Rami al-Jamarat in Light of the Qur'an, the Sunnah, and the Traditions of the Companions
رمي الجمرات في ضوء الكتاب والسنة وآثار الصحابة رضي الله عنهم
Mai Buga Littafi
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
Inda aka buga
الرياض
Nau'ikan
رمي الجمرات
في ضوء الكتاب والسنة وآثار الصحابة ﵃
مفهوم، وفوائد، وشروط، وآداب، ومسائل، وحِكَمٌ، وأحكامٌ
تأليف الفقير إلى الله تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
تقديم معالي العلامة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: فقد اطلعت على الكتاب المسمّى: رمي الجمرات في ضوء الكتاب والسنة، تأليف الفقير إلى الله تعالى الدكتور: سعيد بن علي بن وهف القحطاني، فوجدته: كتابًا، جيّدًا، مفيدًا، مدعّمًا بالأدلَّة، موثّقًا من المصادر العلمية. وأرجو الله أن ينفع به، ويثيب مؤلّفه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. كتبه صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء في ٢٨/ ٧/١٤٢٩هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم معالي العلامة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان حفظه الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، واهتدى بهديه، وبعد. فقد طلب مني الدكتور سعيد بن علي بن وهف القحطاني أن أطّلع على رسالةٍ كتبها بعنوان: «رمي الجمرات في ضوء الكتاب والسنة وآثار الصحابة ﵃»، وكانت هذه الرسالة طبعت في رمضان في العام الماضي ١٤٢٩هـ، وعليها تقريظ لفضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء، أثنى فيه فضيلته على رسالة الدكتور سعيد، ودعا له، فرأيت الاكتفاء بما كتبه الشيخ صالح وفقه الله، وبارك فيه، لكن الدكتور سعيد ألحّ عليّ، وراجعنى مرارًا، وأنا أشكره على حرصه، وكنت قرأت الرسالة قراءة عابرة منذ عدة أشهر، فأعدت مراجعتها، وتأمّلت ما كتبه وفّقه الله عن رمي الجمرات، فرأيته قد أحسن في كتابته، وظهر تحرِّيه واجتهاده في نقوله واستدلاله، وحرصه على نقل ترجيح العلماء الراسخين الذين هم أهل العلم حقًا، رحم الله من مات من العلماء، ووفّق الأحياء للالتزام بالكتاب والسنة، والتقيد بدلالتهما، وما فهمه عنهما الصحابة والتابعون، والقرون التي شهد لها رسول الله ﷺ بأنهم خير الناس، كما في حديث عمران بن حصين وغيره، ولا شك أن العبادات المؤقتة بوقتٍ وصفةٍ إنما مرجعها فهم الكتاب الكريم، وسنة سيد المرسلين، ومهمة العلماء أن يحسنوا فهم النصوص، والاستدلال بها، والاستنباط منها .. إن العلماء ليس إليهم التشريع، فذلك لله ولرسوله ﷺ؛ ولذا فإنه يجب على العلماء التقيد بدلالة النص، وأن لا يخرجوا عن دلالته لا في صفةٍ، ولا
بدايةٍ ونهايةٍ، والدكتور سعيد في هذه الرسالة قد أحسن في تَقَيُّدِهِ بفهم الصحابة ﵃ في ابتداء الرمي يوم النحر، وأيام التشريق، وفي أمر انتهائه ... إن من المعلوم أن النبي ﷺ لم يحج بالمسلمين سوى حجة الوداع، وفي حجة الوداع أُخِذَتْ عنه أعمال الحج، وقد أفهم أصحابه بأن يأخذوا عنه؛ فأخذوا، ثم بلَّغوا الناس ما أخذوه حتى صار الواحد من الناس عندما يقرأ ما نُقِلَ عن الصحابة من فعلهم، أو إخبارهم بفعل رسول الله ﷺ، أو ما نقلوه من أقواله عليه أفضل الصلاة والتسليم كأنما يُشاهد أو يَسمع أقوال سيد البشر، وأقوال خير الناس بعده. إنّ على المسلم أن يَتعرَّف أفعال رسول الله ﷺ في جميع أمور التشريع فيما بينه ﷺ وبين الله، وما بينه وبين عباد الله، وأن يحسن التقيّد بها. وما التبس عليه أمره يسأل أهل العلم، وعليه أن يحسن اختيار من يسألهم، وأن يحرص على قراءة ما كُتِبَ من السابقين؛ ليستعين بذلك على فهم ما يقرؤه، لا على أن يجد أقوالًا عن من يدعو إلى التسهيل؛ فإن التسهيل المعتبر هو ما وافق الكتاب والسنة، ولم يخرج عن فهم الصحابة ﵃ والعلماء الراسخين من سلف هذه الأمة، وقد كثر المتحدثون عن التسهيل، ولو لم يكن عن دليلٍ صريحٍ؛ ولا شك أن النبي ﷺ قال: «يسروا ولا تعسروا»؛ وأمرنا ﷺ بالتيسير، ونهانا عن التعسير، وأخبرنا أننا إنّما بُعثنا مُيسّرين، ولم نُبْعَث معسّرين،، لكن ذلك كله في حدود ما دلّ عليه الكتاب والسنة؛ فإن الدين كَمُلَ في حياة رسول الله ﷺ، فلم يبق مجال لتوسعةٍ إلا في حدود ما جاء عن الله ورسوله، وما سوى ذلك فمردود على من قال به؛ لحديث عائشة ﵂ المخرج في الصحيح:
«من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ»، وفي لفظ: «من أحدث في أمرنا ...»، وبالتالي فإني أؤيِّد ما ذكره فضيلة الشيخ صالح الفوزان عن هذه الرسالة، وأشكر الدكتور سعيد على ما قام به، وما أشار إليه من انتفاء الحرج في رمي الجمرات بما ظهر من آثار أدوار ما أنشئ من جسور رمي الجمرات، وما حصل من التوسُّعِ في ذلك في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، مما جعل الرمي في غاية اليسر، نسأل الله أن يزيده توفيقًا، ويعينه على حماية العقيدة، ونصرة الشريعة، وأن يشد أزره بإخوانه وأعوانه، وأن تكون مخافة الله والتماس رضاه، أهم الأمور لديهم، وأن يبارك فيهم. وكما أسأل الله سبحانه أن يهيئ لدولتنا كل أسباب الصيانة لهذه الملَّة، وصيانة العقيدة، وحماية المناسك وِفْق ما وصل إلينا من أعمال وأقوال سلفنا، وأن يرينا في دولتنا توالي نعمه عليها في أمر الدين والدنيا، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. كتب ذلك عضو هيئة كبار العلماء صالح بن محمد اللحيدان ١٤/ ١٠/١٤٣٠هـ
تقديم معالي العلامة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وبعد: فقد اطلعت على الكتاب المسمّى: رمي الجمرات في ضوء الكتاب والسنة، تأليف الفقير إلى الله تعالى الدكتور: سعيد بن علي بن وهف القحطاني، فوجدته: كتابًا، جيّدًا، مفيدًا، مدعّمًا بالأدلَّة، موثّقًا من المصادر العلمية. وأرجو الله أن ينفع به، ويثيب مؤلّفه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. كتبه صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء في ٢٨/ ٧/١٤٢٩هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم معالي العلامة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان حفظه الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، واهتدى بهديه، وبعد. فقد طلب مني الدكتور سعيد بن علي بن وهف القحطاني أن أطّلع على رسالةٍ كتبها بعنوان: «رمي الجمرات في ضوء الكتاب والسنة وآثار الصحابة ﵃»، وكانت هذه الرسالة طبعت في رمضان في العام الماضي ١٤٢٩هـ، وعليها تقريظ لفضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء، أثنى فيه فضيلته على رسالة الدكتور سعيد، ودعا له، فرأيت الاكتفاء بما كتبه الشيخ صالح وفقه الله، وبارك فيه، لكن الدكتور سعيد ألحّ عليّ، وراجعنى مرارًا، وأنا أشكره على حرصه، وكنت قرأت الرسالة قراءة عابرة منذ عدة أشهر، فأعدت مراجعتها، وتأمّلت ما كتبه وفّقه الله عن رمي الجمرات، فرأيته قد أحسن في كتابته، وظهر تحرِّيه واجتهاده في نقوله واستدلاله، وحرصه على نقل ترجيح العلماء الراسخين الذين هم أهل العلم حقًا، رحم الله من مات من العلماء، ووفّق الأحياء للالتزام بالكتاب والسنة، والتقيد بدلالتهما، وما فهمه عنهما الصحابة والتابعون، والقرون التي شهد لها رسول الله ﷺ بأنهم خير الناس، كما في حديث عمران بن حصين وغيره، ولا شك أن العبادات المؤقتة بوقتٍ وصفةٍ إنما مرجعها فهم الكتاب الكريم، وسنة سيد المرسلين، ومهمة العلماء أن يحسنوا فهم النصوص، والاستدلال بها، والاستنباط منها .. إن العلماء ليس إليهم التشريع، فذلك لله ولرسوله ﷺ؛ ولذا فإنه يجب على العلماء التقيد بدلالة النص، وأن لا يخرجوا عن دلالته لا في صفةٍ، ولا
