Furen Nadir
الروض النضر في ترجمة أدباء العصر
Nau'ikan
مقدمة المؤلف
مقدمة [المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي نزه العيون في محاسن المعارف، وسرح الجفون في رياض الأدب. رياض تحاكى الروض النضر، وأزاهير تشاكل حسان العصر، قد البت أصناف اللطائف، وجمعت ضروب الأدب. فكم حديقة قد حدقت بصنوف شقائقه فرقت وراقت، وكم جنة تزخرفت بنور أنوار أزهاره فتاقت وفاقت. فيا لله ما ارفع منار الأدب قدرا. وما أوسع أمة الكمال (¬1) صدرا. يعطي المتعاطي به على أقرانه امتيازا، ويرفعه على أبناء عصره وأوانه حقيقة ومجازا. فيكسب من ورود مناهله العذبة فضلا وكمالا، ويحوز في ارتضاع ثديه الشهدي المذاق مجدا وجلالا. فمورده الصافي الشهي أعذب الموارد، والوصول إلى كنه ذاته الضافي البهي غاية المآرب والمقاصد.
Shafi 28
أحمده حمدا على نعم لا تفنى من معادن المعارف دررها، ولا تأفل من جباه وجوه العوارف غررها. واشكره على ما خصنا به من الخوض في بحور بديع البيان والمعاني، وإرسال العنان في حلبة ميدان المكارم ومعجز الألفاظ من غير توقف # وتواني. حتى جعل ضوامر صافناته العتاق تحت طوعنا فنغير بها على حصون المعال، ونطلق أزمة أعنتها من غير توقف على بطون اليراعة ومتون الكمال. فانقاد أصعبه إلينا انقياد العبد الطائع، واستطعنا له نقبا بعد أن كان كالسد المانع. فكل روضة من رياضه بانبات شقايقنا أنيقة، وكل جريدة من صحف معجزاته بإثبات دقائقنا وثيقة. فما من صك إلا وقد تصدر بختمنا، وما من سجل إلا وقد افتخر برسمنا. فهو الآن بدوننا بلا واسطة، ريشة بمهب الريح ساقطة.
Shafi 29
ونهدي من الصلاة ما راق، ومن السلام ما فاق، ومن التحية ما علا، ومن الاثنية ما غلا. إلى السيد الذي رفع رتبة الأدب إلى هام الجوزاء، وشيد بروج حصونه فشاكلت الثريا وشاكهت السماء. أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب، فغرفنا على قدر الطاقة البشرية من ذلك البحر العباب. فهو العلة الغائية في ظهور الوجود وإيجاد الكمالات في عالم الشهادة، وهو الذي حصلت بشرف ذاته إلى أرباب الأدب أنواع المكارم وأصناف السعادة. نور العالم. مادة حياة أبينا (¬1) آدم، محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى آله الذين تفتحت لهم كمائم زهره الوضاح، وتحلت عقود عهودهم النيرة في كل مصباح. وصحبه الذين (¬2) اكتسبت منهم أيدي المنى بشاشة الأرواح. ولا زال وبل الرحمة # متقاطرا (¬1) عليهم، ولا برحت ديمة اللطف منساقة إليهم، ما لفظت الأقلام بدائع الحكم، وظهر الأدب ظهور النار على علم.
وبعد، فيقول العبد الفقير إلى لطف ربه الغني، عثمان الملقب بعصام الدين بن علي بن مراد بن عثمان العمري الموصلي:
أني منذ رتعت وعلمت نفسي، وبرعت وميزت بين يومي وأمسي. يعني منذ لفظني المهد وكنت صبيا، إلى أن صرت في مدائن الأدب هاديا والى معالمها مهديا، ارضع من ثديه ما در وحلا، وساغ مذاقه لكل الملأ. فاركب من متونه كل صعب وذلول، وأطرق من مسالكه الوعرة شعاب الأطواد والتلول.
حتى اهتديت إلى ناهج طريقه الأقوم، وعبرت إلى معارج تدقيقه الأجسم. فما عبرت طريقا من طرقه إلا وأنا العابث في وهاده، ولا اجتمع اثنان إلا وأنا الثالث في عقد عداده.
