تأليف
محمد كرد علي
عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى
نشأ للعربية في أوائل القرن الثاني للهجرة كاتبان بليغان، يصح أن يدعيا واضعي أساس الإنشاء العربي، وناهجي طريقة الكتابة المرسلة، فكانا منارا يهتدى به إلى يوم الناس هذا، ونعني بهما: عبد الله بن المقفع، وعبد الحميد بن يحيى الكاتب. ظهر هذان الإمامان واللغة في نضرتها الأولى، فكان لهما من فطرتهما السليمة أعظم مساعد لهما على النبوغ، وزادت شهرتهما لاتصالهما بالخلفاء والأمراء، ومرانهما على الكتابة في الأغراض الكثيرة التي كانت تطلب إليهما؛ فيخوضان عبابها مجليين مبرزين.
نشأ ابن المقفع في العراق على ما ينشأ عليه أبناء اليسار. وكان والده ينتحل نحلة مجوس الفرس، ولي خراج الفرس للحجاج بن يوسف الثقفي في الدولة الأموية. ولقب بالمقفع؛ لأن الحجاج ضربه فتقفعت يده؛ أي تشنجت، لمدها لأخذ الأموال، على ما يقال. وربي ابنه عبد الله تربية إسلامية، وأولع بالعلم وهو مكفي المؤنة، فجاء منه في سن العشرين ما يندر أن يكون مثله لأبناء الأربعين والخمسين، واتصل بعيسى بن علي عم السفاح والمنصور الخليفتين الأولين من بني العباس، وكتب له واختص به، وأراد أن يدين بالإسلام؛ فجاء إلى عيسى بن علي وقال له: قد دخل الإسلام في قلبي، وأريد أن أسلم على يدك. فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر، ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم على عادة المجوس. فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام. فقال: أكره أن أبيت على غير دين، فلما أصبح أسلم على يده فسمي بعبد الله، وكني بأبي محمد.
أهم كتب ابن المقفع التي طار ذكرها كتاب «كليلة ودمنة» الذي نقله عن الفارسية، ورسالته المعروفة باليتيمة في طاعة السلطان. قال القفطي: وهو أول من اعتنى في الملة الإسلامية بترجمة الكتب المنطقية لأبي جعفر المنصور، وترجم كتب أرسطوطاليس المنطقية الثلاثة، وهي: كتاب قاطيغورياس، وكتاب باري أرمينياس - أو بارميناس - وكتاب أنالوطيقا، وذكر أنه ترجم إيساغوجي تأليف فرفوريوس الصوري. والأرجح أنه نقل هذه الكتب عن الفارسية أو نقلها له ناقل عن اليونانية، وصاغها هو في قالب عربي فنسبت له، إذ لم يثبت أنه كان يعرف غير الفارسية من اللغات، وعبارة ابن أبي أصيبعة في تاريخ الأطباء تشبه قول القفطي في تراجم الحكماء، والغالب أنهما نقلا عن مصدر واحد مع تغيير طفيف في عبارتيهما.
قال ابن النديم: واسمه بالفارسية روزبه، وهو عبد الله بن المقفع، ويكنى قبل إسلامه أبا عمرو، فلما أسلم اكتنى بأبي محمد. والمقفع بن المبارك، إنما تقفع لأن الحجاج بن يوسف ضربه بالبصرة في مال احتجنه من مال السلطان ضربا مبرحا فتقفعت يده، وأصله من خوز؛ مدينة من كورفاس. وكان يكتب أولا لداود بن عمر بن هبيرة، ثم كتب لعيسى بن علي على كرمان. وكان في نهاية الفصاحة والبلاغة، كاتبا شاعرا فصيحا، وهو الذي عمل شرط عبد الله بن علي على المنصور، وتصعب في احتياطه فيه، فأحفظ ذلك أبا جعفر، فلما قتله سفيان بن معاوية حرقا بالنار، وقع ذلك من المنصور بالموقع الحسن فلم يطلب بثأره وطل دمه.
وكان أحد النقلة من اللسان الفارسي إلى العربي، مضطلعا باللغتين، فصيحا بهما، وقد نقل عدة كتب من كتب الفرس منها كتاب خداينامه في السير، كتاب آيين نامه في الإصر، كتاب كليلة ودمنة، كتاب مزدك، كتاب التاج في سيرة أنوشروان، كتاب الآداب الكبير، ويعرف بماقراحسيس، كتاب الأدب الصغير، كتاب اليتيمة في الرسائل.
وقال: إن أبا الجاموس ثور بن يزيد أعرابي كان يفد البصرة على آل سليمان بن علي، وعنه أخذ ابن المقفع الفصاحة ولا مصنف له. وقال: بلغاء الناس عشرة: عبد الله بن المقفع، عمارة بن حمزة، حجر بن محمد، أنس بن أبي شيخ، وعليه اعتمد أحمد بن يوسف الكاتب، سالم، مسعدة الهرير، عبد الجار بن عدي، أحمد بن يوسف، وذكره في الشعراء والكتاب فقال: إنه مقل، وقال: قد كانت الفرس نقلت في القديم شيئا من كتب المنطق والطب إلى اللغة الفارسية؛ فنقل ذلك إلى العربية عبد الله بن المقفع وغيره. وقال في الكتب المصنفة في الأسماء والخرافات أن عبد الله بن المقفع من جملة من كان يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم.
والراجح أن الحسد غلت مراجله في صدور بعض معاصريه، والمعاصرة - كما قيل - حرمان؛ فنسبوا إليه ما نسبوا إلى الزندقة؛ لقصورهم عن بلوغ شأوه، أو لغرض في أنفسهم، قال ابن خلكان نقلا عن الجاحظ: إن ابن المقفع ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد كانوا يتهمون في دينهم. قال بعضهم: كيف نسي الجاحظ نفسه؟ قلنا: وعبارة الجاحظ في بعض رسائله بشأن ابن المقفع تشير إلى قصوره في علم الكلام فقط؛ لأنه قال: فصل، ومن المعلمين ثم من البلغاء المتأدبين عبد الله بن المقفع، ويكنى: أبا عمرو. وكان يتولى لآل الأهتم. وكان مقدما في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السير. وكان جوادا فارسا جميلا، وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله. وكان يتعاطى الكلام ولا يحسن منه لا قليلا ولا كثيرا، وكان ضابطا لحكايات المقالات ولا يعرف من أين غر المغتر ووثق الواثق، وإذا أردت أن تعتبر ذلك إن كنت من خلص المتكلمين ومن النظارين؛ فاعتبر ذلك بأن تنظر في آخر رسالته الهاشمية؛ فإنك تجده جيد الحكاية لدعوى القوم، رديء المدخل في مواضع الطعن عليهم، وقد يكون الرجل يحسن الصنف والصنفين من العلم يظن بنفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقله على شيء إلا بعد به. ا.ه.
Shafi da ba'a sani ba