واعلم أن كل أعدائك لك عدو يحاول هلكتك ويعترض غفلتك؛ لأنها خدع إبليس وحبائل مكره ومصائد مكيدته، فاحذرها مجانبا وتوقها محترسا منها، واستعذ بالله من شرها، وجاهدها إذا تناصرت عليك بعزم صادق لا ونية فيه، وحزم نافذ لا مثنوية لرأيك بعد إصداره عليك، وصدق غالب لا مطمع في تكذيبه، ومضاءة صارمة لا أناة معها، ونية صحيحة لا خلجة شك فيها؛ فإن ذلك ظهري صدق لك على ردها عنك، وقطعها دون ما تتطلع إليه منك، وهي واقية لك سخطة ربك، داعية لك رضا العامة، ساترة عليك عيب من دونك، فازدن به ملتحفا، وأصب بأخلاقك مواضعها الحميدة منها، وتوق عليها التي تقطعك عن بلوغها، وتقصر بك عن ساميها، فحاول بلوغ غايته محرزا لها بسبق الطلب إلى إصابة الموضع، محصنا لأعمالك من العجب؛ فإنه رأس الهوى وأول الغواية ومقاد الهلكة، حارسا أخلاقك من الآفات المتصلة بمساوي العادات وذميم إيثارها من حيث أتت الغفلة، وانتشر الضياع، ودخل الوهن، فتوق الآفات على عقلك؛ فإن شواهد الحق ستظهر بأماراتها تصديق رأيك عند ذوي النهى وحال الرأي وفحص النظر، فاجتلب لنفسك محمود الذكر، وباقي لسان الصدق بالحذر لما تقدم إليك فيه أمير المؤمنين، متحرزا من دخول الآفات عليك من حيث أمنك، وقلة ثقتك بمحكمها.
ومنها أن تملك أمورك بالقصد وتصون سرك بالكتمان، وتداري جندك بالإنصاف، وتذلل نفسك للعدل، وتحصن عيوبك بتقويم أودك، وأناتك فوقها الملال وفوت العمل، ومصابك فدرعها؟ روية النظر، واكتنفها بأناة الحلم، وخلواتك فاحرسها من الغفلة واعتماد الراحة، وصمتك فانف عنه عي اللفظ، وخف فيه سوء القالة، واستماعك فارعه حسن التفهم وقوه بإشهاد الفكر، وعطاءك فانهد له بيوتات الشرف وذوي الحسب، وتحرز فيه من السرف، وحياءك فامنعه من الخجل، وحلمك فزعه عن التهاون وأحضره قوة الشكيمة، وعقوبتك فقصر بها عن الإفراط، وتعمد بها أهل الاستحقاق، وعفوك فلا تدخله تعطيل الحقوق وخذ به واجب المفترض، وأقم به أود الدين، واستئناسك فامنع منه البذاءة وسوء المثافنة، وتعهدك أمورك فخذه أوقاتا وقدره ساعات، لا يستفرغ قوتك ويستدعي سآمتك، وعزمتك فانف عنها عجلة الرأي ولجاجة الإقدام، وفرحاتك فاشكمها عن البطر وقيدها عن الزهو، وروعاتك فحطها من دهش الرأي واستلام الخضوع، وحذارتك «فاصرفها» عن الجبن واعمد بها للحزم، ورجاءك فقيده بخوف الفائت، وامنعه من أمن الطلب.
هذه جوامع دخائل النقض منها واصل إلى العقل بلطائف الله وتصاريف حوله، فأحكمها عارفا، وتقدم في الحفظ لها معتزما على الأخذ بمراشدها، والانتهاء منها إلى حيث بلغت بك عظة أمير المؤمنين وأدبه - إن شاء الله.
ثم ليكن بطانتك وجلساؤك في خلواتك، ودخلاؤك في سرك أهل الفقه والورع من أهل بيتك وعامة قوادك، ممن قد حنكته السن بتصاريف الأمور وخبطته فصالها بين قرائن البزل وقلبته الأمور في فنونها وركب أطوارها، عارفا بمحاسن الأمور ومواضع الرأي، مأمون النصيحة مطوي الضمير على الطاعة.
ثم أحضرهم من نفسك وقارا تستدعي منهم بك الهيبة، واستئناسا يعطف إليك منهم بالمودة، وإنصافا يغل أقاصيهم منك عما تكره أن ينتشر عنك من سخافة الرأي ويقطعك دون الفكر.