فكل روض له بنا ازهر، وكل ليل له بضيائنا أقمر. أنسر بمعاطاة أقداحه كل حين، والتقط من فرائد نثاره النفيس والثمين. فأنا نسيم روضها العاطر العليل، وسلسبيل حوضها الماطر البليل. وديمتها الهاطلة الماطرة، وسحابتها المتقاطرة الزاخرة متولعا باكتساب فوائدها التي لا تحصى، ومعتنيا بانتخاب عوائدها التي لا تستقصي. ففي ذلك الوجد الوافر، والشغف الذي ما له آخر. كنت أتضوع بنفيس طيبه، وأتغزل برقيق النظم وتشبيبه. وانظم فيه عقدا وجمانا، واستخرج من قعر # بحاره لؤلؤا ومرجانا. فكل يوم بواد، وكل حين بناد.
Shafi 30
لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ... ولو تسلت أسلناها على الأسل
لا ينزل المجد الا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل
انظم فيها، واستخرج خوافيها، وافتح مقفلاتها، وافض الختم عن معضلاتها. فمضت على ذلك أيام، وانقطع عني (¬1) ذلك ذلك الشوق اللهام، لعوائق وحوادث عاقت، وموانع ظهرت وظهورات تلاقت. اعتزلت عنه حينا من الدهر لم يكن شيئا مذكورا، فظن أرباب هذه الصناعة أني لم أجد إلى هذا الباب مدخلا ولا إلى هذا البحر عبورا.
عجب الناس في اعتزالي وفي ال ... أطراف تلقى منازل الأشراف
وقعودي عن التقلب في الأر ... ض لمثلي رحيبة الاكناف
ليس عن فايت بلغت مداها ... غير أني امرؤ كفاني كفافي
Shafi 31
وقد كنت ادخرت لمثل هذا اليوم، ما هو في العمل المثاب كالصوم. من نفائس المكنوز والمدخر، حتى يكون لأولى النهى كالمنتظر (¬2). من مسودات مناظرات ورسائل، ومحاورات # ومفاخرات ووسائل. شاملة لتلك الفوائد، نفيسة بتلك الخرائد لذيذة بتلك الموائد. من كل رسالة فائقة، ومحاورة رائقة.
ومجالس أنيسة، ومباحث نفيسة. أرق من السحر الحلال، وأعذب من الماء العذب الزلال. ولما غلب عليهم الوهم، وظن بي وإن بعض الظن إثم، أني قد رفضت الأدب، وانتحيت عن سنة فصحاء العرب، أحببت أن أنسخ تلك الأوراق، وأضم أصول تلك الأعراق. وأرتبها ترتيبا يحسن بها الجمع، وتكون للأديب موضع النطق والسمع. لتحصل في الفوائد مطبوعة، وكالفرائد مصبوغة مصنوعة، وكالشهب متفرقة مجموعة.
مضيفا إليها ترجمة المعاصرين، الذين هم لعناقيد كروم الأدب عاصرين، ولأثمار غصون البلاغة هاصرين. معتصما فيها من الخطأ والزلل، والله المعين على القضاء إذا نزل. وقد حذوت فيها حذو الريحانة (¬1) وصاحب القلائد (¬2)، وجمعت فيها النادر من النظم والرائق من الفرائد. وإن شط المزار، ولم تتناسب الآثار. لكن الشاعر مشغوف بشعره، والجميل بذوائبه وشعره.
فمن عذر انصف، ومن عذل أسرف (¬3)، فالجواد قد يكبو، والزناد قد يخبو، والصارم قد ينبو (¬4)، وقد سميتها الروض # النضر في ترجمة أدباء العصر.
Shafi 32
وقد خدمت به الساحة العلياء، والدوحة العظماء، والراحة الرحباء. ساحة الحضرة العظمى، والسدة الأسمى، شمس سماء الوزارة، قمر أفلاك الإمارة، أوحد الوزراء، أسعد الوكلاء. المشير الأكرم، والدستور الأعظم، قامع الجبابرة قاصم القياصرة. آدب الأدباء، أعظم الملوك الفضلاء. غيث سماء الجلالة، ليث غاية البسالة. المفضال لمواليه، المغوار على أعاديه. نامي الوجود، سامي السعود. القرم القمقام، الصنديد الصمصام. حامي الغزاة، ما حي الطغاة. قاهر الأعادي، قاسم الأيادي. مجد الإسلام، ملجأ الأنام. غرة أيام الملوك الأعالي، طراز أكمام المكارم والمعالي.
