فغَطَّنِي حتَى بَلَغَ منِّي الجهْدُ (١) ثم أرسَلَنِي فقالَ: "إِقْرأ" فَقُلْتُ: ما أنا بقارئٍ، فأخَذَني فَغَطَّني الثَّالِثَة حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثمَّ أرسَلَني فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ فرجَعَ بِهَا رسُول الله ﷺ يَرجفُ فُؤادُهُ، فَدَخَلَ عَلى خَدِيْجَة بِنْتِ خُوَيْلِد، فَقَال: "زَمِّلونِي زَمِّلونِي" فزَمّلوهُ حَتَّى ذهَبَ عَنهُ الرَّوعُ، فَقال لِخَدِيجَة وأَخْبَرَها الخَبَرَ: لَقَد خَشِيْتُ على نفْسي، فقالَت لهُ خَدِيجَةُ: كَلَّا أَبْشِر، فوَالله ما يُخْزيكَ الله أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِم، وتَصْدُقُ الحَدِيْث، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نَوائبِ الحَقِّ.
فانطَلَقَت بِه خَدَيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بهِ عَلَى وَرَقةَ بنِ نَوفَلَ بنِ أَسَدِ بنِ عَبْدِ العُزَّى بنِ قُصَيِّ وهو ابن عمِّ خَدِيجَة أَخِي أبِيها وكَان امْرأَ تنَصَّرَ في الجاهِلِيَّة وكانَ يَكْتُبُ الكِتابَ العِبْرانيَّ، فَيَكْتُبُ منَ الإِنجيْلِ بالعِبْرانيَّة ما شاءَ الله أن يَكْتُبَ، وكانَ شَيخًا كَبيْرًا قَدْ عَمِيَ، فَقالتْ لهُ خَدِيجةُ: يا ابنَ عمِّ (٢) اسْمَعْ مِن ابْنِ أَخِيكَ، فقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يا ابنَ أخِي مَاذا تَرى؟ فأخْبَرَهُ رسُول الله ﷺ خَبَرَ ما رأى، فَقَالَ له وَرَقةُ: هذا النَّاموسُ الَّذي نُزِّلَ على مُوسى، يا ليتني فيها جَذعًا (٣)، ليتني أكونُ فِيها حيًّا إِذْ يِخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رسولُ الله ﷺ: أوَ مُخْرِجِيَّ هُم؟ قال: نعَمْ لَم يَأتِ رَجُلٌ قَطُّ بمثلِ ما جِئتَ به إلا عودِيَ،
_________
(١) رُوي بفتح الجيم ونصب الدال، أي: بلغ الغط مني غاية وسعي، وروي بالضم والرفع، أي: بلغ مني الجهد مبلغه.
(٢) ووقع في "صحيح مسلم": يا عم، قال الحافظ ابن حجر: وهو وهم، لأنه وإن كان صحيحًا لجواز إرادة التوقير، ولكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد، ولا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فتعين الحمل على الحقيقة.
(٣) هو بالنصب على أنه خبر "كان" المقدرة، قاله الخطَّابي، هو مذهب الكوفيين في قوله تعالى: ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾. وفي رواية الأصيلي: جذع بالرفع، وهو الجادة.
1 / 41