بدايةٍ ونهايةٍ، والدكتور سعيد في هذه الرسالة قد أحسن في تَقَيُّدِهِ بفهم الصحابة ﵃ في ابتداء الرمي يوم النحر، وأيام التشريق، وفي أمر انتهائه ... إن من المعلوم أن النبي ﷺ لم يحج بالمسلمين سوى حجة الوداع، وفي حجة الوداع أُخِذَتْ عنه أعمال الحج، وقد أفهم أصحابه بأن يأخذوا عنه؛ فأخذوا، ثم بلَّغوا الناس ما أخذوه حتى صار الواحد من الناس عندما يقرأ ما نُقِلَ عن الصحابة من فعلهم، أو إخبارهم بفعل رسول الله ﷺ، أو ما نقلوه من أقواله عليه أفضل الصلاة والتسليم كأنما يُشاهد أو يَسمع أقوال سيد البشر، وأقوال خير الناس بعده. إنّ على المسلم أن يَتعرَّف أفعال رسول الله ﷺ في جميع أمور التشريع فيما بينه ﷺ وبين الله، وما بينه وبين عباد الله، وأن يحسن التقيّد بها. وما التبس عليه أمره يسأل أهل العلم، وعليه أن يحسن اختيار من يسألهم، وأن يحرص على قراءة ما كُتِبَ من السابقين؛ ليستعين بذلك على فهم ما يقرؤه، لا على أن يجد أقوالًا عن من يدعو إلى التسهيل؛ فإن التسهيل المعتبر هو ما وافق الكتاب والسنة، ولم يخرج عن فهم الصحابة ﵃ والعلماء الراسخين من سلف هذه الأمة، وقد كثر المتحدثون عن التسهيل، ولو لم يكن عن دليلٍ صريحٍ؛ ولا شك أن النبي ﷺ قال: «يسروا ولا تعسروا»؛ وأمرنا ﷺ بالتيسير، ونهانا عن التعسير، وأخبرنا أننا إنّما بُعثنا مُيسّرين، ولم نُبْعَث معسّرين،، لكن ذلك كله في حدود ما دلّ عليه الكتاب والسنة؛ فإن الدين كَمُلَ في حياة رسول الله ﷺ، فلم يبق مجال لتوسعةٍ إلا في حدود ما جاء عن الله ورسوله، وما سوى ذلك فمردود على من قال به؛ لحديث عائشة ﵂ المخرج في الصحيح:
«من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ»، وفي لفظ: «من أحدث في أمرنا ...»، وبالتالي فإني أؤيِّد ما ذكره فضيلة الشيخ صالح الفوزان عن هذه الرسالة، وأشكر الدكتور سعيد على ما قام به، وما أشار إليه من انتفاء الحرج في رمي الجمرات بما ظهر من آثار أدوار ما أنشئ من جسور رمي الجمرات، وما حصل من التوسُّعِ في ذلك في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، مما جعل الرمي في غاية اليسر، نسأل الله أن يزيده توفيقًا، ويعينه على حماية العقيدة، ونصرة الشريعة، وأن يشد أزره بإخوانه وأعوانه، وأن تكون مخافة الله والتماس رضاه، أهم الأمور لديهم، وأن يبارك فيهم. وكما أسأل الله سبحانه أن يهيئ لدولتنا كل أسباب الصيانة لهذه الملَّة، وصيانة العقيدة، وحماية المناسك وِفْق ما وصل إلينا من أعمال وأقوال سلفنا، وأن يرينا في دولتنا توالي نعمه عليها في أمر الدين والدنيا، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. كتب ذلك عضو هيئة كبار العلماء صالح بن محمد اللحيدان ١٤/ ١٠/١٤٣٠هـ
Shafi da ba'a sani ba
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
فهذه رسالة مختصرةٌ، محررةٌ، في «رمي الجمرات في ضوء الكتاب والسنة» بيَّنت فيها كل ما يحتاجه الحاج في رمي الجمرات في يوم العيد وأيام التشريق، وقرنت كل مسألة بدليلها من الكتاب والسنة، أو الإجماع، أومن أقوال الصحابة ﵃.
وقد ذكرت في متن هذه الرسالة القول الصحيح الراجح بدليله، وذكرت في الحواشي المسائل الخلافية، وبيَّنت الراجح منها؛ ليستفيد من ذلك طالب العلم وغيره.