هو الملك الجعد الذي في ظلاله ... تكف صروف النائبات وتصرف
طلاقة وجه في مضاء كمثلها ... يروق فرند السيف والحد مرهف
على السيف من تلك الشهامة مبسم ... وفي الروض من تلك الطلاقة زخرف
صاحب المجد الاثير، والسحاب المطير. والمحامد والميامن، والمآرب والمحاسن. والأنواء والأنوار، والمبار والمسار.
Shafi 33
والصباح والصلاح، والسخاء والسماح. والبذل والنوال، والنجح والآمال. والظبا (¬1) والبواتر، والعلى والمآثر. والسيف # المصقول، والنصل المسلول. والشهم الكبير، والعادل النحرير والمشار الذي ما له نظير.
وزير لم يزل للمجد باني ... يؤسس (¬1) للمكارم في الزمان
الغيث الهاطل (¬2)، والهمام الباسل، والواحد الذي ماله مماثل.
العظيم الشان، البليغ العنوان، والكثير الإحسان، زبدة وزراء آل عثمان (¬3)، ونخبة أمراء هذا الزمان. الفريد الكامل، والأسد الباسل. امامة سبحة الفرسان، حضرة محمد أمين باشا، نجل الوزير الغيور، والهزير الجسور حضرة الحاج حسين باشا أبقاهما الله ويسرهما لما يحب ويشا. أنار الله بمصباح آرائه ليل الخطوب وأزهرها، ومحا (¬4) بنور عزمه ظلم الكروب ونورها.
بمحمد وآله وأصحابه، السالكين لطرقه وشعابه. ما لاح فجر وضاء صباح، وغرد قمري الأنامل على أيك الأقلام وناح.
وهو ولي الإجابة فيما دعوت، وهو العون القوي لي فيما نحوت. فعليه اتكالي، ويه عزيمتي واحتفالي. ومما قلت فيه.
وما زلت سهما للمصائب كلها ... رمتني يد الأقدار من كل جانب # بغيضا لهذا الدهر حتى تعلقت ... يميني بمن حاز العلا بالقواضب (¬1)
Shafi 34
متين العرى رحب القرى ضيغم الشرى ... أبو المجد والجود الذي كالسحائب
فلما رآني الدهر إن قد تعلقت ... يداي بطود في المكارم راسب
رأى جبلا لا يرتقي ومعالما ... تجود على رفادها بالجنائب
لديها الثريا كالثراء وهامها ... إلى القطب زهوا بين تلك الكواكب
فتى جبلا في المكرمات وأبحرا ... إلى البذل بدرا في ظلام الغياهب
فقال إذا دم بالمسرة والهنا ... وكن في أمان من سهام المصائب
***
Shafi 35
بيت العمرية
ومن البيوت العامرة في بلدتنا الحدباء بيتنا العمرية.
نسب كان عليه من شمس الضحى ... نورا ومن فلق الصباح عمودا
وإذا سرحت الطرف حول فنائه ... لم تلق إلا نعمة وحسودا (¬1)
بيت غرست نبعته في ساحة المجد والكرم، وانتشت شباته في ذرى الفضل والنعم. تسابقوا في ميدان الكمال فالأهم مقدم .
توارثوا الفضائل عن أب وجد وكل نالها، واستمسكوا بهذه العروة التي لا انفصام لها.
Shafi 36
*** أما الجد المشهور، ذو الفضل المأثور، الحاج قاسم ونجله علي (¬2)، ففضلهم معروف. وجدهم علي، وعمر (¬3)، # وأبو بكر (¬1) ويحيى (¬2) وفتح الله (¬3) وأحمد (¬4) ففضلهم لا ينكر، ورداء مجدهم في ربيع المكارم اخضر. معلومو (¬5) المحل والمقام، وطرة كمالهم منسدلة على طلعة الليالي والأيام.
