ليكن مما تصرف به الأذى والعذاب عن نفسك ألا تكون حسودا؛ فإن الحسد خلق لئيم، ومن لؤمه أنه يوكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب والأكفاء والخلطاء، فليكن ما تقابل به الحسد أن تعلم أن خير ما تكون، حين تكون مع من هو خير منك، وأن غنما لك أن يكون عشيرك وخليطك أفضل منك في العلم، فتقتبس من علمه وأفضل منك في القوة، فيدفع عنك بقوته، وأفضل منك في المال، فتفيد من ماله، وأفضل منك في الجاه فتصيب حاجتك بجاهه، وأفضل منك في الدين، فتزداد صلاحا بصلاحه.
ليكن مما تنظر فيه من أمر عدوك وحاسدك: أن تعلم أنه لا ينفعك أن تخبر عدوك أنك له عدو، فتنذره نفسك وتؤذنه بحربك قبل الإعداد والفرصة، فتحمله على التسلح لك، وتوقد ناره عليك.
اعلم أن أعظم خطرك أن تري عدوك أنك لا تتخذه عدوا؛ فإن ذلك غرة له وسبيل لك إلى القدرة عليه؛ فإن أنت قدرت فاستطعت اغتفارا لعداوته عن أن تكافئ بها، فهنالك استكملت عظيم الخطر، وإن كنت مكافئا بالعداوة والضرر، فإياك أن تكافئ عداوة السر بعداوة العلانية، وعداوة الخاصة بعداوة العامة؛ فإن ذلك هو الظلم والعار.
واعلم، مع ذلك، أنه ليس كل العداوة والضرر يكافأ بمثله، كالخيانة لا تكافأ بالخيانة، والسرقة لا تكافأ بالسرقة، ومن الحيلة في أمرك مع عدوك أن تصادق أصدقاءه وتؤاخي إخوانه فتدخل بينه وبينهم في سبيل الشقاق والتجافي؛ فإنه ليس رجل ذو طرق يمتنع من مؤاخاتك إذا التمست ذلك منه، وإن كان إخوان عدوك غير ذوي طرق، فلا عدو لك.
لا تدع مع السكوت عن شتم عدوك إحصاء معايبه ومثالبه واتباع عوراته، حتى لا يشذ عنك من ذلك صغير ولا كبير من غير أن تشيع عليه فيتقيك به، ويستعد له أو تذكره في غير موضعه، فتكون كمستعرض الهواء بنبله قبل إمكان الرمي.
لا تتخذ اللعن والشتم على عدوك سلاحا؛ فإنه لا يجرح في نفس ولا في مال، ولا دين ولا منزلة.
إن أردت أن تكون داهيا، فلا تحبن أن تسمى داهيا؛ فإنه من عرف بالدهاء خاتل علانية، وحذره الناس حتى يمتنع منه الضعيف، وإن من إرب الأريب دفن إربه ما استطاع، حتى يعرف بالمسامحة في الخليقة، والاستقامة في الطريقة ومن إربه ألا يؤارب العاقل المستقيم الطريقة الذي يطلع على غامض إربه، فيمقته عليه.
إن أردت السلامة فأشعر قلبك الهيبة للأمور من غير أن تظهر منك الهيبة، فيفطن الناس لهيبتك ويجرئهم عليك، ويدعو ذلك إليك منهم، كلما تهاب فاشعب لمداراة ذلك، من كتمان المهابة وإظهار الجراءة والتهاون، طائفة من رأيك، وإن ابتليت بمجازاة عدو محالف، فالزم هذه الطريقة التي وصفت لك؛ من استشعار الهيبة وإظهار الجراءة والتهاون، وعليك بالحذر في أمرك، والجراءة في قلبك حتى تملأ قلبك جراءة، ويستفرغ عملك الحذر.
إن من عدوك من تعمل في هلاكه، ومنهم من تعمل في البعد عنه، فاعرفهم على منازلهم، ومن أقوى القوة لك على عدوك، وأعز أنصارك في الغلبة، أن تحصي على نفسك العيوب والعورات، كلما أحصيتها على عدوك، وتنظر عند كل عيب تراه، أو تسمعه لأحد من الناس، هل قارفت مثله أو مشاكله؟ فإن كنت قارفت منه شيئا، فأحصه فيما تحصي على نفسك، حتى إذا أحصيت ذلك كله، فكابر عدوك بإصلاح عيوبك، وتحصين عوراتك وإحراز مقاتلك، وخذ نفسك بذلك ممسيا مصبحا، فإذا آنست منها دفعا لذلك، أو تهاونا به، فاعدد نفسك عاجزا ضائعا جانيا معورا لعدوك ممكنا له من رميك، وإن حصل من عيوبك بعض ما لا تقدر على إصلاحه من أمر قد مضى يعيبك عند الناس، ولا تراه أنت عيبا فاحفظ ذلك، وما عسى أن يقول فيه قائل من حسبك أو مثالب آبائك أو عيب إخوانك، ثم اجعل ذلك كله نصب عينيك، واعلم أن عدوك مريدك بذلك، فلا تغفل عن التهيؤ له، والإعداد لقوتك وحجتك وحيلتك فيه سرا وعلانية، فأما الباطل فلا تروعن به قلبك، ولا تستعدن له ولا تشتغلن به؛ فإنه لا يهولك ما لم يقع، وإذا وقع اضمحل.
اعلم أنه قلما بده أحد بشيء يعرفه من نفسه، وقد كان يطمع في إخفائه عن الناس فيعيره به معير عند السلطان أو غيره، إلا كاد يشهد به عليه وجهه وعيناه ولسانه، للذي يبدو منه عند ذلك، والذي يكون من انكساره وفتوره عند تلك البداهة، فاحذر هذه وتصنع لها وخد أهبتك لبغتاتها.
Shafi da ba'a sani ba