وقد استفدت كثيرًا من تقريرات وترجيحات سماحة شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى.
وقد قسمت البحث إلى أربعة مباحث على النحو الآتي:
المبحث الأول: مفهوم رمي الجمرات: لغة واصطلاحًا.
المبحث الثاني: سبب مشروعية رمي الجمرات.
المبحث الثالث: رمي جمرة العقبة وآدابه.
المبحث الرابع: رمي الجمرات أيام التشريق وآدابه.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل القليل نافعًا، مباركًا، خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل،
1 / 3
والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وصلى الله على عبده، ورسوله، وخليله، وأمينه على وحيه، محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
حرر في ضحى يوم الإثنين ١٨/ ٧/١٤٢٩هـ
1 / 4
المبحث الأول: مفهوم رمي الجمرات: لغة، واصطلاحًا:
الرمي لغة: هو القذف والدفع.
وهو في الاصطلاح: دفع الحصى الصغار بِقُوَّةٍ إلى موضع الرمي داخل حوض الجمرة.
الجمرات، لغة: الجمرة: الحصاة الصغيرة، وجمعها جمرات، وجمار (١).
قال الإمام ابن الأثير ﵀: «... الجمار: وهي الأحجار الصغار، ومنه سمِّيت جمار الحج للحصى التي يُرمَى بها، وأما موضع الجمار بمنىً فسُمِّيَ جمرة؛ لأنها تُرمى بالجمار، وقيل: لأنها مجمع الحصى التي يُرمى بها، من الجمرة: وهي اجتماع القبيلة على من نَاوَأها، وقيل: سُمِّيت به من قولهم: أجمر: إذا أسرع (٢).
وقال العلامة أحمد الفيُّومي ﵀: «الجمرة هي مجتمع الحصى بمنى، فكلُّ كومةٍ من الحصى جمرة، والجمع: جمرات، وجمرات منى ثلاث ...» (٣).
وعلى هذا فاشتقاق الجمرة: من التجمّر: وهو التجمّع؛ لاجتماع الحصى في الموضع الذي يُرمى فيه.
أو سُمِّيت الجمرة من التجمّع لاجتماع الحجاج عندها يرمونها، والعلم عند الله تعالى (٤).
الجمرة في الاصطلاح: هي مجتمع الحصى الذي تحت العمود
_________
(١) لسان العرب، لابن منظور، باب الراء، فصل الجيم، ٤/ ١٤٦.
(٢) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، مادة (جمر)، ١/ ٢٩٢.
(٣) المصباح المنير، للفيومي، مادة (جمر)، ١/ ١٠٨.
(٤) انظر: أضواء البيان، ٥/ ٢٩٨.
1 / 5
الشاخص الذي يقع وسط الحوض في الجمرة الصغرى، والجمرة الوسطى، ويقع الحوض في جهة جمرة العقبة الغربية الجنوبية (١)،فإذا وقع الحصى داخل الحوض تحت العمود الشاخص أجزأَ عند العلماء، وهو الموضع الذي رمى فيه رسول الله ﷺ.
_________
(١) وقد أصبح حوض الجمرة الكبرى: جمرة العقبة من جميع الجهات بعد التوسعة السعودية الجديدة في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز وفقه الله تعالى.
1 / 6
المبحث الثاني: سبب مشروعية الرمي وحكمته
وردت أحاديث تدل على أن أوَّل من رمى الجمار إبراهيم الخليل ﷺ، فعن ابن عباس ﵄، يرفعه إلى النبي ﷺ قال: «لما أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ (١) في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثالثة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض»، قال ابن عباس ﵄: الشيطان ترجمون، وملة أبيكم إبراهيم تتبعون» (٢)، وغير ذلك من الحكم (٣).
_________
(١) ساخ في الأرض: أي غاص فيها.
(٢) ابن خزيمة، بنحوه، برقم ٢٩٦٧، والحاكم، ١/ ٤٦٦، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، ١/ ٣٧.
(٣) وذكر شيخنا ابن باز ﵀ في مجموع فتاويه، ١٧/ ٣١٠ - ٣١٣ حكمًا أخرى هي:
١ - اقتداءً بأبينا إبراهيم الخليل ﵇ حين اعترض له الشيطان في هذه المواقف، وبنبينا محمد ﷺ حين شرع ذلك لأمته في حجة الوداع.
٢ - إقامة ذكر الله تعالى: «إنما جعل الطواف بالبيت، والسّعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» [أحمد، ٤٠/ ٤٠٨]، وتقدم تخريجه.