Shafi 37
مراد العمري
(¬1)
وأما الجد القريب مراد، صاحب الحيثية والاستعداد. فهو البحر الزاخر، والغمام الهموع المتقاطر. ربيع الحكم وصاحب المجد والكرم. روض الإفادة وغصن ساحة الكمال والسعادة. أمام فن العربية وترجمان لسانها، وعين أعيان البلاغة وإنسان إنسانها (¬2).
لا ترجون له المثيل فإنه ... شمس الهدى وعناية الآداب
أحيا أموات العلوم، وعمر ربع المنثور والمنظوم. ملأ (¬3) بآدابه جنبات الأرض، ونشر لواء فضله في طولها والعرض.
جال في ميدانها، واسترق أدباء عصرها وأوانها، صارم العزم، حاضر الحزم، ساري الفكر ثبت المقام، صلب العود، تهادت أهل العلوم، بفضله المرسوم. فتحقيقاته كثيرة حقيقة، وتدقيقاته غزيرة أنيقة. وتعاليمه رايقه، وتصانيفه فائقة. فضله ظاهر، وقد تعاطت سلافة أدبه الأكابر والأصاغر.
Shafi 38
ومما أخبرني الوالد عن أبيه هذا الكريم الماجد قال: كان في # علوم العربية فريد الزمن، وآثاره الآن دالة على توغله في كل فن. أمة بالحديث (¬1) وعلامة بالتفسير، مرجع في كليهما للقليل والكثير. كأنه روض هذه العلوم الذي اعتدلت اسطاره، وابتسمت في حدائقه من أكمامها أنواره. قد منع الشمس من فضله ان ترمق ثراه، وعن أن تدرك خيال كماله في مروره ومسراه. وقد شهدت له بذلك الفضل ليالي وأيام، وتلت محاسن مواهبه الزاهية محابر وأقلام، وتعليقاته على المشارق نعم الأثر، وهو الذي يرشدك إلى صحة هذا البيان وثبوت هذا الخبر. وقد اثبت من نظمه الساطع، ما هو لكماله برهان قاطع. فمن شعره قوله:
بح بالغرام فما عليك ملام ... إن التستر بالغرام حرام (¬2)
واترك ملامة لائم في حبه ... إن الملامة في هواه هيام
كيف التعرض للسلو وصده ... برء ووصل سواه لي أسقام (¬3)
Shafi 39
ذكر العلامة إبراهيم بن حيدر (¬4) في كتابه الملهمات، فيما نقل من أن ملاحظة الخيال ، ألطف من مشاهدة الوصال، بل # الوصال إذا لم يكن مراد المحبوب، فهو عندهم على الحقيقة غير مطلوب، والفراق ألذ من الوصل لأنه مراد المعشوق، والوصال مراد العاشق المشوق، وحصول مراد المعشوق على كل حال، هو عند العاشق غاية الطلب ونهاية الآمال. وقد قيل في هذا المعنى:
أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لما يريد وفي البيت المذكور ما يفيد ذلك.
ومن القصيدة المذكورة:
كيف التخلص من محاسنه التي ... فيها لأرواح الكماة حمام
فالطرف يرمي بالنبال ولحظه ... قد سل للعشاق منه حسام
وبقده الخطي أوهن مهجتي ... وحشاشتي فكلاهما أوهام
بالروح أفدي من إذا أبصرته ... لم أستطع ولها عليه سلام
ما لابن مقلة صاد مقلته ولا ... مثل العذار بما تحفظ لام (¬1)
بين السيوف المرهفات وجفنه ... عهد على سفك الدماء دوام
أأروم من كلفي عليه تخلصا ... هيهات ذاك جرت به الأقلام
Shafi 40
أو كيف تخل من الصبابة مهجتي ... ولنارها في الخد منه ضرام (¬2) # هذا البيت لطيف جدا في بابه زائد على بيت ابن النبيه (¬1) في قوله من قصيدة مدح بها الملك الأشرف موسى (¬2) ومطلعها:
صن ناظرا مترقبا لك ان ترى ... فلقد كفى من دمعه ما قد جرى (¬3)
يا من حكى في الحسن صورة يوسف ... واها لو انك مثل يوسف تشتري
والبيت المطلوب منها:
تعشو العيون لخده فيردها ... ويقول ليست هذه نار القرى
فإنه زاد على هذا نكتة لطيفة لا تخفي على المتأمل، إذ ما على خده من النار المضرمة إنما هي مستعارة من قلبه الذي هو منزله ومكانه. وأما بيت ابن النبيه فخلاصة ما فيه النار فقط (¬4).
