وكتب من رسالة أخرى إلى أهله وهو منهزم مع مروان:
أما بعد: فإن الله تعالى جعل الدنيا محفوفة بالكره والسرور، فمن ساعده الحظ فيها سكن إليها، ومن عضته بنابها ذمها ساخطا عليها وشكاها مستزيدا لها، وقد كانت أذاقتنا أفاويق استحليناها، ثم جمحت بنا نافرة ورمحتنا مولية؛ فملح عذبها وخشن لينها، فأبعدتنا عن الأوطان وفرقتنا عن الإخوان، فالدار نازحة والطير بارحة.
وقد كتبت والأيام تزيدنا منكم بعدا وإليكم وجدا ؛ فإن تتم البلية إلى أقصى مدتها يكن آخر العهد بكم وبنا، وإن يلحقنا ظفر جارح من أظفار من يليكم، نرجع إليكم بذل الإسار، والذل شر جار، نسأل الله الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء: أن يهب لنا، ولكم ألفة جامعة في دار آمنة تجمع سلامة الأبدان والأديان؛ فإنه رب العالمين وأرحم الراحمين.
هذه الرسائل الأربع منقولة عن شرح رسالة ابن زيدون.
وله من رسالة كتب بها عن آخر خلفاء بني أمية، وهو مروان الجعدي لفرق العرب حين فاض العجم من خراسان بشعار السواد، قائمين بالدولة العباسية.
فلا تمكنوا ناصية الدولة العربية من يد الفئة العجمية، واثبتوا ريثما تنجلي هذه الغمرة ونصحو من هذه السكرة، فسينضب السيل وتمحى آية الليل - والله مع الصابرين والعاقبة للمتقين.
رسالة عبد الحميد إلى الكتاب
أما بعد: حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم، فإن الله - عز وجل - جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ومن بعد الملائكة المكرمين؛ أصنافا، وإن كانوا في الحقيقة سواء، وصرفهم في صنوف الصناعات، وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم، وأبواب أرزاقهم فجعلكم - معشر الكتاب - في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرزانة، بكم تنتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم ويعمر بلدانهم، لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم، فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون، فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم.
وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم - أيها الكتاب - إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم؛ فإن الكاتب يحتاج من نفسه، ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره، أن يكون حليما في موضع الحلم، فهيما في موضع الحكم، مقداما في موضع الإقدام، محجاما في موضع الإحجام مؤثرا للعفاف والعدل والإنصاف، كتوما للأسرار، وفيا عند الشدائد ، عالما بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعها، والطوارق في أماكنها، قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه، وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار من الحسن، واحتال على صرفه عما يهواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة.
وقد علمتم أن سائس البهيمة، إذا كان بصيرا بسياستها التمس معرفة أخلاقها؛ فإن كانت جموحا لم يهجها إذا ركبها، وإن كانت شبوبا اتقاها من بين أيديها، وإن خاف منها شرودا توقاها من ناحية رأسها، وإن كانت حرونا قمع برفق هواها في طرقها؛ فإن استمرت عطفها يسيرا فيسلس له قيادها، وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وجربهم وداخلهم، والكاتب، بفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته، ومعاملته لمن يحاوره من الناس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته؛ أولى بالرفق لصاحبه ومداراته، وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جوابا، ولا تعرف صوابا ولا تفهم خطابا، إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها.
Shafi da ba'a sani ba