمَّد ﷺ فِي علو مَكَانَهُ بأقرب إِلَى الله تَعَالَى من يُونُس فِي بعد مَكَانَهُ، فَالله تَعَالَى لَا يتَقرَّب إِلَيْهِ بالأجرام والأجسام، وَإِنَّمَا يتَقرَّب إِلَيْهِ بِصَالح الْأَعْمَال.
وَكَانَ الإِمَام السُّهيْلي فَوق هَذَا شَاعِرًا، فَلهُ أَبْيَات مَشْهُورَة فِي الْفرج:
قَالَ ابْن دحْيَة السُّهيْلي: أنشدنيها وَقَالَ: مَا يسْأَل الله بهَا فِي حَاجَة إِلَّا قَضَاهُ إِيَّاهَا وَهِي:
يَا من يرا مَا فِي الضَّمِير وَيسمع ... أَنْت الْمعد لكل مَا يتَوَقَّع
يامن يُرْجَى للشدائد كلهَا ... يَا من إِلَيْهِ المشتكى والمفزع
يَا من خَزَائِن ملكه فِي قَول: كن ... أمنن فَإِن الْخَيْر عِنْد أجمع
مَالِي سوى قرعي لبابك حِيلَة ... فلئن رددت فَأَي بَاب أَقرع
مَالِي سوى فقري إِلَيْك وَسِيلَة ... وبالافتقار إِلَيْهِ فقري أدفَع
من ذَا الَّذِي أَدْعُو وأهتف باسمه ... إِن كَانَ فضلك عَن فقيرك يمْنَع
حاشا لمجدك أَن تقنط عَاصِيا ... وَالْفضل أجزل والمواهب أوسع
ثمَّ الصَّلَاة على النَّبِي وَآله ... خير الْأَنَام وَمن بِهِ يستشفع ١
_________
١ فِي مصَادر أُخْرَى مُغَايرَة طفيفة لما هُنَا مثل: يَا من خَزَائِن رزقه، فبالافتقار إِلَيْهِ رَبِّي أضرع، إِن كَانَ فضلك عَن فَقير يمْنَع.
1 / 21
وَيَقُول الصَّفَدِي فِي كِتَابه "نكت الْهِمْيَان": وَمن شعره يرثي بلدهن وَكَانَ الفرنج قد ضَربته، وَقتلت رِجَاله ونساءه "وَقتلُوا أَهله وأقاربه، وَكَانَ غَائِبا عَنْهُم، فاستأجر من أركبه دَابَّة، وَأتي بِهِ إلَيْهِنَّ فَوقف إزاءه وَقَالَ" ١:
يَا دَار أَيْن الْبيض والآرام! ... أم أَيْن جيران عَليّ كرام
راب الْمُحب من الْمنَازل أَنه ... حَيا، فَلم يرجع إِلَيْهِ سَلام
أخرسن أم بعد المدى فنسينه ... أم غال من كَانَ الْمُجيب حمام
دمعي شهيدي أنني لم أنسهم ... إِن السلو على الْمُحب حرَام
لما أجابني الصدى عَنْهُم، وَلم ... يلج المسامع للحبيب كَلَام
طارحت ورق حمامها مترنما ... بمقال صب، والدموع سجام
يَا دَار مَا صنعت بك الْأَيَّام ... ضامتك، وَالْأَيَّام لَيْسَ تضام
وَمن شعره ايضًا:
إِذا قلت يَوْمًا: سَلام عَلَيْكُم ... فَفِيهَا شِفَاء وفيهَا السقام
شِفَاء إِذا قلتهَا مُقبلا ... وَإِن أَنْت أَدْبَرت فِيهَا الْحمام
مؤلفات الإِمَام السُّهيْلي:
وَللْإِمَام السُّهيْلي ﵀ مؤلفات كَثِيرَة من الْعُلُوم نذْكر مِنْهَا على سَبِيل الْمِثَال لَا الْحصْر:
١- "الرَّوْض الْأنف" وَهُوَ من أهم كتبه، وَهُوَ الْكتاب الَّذِي بَين أَيْدِينَا.
٢- "التَّعْرِيف والإعلام فِيمَا أبهم فِي الْقُرْآن من الْأَسْمَاء الْأَعْلَام".
٣- "نتائج الْفِكر".
٤- "شرح آيَة الْوَصِيَّة فِي الْفَرَائِض".
_________
١ مابين المعكوفتين من كتاب "الْمغرب فِي حلى الْمغرب".
1 / 22
١- "مَسْأَلَة السِّرّ فِي عور الدَّجَّال".
٢- "مَسْأَلَة رُؤْيَة الله ﷿".
٣- "شرح الْجمل" ١.
إِلَى غير ذَلِك من تآليفه المفيدة، وَهُنَاكَ مسَائِل كَثِيرَة غير هَذِه اكْتفى المترجمون بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ دون التَّصْرِيح بأسمائها.
رحم الله الإِمَام السُّهيْلي، وجزاه عَنَّا وَعَن الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين كل خير، وَجَعَلنَا وإياه من أهل الْجنَّة مَعَ النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا، وَآخر دعوانا أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين.
أعد هَذِه التراجم ورتبها
الشَّيْخ عمر بن عبد السَّلَام السلَامِي
_________
١ قَالَ الصَّفَدِي فِي كِتَابه "نكت الْهِمْيَان": كتاب "شرح الْجمل" لم يتم.
1 / 23
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيّدِنَا مُحَمّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ.
ذِكْرُ سَرْدِ النّسَبِ الزّكِيّ مِنْ مُحَمّد ﵌ إلَى آدَمَ ﵇
قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بن هِشَام [النَّحْوِيّ]:
هَذَا كِتَابُ سِيرَةِ رَسُولِ اللهِ ﵌ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَاسْمُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ: شَيْبَةُ بْنُ هَاشِمٍ وَاسْمُ هَاشِمٍ:
ــ
تَفْسِيرُ نَسَبِ رَسُولِ اللهِ ﷺ
قَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ التّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ بِمَا أُبْهِمَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ مَعَانِيَ بَدِيعَةً وَحِكْمَةً مِنْ اللهِ بَالِغَةً فِي تَخْصِيصِ نَبِيّهِ مُحَمّدٍ ﷺ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ: مُحَمّدٍ وَأَحْمَدَ فَلْتَنْظُرْ هُنَاكَ وَلَعَلّنَا أَنْ نَعُودَ إلَيْهِ فِي بَابِ مَوْلِدِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ - إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
عَبْدُ الْمُطّلِبِ:
وَأَمّا جَدّهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ، فَاسْمُهُ عَامِرٌ فِي قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَشَيْبَةُ ١ فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الصّحِيحُ. وَقِيلَ سُمّيَ شَيْبَةُ لِأَنّهُ وُلِدَ وَفِي رَأْسِهِ شَيْبَةٌ، وَأَمّا
_________
١ جزم بِهِ الْقُسْطَلَانِيّ فِي "شَرحه للْبُخَارِيّ"، وَعلل إِضَافَة الْحَمد أَنه رَجَاء أَن يكبر ويشيخ وَيكثر حمد النَّاس لَهُ وَيَقُول الطَّبَرِيّ عَن سَبَب تَسْمِيَته بِشَيْبَة كَانَ فِي رَأسه شيبَة.
1 / 25