ومثله للشيخ تقي الدين (¬5) قوله:
Shafi 41
وطال علينا الستر في ليل شعرها ... فهنا كانا قط لم نعرف الفجرا
ولكن بأعلى خدها رفعت لنا ... من النار في الظلماء ألوية حمرا
*** ومن القصيدة المذكورة:
فاقت بدور التم طلعة وجهه ... فله عليها للطلوع ذمام
فإذا تبدى أو ترنح شاديا ... فالليل صبح والغصون حمام
وإذا رنا أسباك من ألحاظه ... سحر له هاروت فيه غلام
لله أي سويعة قضيتها ... فكأنها من طيبها أحلام
نادمته والعيش برد نعيمه ... صاف وما للحادثات نظام
أبرا بلذة أنسه وكلامه ... قلبا برته من الصدود كلام
في روضة عبق النسيم بطيبها ... وتفتحت عن نورها الأكمام
صدحت بلابلها على أغصانها ... فنمت لطيب سماعها الأجسام
Shafi 42
كأنه أشار بهذا البيت إلى ما قاله مروان بن أبي حفصة (¬1) إن الغناء غذاء الأرواح، كما إن الشراب غذاء الأشباح، وذلك لأن أصوات البلابل والحمائم ونحوها يختلف باختلاف السامع، فمنهم من جعله غناء، ومنهم من جعله عناء. إذ الإيقاعات المطربة لها في النفوس منزلة وتأثير عجيب، وموقع لطيف في تصفية الذهن، وتفريج القلب، وجلب السرور حتى قال بعضهم: أن أمهات لذات النفوس اربعة: لذة المطعم والمشرب # والنكاح والسماع. فالثلاثة الأولى لذات (¬1) جسمانية، ولا يتوصل إلى واحدة منها إلا بحركة تكلف. ولذة السماع نفسانية، ونشوة روحانية (¬2)، تدب في البدن، وتسري في الروح من غير تكلف فتنمي الأرواح كما تنمي الأشجار. وأصوات الحمائم من هذا القبيل وفي تسميتها غناء قال ابن عبد الظاهر (¬3):
نسب الناس للحمامة حزنا ... وأرى في الشجي ليست كذلك
خصبت كفها وطوقت الجيد ... وغنت وما الحزين كذلك
ومثله كثير. ومنها:
في ساعة سمح الزمان بطيبها ... وتفضلت بصفائها الأيام
والكأس في يده تدار وبيننا ... تب به لصدا القلوب رهام
من خمرة مثل الشموس وكأسها ... بدر إذا ما زال عنه غمام
ومثل هذا التشبيه كثير كقول بعضهم:
رأيت الحميا في الزجاج بكفه ... فشبهتها بالشمس في البر والبحر
ومنها:
وبمزجها تبدو نجوم سمائها ... من فوقها أنى يكون ظلام
حلت لنا وجلت فليس بشربها ... إثم ولا عنها يقال حرام
هذا لعمري للمحب هو المنى ... وهو الحياة وغيره أوهام
***
Shafi 43
علي العمري أبو الفضائل
(¬1)
نجله الوالد علي صاحب الفضل العلي:
Shafi 44
نشأ في حجر الشرف والافتاء، فبلغ من الكمال مالا بلغته الفضلاء، تفرد في كل فن وفاق أبناء العصر والزمن. فهو مركز قطب فلك المعال، وشمس سماء الفصاحة والكمال. له فضائل # ومآثر، لا تحيط بها الكتب والدفاتر. لسانه فصيح، وميدان كماله فسيح. قضى عمره بتعاطي كئوس الفضائل، فتسامرت بحديث فضله وفضل حديثه الأندية والمحافل. ورد مناهل الكرم، فكان سحاب الفضل وديمة النعم. فالأدب مدينة وعلي بابها، وما في زمانه فضيلة إلا وإليه انتسابها. شرح الفقه الأكبر، في مذهب الإمام الأعظم الأفخر، عمان العرفان، أبو حنيفة النعمان.
