الناس إلا قليلا ممن عصم الله مدخولون في أمورهم: فقائلهم باغ، وسامعهم عياب، وسائلهم متعنت، ومجيبهم متكلف، وواعظهم غير محقق لقوله بالفعل، وموعوظهم غير سليم من الاستخفاف، والأمين منهم غير متحفظ من إتيان الخيانة، وذو الصدق غير محترس من حديث الكذبة، وذو الدين غير متورع عن تفريط الفجرة، والحازم منهم غير تارك لتوقع الدوائر، يتناقضون البنى، ويترقبون الدول.
ويتعاطون القبيح، ويتعاينون بالغمز، ويرعون في الرخاء بالتحاسد، وفي الشدة بالتجاذب.
ثم قد انتزعت الدنيا ممن قد استمكن منها، واعتكفت له فأصبحت الأعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم، وأخذ متاعهم من لم يحمدهم، وخرجوا إلى من لا يعذرهم، فأصبحنا خلفا من بعدهم نتوقع مثل الذي نزل بهم، فنحن إذا تدبرنا أمورهم أحقاء أن ننتظر ما نغبطهم به فنتبعه، وما نخاف عليهم منه فنجتنبه.
كان يقال: إن الله تعالى قد يأمر بالشيء ويبتلي بثقله، وينهى عن الشيء ويبتلي بشهوته، فإذا كنت لا تعمل من الخير إلا ما اشتهيت، ولا تترك من الشر إلا ما كرهت؛ فقد أطلعت الشيطان على عورتك وأمكنته من أزمتك، فأوشك أن يقتحم عليك فيما تحب من الخير فيكرهه إليك، وفيما تكرهه من الشر فيحببه إليك.
ولكن ينبغي لك في حب ما تحب من الخير التحامل على ما يستثقل منه، وينبغي لك في كراهة ما تكره من الشر التجنب لما تحب منه.
للدنيا زخرف يغلب الجوارح ما لم تغلبه الألباب، والحكيم من لم يغض عليه طرفه، ولم يشغل به قلبه اطلع من أدناه فيما وراءه، وذكر في بدئه لواحق شره، فأكل مره وشرب كدره ليحلو لي وله ويصفو في طول من إقامة العيش الذي يبقى ويدوم، غير عائف للرشد إن لم يلقه برضاه، ولم يأته من طريق هواه.
لا تألف المستوخم، ولا تقم على غير الثقة، قد بلغ فضل الله على الناس من السعة، وبلغت نعمته عليهم من السبوغ ما لو أن أخسهم حظا وأقلهم منه نصيبا، وأضعفهم علما، وأعجزهم عملا وأعياهم لسانا بلغ من الشكر له، والثناء عليه بما خلص إليه من فضله، ووصل إليه من نعمته ما بلغ له منه أعظمهم حظا، وأوفرهم نصيبا وأفضلهم علما، وأقواهم عملا، وأبسطهم لسانا؛ لكان عما استوجب الله عليه مقصرا، وعن بلوغ غاية الشكر بعيدا، ومن أخذ بحظه من شكر الله وحمده ومعرفة نعمه والثناء عليه والتحميد له؛ فقد استوجب بذلك من أدائه إلى الله والقربة عنده والوسيلة إليه، والمزيد فيما شكره عليه؛ خير الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
أفضل ما يعلم به علم ذي العلم، وصلاح ذي الصلاح أن يستصلح، بما أوتي من ذلك، من استطاع من الناس، ويرغبهم فيما رغب فيه لنفسه من حب الله، وحب حكمته والعمل بطاعته والرجاء لحسن ثوابه في المعاد إليه، وأن يبين الذي لهم من الأخذ بذلك، والذي عليهم في تركه، وأن يورث ذلك أهله ومعارفه، ليلحقه أجره من بعد الموت.
الدين أفضل المواهب التي وصلت من الله تعالى إلى خلقه، وأعظمها منفعة، وأحمدها في كل حكمة؛ فقد بلغ فضل الدين والحكمة أن مدحا على ألسنة الجهال على جهالتهم بهما، وعماهم عنهما.
أحق الناس بالسلطان أهل الرأفة، وأحقهم بالتدبير العلماء، وأحقهم بالعلم أحسنهم تأديبا.
Shafi da ba'a sani ba