إذا نابت أخاك إحدى النوائب من زوال نعمة أو نزول بلية، فاعلم أنك قد ابتليت معه، إما بالمؤاساة فتشاركه في البلية، وإما بالخذلان فتحتمل العار، فالتمس المخرج عند اشتباه ذلك وآثر مروتك على ما سواها؛ فإن نزلت الجائحة التي تأبى نفسك مشاركة أخيك فيها فأجمل، فلعل الإجمال يسعك لقلته في الناس.
إذا أصاب أخاك فضل؛ فإنه ليس في دنوك منه، وابتغائك مودته وتواضعك له مذلة، فاغتنم ذلك واعمل فيه.
إذا كانت لك عند أحد صنيعة، أو كان لك عليه طول، فالتمس إحياء ذلك بإماتته وتعظيمه بالتصغير له، ولا تقتصرن في قلة المن على أن تقول لا أذكره، ولا أصغي بسمعي إلى من يذكره؛ فإن هذا قد يستحيي منه بعض من لا يوصف بعقل ولا كرم، ولكن احذر أن يكون في مجالستك إياه وما تكلمه به، أو تستعينه عليه أو تجاريه فيه شيء من الاستطالة؛ فإن الاستطالة تهدم الصنيعة، وتكدر المعروف.
احترس من سورة الغضب وسورة الحمية، وسورة الحقد وسورة الجهل، وأعدد لكل شيء من ذلك عدة تجاهده بها من الحلم والتفكر والروية، وذكر العاقبة وطلب الفضيلة.
واعلم أنك لا تصيب الغلبة، إلا بالجهاد، وأن قلة الإعداد لموافقة الطبائع المتطلعة هو الاستسلام، وأنه ليس أحد إلا فيه من كل طبيعة سوء غريزة، وإنما التفاضل بين الناس في مغالبة طبائع السوء.
فأما أن يسلم أحد من أن تكون فيه تلك الغرائز، فليس في ذلك مطمع إلا أن الرجل القوي إذا كابرها بالقمع لها كلها كلما تطلعت؛ لم يلبث أن يميتها حتى كأنها ليست فيه، وهي في ذلك كامنة كمون النار في العود، فإذا وجدت قادحا من غير علة أو غفلة استورت، كما تستوري عند القدح، ثم لا يبدأ ضرها إلا بصاحبها، كما لا تبدأ النار إلا بعودها التي كانت فيه.
ذلل نفسك بالصبر على جار السوء، وعشير السوء، وجليس السوء؛ فإن ذلك ما لا يكاد يخطئك؛ فإن الصبر صبران: صبر الرجل على ما يكره، وصبره عما يحب، فالصبر على المكروه أكثرهما، وأشبههما أن يكون صاحبه مضطرا.
واعلم أن اللئام أصبر أجسادا ، والكرام أصبر نفوسا. وليس الصبر الممدوح بأن يكون جلد الرجل وقاحا، أو رجله قوية على المشي، أو يده قوية على العمل؛ فإنما هذا من صفات الحمير، ولكن أن يكون للنفس غلوبا، وللأمور محتملا، وفي الضر متجملا، ولنفسه عند الرأي والحفاظ مرتبطا، وللحزم مؤثرا، وللهوى تاركا، وللمشقة التي يرجو عاقبتها مستخفا، وعلى مجاهدة الأهواء والشهوات مواظبا، ولبصره بعزمه منفذا.
حبب إلى نفسك العلم حتى تألفه وتلزمه، ويكون هو لهوك ولذتك وسلوتك وبلغتك، واعلم أن العلم علمان: علم للمنافع، وعلم لتزكية العقل، وأفشى العلمين وأجداهما أن ينشط له صاحبه من غير أن يحرض عليه علم المنافع، وللعلم الذي هو ذكاء العقول وصقالها وجلاؤها فضيلة منزلة عند أهل الفضل في الألباب.
عود نفسك السخاء، واعلم أنهما سخاءان؛ سخاوة نفس الرجل بما في يديه، وسخاوته عما في أيدي الناس، وسخاوة نفس الرجل بما في يديه أكثرهما وأقربهما من أن تدخل فيه المفاخرة، وتركه ما في أيدي الناس أمحض في التكرم وأنزه من الدنس، فإن هو جمعهما فبذل وعف، فقد استكمل الجود والكرم.
Shafi da ba'a sani ba