كتاب في سرائره سرور ... مناجيه من الأحزان ناجي
فكم معنى بديع تحت لفظ ... هناك تزاوجا أي ازدواج
وله من الآثار، شرح الآثار (¬1).
بكلام لو أن للدهر سمعا ... مال من حسنه إلى الإصغاء
هذا وكان حفه الله بغفرانه، وأسكنه بحبوحة جنانه، ميالا للأدب وأربابه، متمسكا في الغاية بتحصيل أسبابه. يهتز لأبياته طربا، ويدفع بتلميحاته أحزانا وكربا. يقتطف لأزهاره وينتعش بأنواع نثاره. فناديه على الصباح مجمع العلماء، ومعدن الفضلاء، ومرتع الأدباء. يقري لكل فن، ويطوق بدر تقريره جيد الزمن. فتفسير القاضي (¬2) أنيسه، والكشاف (¬3) جليسه.
Shafi 45
وسعدي (¬1) في لسانه، والبخاري من جملة بيانه.
ثم أثر ذلك يفكه بنوادر الأدب، ودواوين دهاة العرب.
وبعض أشعار البلغاء، وطبقات الأدباء. كالتحفة (¬2) والأطباق (¬3) والمفاكهة (¬4)، والأطواق (¬5). وتنتشر الرجال، كأقمار الليال. ويبقى وحده، وليس غيري عنده. وأنا إذ ذاك في العشرة الأولى وهو في العشرة الثامنة، ولم يكن عندي من نفائس الأدب ولا كامنه. فيناديني يا عصام، شنف أسماعنا بديوان البحتري وأبى تمام. فاجثو بين يديه، وأقرأ ما تيسر منهم عليه. وكنت أرى منه ما يبهر العقول، ويوقف الفحول، في تقرير الأدب، وتعريف أيام العرب. يحرضني على تحصيل المعارف، واقتناء اللطائف. ومطالعة الكتب والدواوين، لكون ذلك سيرة آبائه الغر الميامين.
Shafi 46
هذا وأيامه كلها أعياد ومواسم، وأوقاته بأجمعها ثغور # بواسم. قد انقادت الدنيا لديه، وأقبلت بكليها عليه. مع كثرة خدم، وتضاعف حشم. وتعدد أولاد وذراري، ووفرة غلمان وجواري. ولم تشغله عن مجده، او تؤخره عن رشده. قد اتخذ الفضل صناعة، وصحبة الكمل خير بضاعة. فله على بهذا حقوق، لم تقبل العقوق. جزاه الله عنا خير الجزاء الجسيم، في جنان الخلد والنعيم.
فمن جملة آثاره، والسكر المكرر من نثاره، قوله يمدح شيخ الإسلام فيض الله:
خد تورد بارتشاف الأكؤس ... فرنت لواحظه بطرف أنعس
أم ذا احمرار بان في وجناته ... وأظن أورثه لهيب تنفسي
أم ذا شقيق الحسن أحمر ساطع ... أوراقه آس العذار المغرس
أم غادة حسرت قناع جمالها ... فبدت بواتر لحظها المتنكس
قد زادها عجبا رحيق شبابها ... فغدت تقابلنا بثغر ألعس
هيفاء قد لعب الجمال بعطفها ... وكساها تاج الحسن أفخر ملبس
لا شك طرتها الأصيل وفرقها ... صبح تبلج عن ظلام مغلس
أو روضة عبث النسيم بزهرها ... وكساها وقع الطل حلة سندس
فبدت بها الأشجار شبه عرائس ... تحكي ببهجتها الجواري الكنس
رقصت بلابلها على أغصانها ... طربا لبهجة وردها المتورس
فالياسمين معانق قضبانها ... قد قلدته حمائلا من سندس
أما الشقيق فشققت أطواقه ... والخال في فيه كمسك أنفس
والأقحوان الثغر منه باسم ... وكذلك الغض العيون النرجس # يختال في قضب الزبرجد مارحا ... والرأس منه مائلا بتنكس
Shafi 47