وتعلم إن خلوت بسر فألقيت دونه ستورك وأغلقت عليه أبوابك، فذلك لا محالة مكشوف للعامة ظاهر عنك، وإن استترت بما ولعل وما أرى إذاعة ذلك، فاعلم بما يرون من حالات من ينقطع به في هذه المواطن، فتقدم في إحكام ذلك من نفسك وسد خلله عنك؛ فإنه ليس أحد أسرع إليه سوء القالة ولغط العامة بخير أو شر ممن كان في مثل حالك ومكانك الذي أصبحت به من دين الله، والأمل المرجو المنتظر، وإياك أن يغمز فيك أحد من عامتك وبطانة خدمك بضعفة يجد بها مساغا إلى النطق عندك، بما لا يعتزلك عيبه، ولا تخلو من لائمته، ولا تأمن سوء القالة فيه، إن نجم ظاهرا، وعلن باديا، ولن يجترئوا على ذلك إلا أن يروا منك إصغاء إليها، وقبولا لها، وترخيصا بها.
ثم إياك أن يفاض عندك بشيء من الفكاهات والحكايات والمزاح، والمضاحك التي يستخف بها أهل البطالة، ويتسرع نحوها ذوو الجهالة، ويجد فيها أهل الحسد مقالا لعيب يرفعونه، ولطعن في حق يجحدونه، مع ما في ذلك من نقص الرأي، ودرن العرض، وهدم الشرف، وتأثيل الغفلة، وقوة طباع السوء الكامنة في بني آدم كمون النار في الحجر الصلد، فإذا قدح لاح شرره، ولهب في وميضه، ووقد تضرمه، وليست في أحد أقوى سطوة وأظهر توقدا وأعلى كمونا، وأسرع إليه بالعيب منها إلى من كان في سنك من إغفال الرجال وذوي العنفوان في الحداثة، الذين لم يقع عليهم سمات الأمور، ناطقا عليهم لائحها، ظاهرا عليهم وسمها، ولم تمحضهم شهامتها، مظهرة للعامة فضلهم مذيعة حسن الذكر عنهم، ولم يبلغ بهم الصمت في الحركة مستمعات يدفعون به عن أنفسهم نواطق ألسن أهل البغي، ومواد أبصار أهل الحسد.
ثم تعهد من نفسك لطيف عيب لازم لكثير من أهل السلطان والقدرة من أقطار الذرع ونخوة التيه؛ فإنها تسرع بهم إلى فساد رأيهم وتهجين عقولهم في مواطن جمة، منها: قلة اقتدارهم على ضبط أنفسهم في مواكبهم ومسايرتهم العامة، فمن مقلقل شخصه يكثر الالتفات تزدهيه الخفة ويبطره إجلاب الرجال حوله، ومن مقبل في موكبه على مداعبة مسايره بالمصاحبة له، والتضاحك إليه والإيجاف في السير مهمرجا وتحريك الجوارح مستسرعا يخال له أن ذلك أسرع له وأخف لمطيته، فلتحسن في ذلك هيئتك ولتجمل فيه رعيتك، وليقل على مسائلك إقبالك إلا وأنت مطرق النظر غير ملتفت إلى محدث، ولا مقبل عليه بوجهك في موكبك لمحادثته، ولا مخف في السير تقلقل جوارحك بالتحريك؛ فإن حسن مسايرة الوالي، وابتداعه في أمن حاله دليل على كثير من غيوب أمره، ومستتر أحواله.
واعلم أن أقواما سيسرعون إليك بالسعاية، ويأتونك من قبل النصيحة ويستميلونك بإظهار الشفقة، ويستدعونك بالإغراء والشبهة ويوطئونك عشوة الحيرة؛ ليجعلوك لهم ذريعة إلى استئكال العامة بموضعهم منك في القبول منهم، والتصديق لهم على من قرفوه بتهمة، أو أسرعوا بك في أمره إلى الظنة، فلا يصلن إلى مشافهتك ساع بشبهة، ولا معروف بتهمة، ولا منسوب إلى بدعة؛ فيعرضك لابتداع في دينك، ويحملك على رعيتك ما لا حقيقة فيه، ويحملك على أعراض قوم لا علم لك بدخلهم إلا بما أقدم به عليهم ساعيا، وأظهر لك منهم متنصحا.
وليكن صاحب شرطتك ومن أحببت أن يتولى ذلك من قوادك إليه انتهاء ذلك، وهو المنصوب لأولئك والمستمع لأقاويلهم والفاحص عن نصائحهم، ثم لينه ذلك إليك على ما يرتفع إليه منه؛ لتأمره بأمرك فيه، وتقفه على رأيك، من غير أن يظهر ذلك للعامة؛ فإن كان صوابا نالتك حظوته، وإن كان خطأ أقدم به جاهل، أو فرطة يسعى بها كاذب، فنالت الباغي منها أو المظلوم عقوبة، وبدر من واليك إليه نكال لم يعصب ذلك الخطأ بك، ولم تنسب إلى تفريطه، وخلوت من موضع الذم فيه.
Shafi da ba'a sani ba