٣ - التقيّد بالعدد سبعة له حكمة عظيمة، وهو التذكر بما شرع الله من هذا العدد: ترمى بسبع حصيات: كالطواف سبعًا، والسعي سبعًا.
٤ - الدين الإسلامي دين امتثال لأمر الله، حتى ولو خفيت الحكمة.
٥ - رمي الجمار يشعر المسلم بالتواضع والخضوع في امتثال الأمر، كما أنه يعوِّد المسلم على النظام والترتيب في المواعيد.
٦ - الاحتفاظ بالحصيات وعدم وضعها في غير موضعها يشعر المسلم بأهمية المحافظة على ما شرع ربه وعدم الإسراف، ووضع الأمور في مواضعها من غير تبذير ولا زيادة.
٧ - الرمي رمز وإشارة إلى عداوة الشيطان.
٨ - غاية في تحقير المرجوم، والمسلم يرجم الجمار لكن الأصل لرجم إبراهيم ﵇ أن رجم الشيطان [رمي الجمرات للشريف، ص ٢٦].
1 / 7
المبحث الثالث: رمي جمرة العقبة وآدابه
إذا وصل الحاج إلى منى يوم النحر فالأفضل أن يعمل الآتي:
أولًا: يقطع التلبية عند جمرة العقبة؛ لحديث عبد الله بن عباس ﵄: أن أسامة كان ردف النبي ﷺ من عرفة إلى مزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما قال: «لم يزل النبي ﷺ يلبي حتى رمى جمرة العقبة» (١)، وسُمِّيت جمرة العقبة؛ لأنها في عقبة مأزم منى، وخلفها من ناحية الشام وادٍ فيه بايع الأنصار رسول الله ﷺ بيعة العقبة، وهي ملاصقة للجبل، وبجانبها طريق مع الجبل يسمى العقبة، والعقبة: هي الطريق مع الجبل، ولهذا سميت بالعقبة (٢).
ثانيًا: يستحب له أن يجعل منى عن يمينه، والكعبة عن يساره، وجمرة العقبة أمامه، ثم يرميها بسبع حصيات متعاقبات، يرفع يده مع كل حصاة، ويكبر مع كل حصاة، ويتأكد بأن الرمي يقع في الحوض داخل المرمى؛ لحديث عبد الله بن مسعود ﵁، فعن عبد الرحمن بن يزيد: «أنه حجَّ مع عبد الله بن مسعود ﵁، فرآه يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصيات [يُكبِّر مع كل حصاة]، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن
_________
(١) متفق عليه: البخاري، برقم ١٥٤٣، ١٥٤٤، ومسلم، برقم ١٢٨١، ١٢٨٢، وتقدم تخريجه في أحكام التلبية.
(٢) وقد أزيل طرف الجبل المتّصل بجمرة العقبة بناءً على فتوى مفتي البلاد السعودية في عصره، العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ ﵀، بتاريخ ١/ ٩/ ١٣٧٥هـ، وأنشئت الطرقات بين جمرة العقبة والجبل، كما هو مشاهد الآن. [انظر: فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ،
٥/ ١٥٠ - ١٥١].
1 / 9
يمينه، ثم قال: «هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة»، وفي رواية: أن عبد الرحمن بن يزيد كان مع ابن مسعود ﵁ حين رمى جمرة العقبة، فاستبطن الوادي حتى إذا حاذى الشجرة اعترضها، فرمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم قال: «من ها هنا - والذي لا إله غيره - قام الذي أُنزلت عليه سورة البقرة»، وفي لفظ: «أنه لما انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ورمى بسبع، وقال هكذا رمى الذي أُنزلت عليه سورة البقرة» (١).
وعن جابر ﵁ عنه عن النبي ﷺ، وفيه: «... ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يُكبِّر مع كل حصاة منها، حصى الخذف، رمى من بطن الوادي ...» (٢).
ثالثًا: وقت رمي جمرة العقبة، هذه الجمرة الوحيدة التي يستحب للحاج أن يرميها ضُحىً يوم النحر (٣)، أما بقية الأيام فلا تُرمَى
_________
(١) متفق عليه: البخاري، كتاب الحج، باب رمي الجمار من بطن الوادي، برقم ١٧٤٧، وباب رمي الجمار بسبع حصيات، برقم ١٧٤٨، وباب من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره، برقم ١٧٤٩، وباب يكبر مع كل حصاة، برقم ١٧٥٠، ومسلم كتاب الحج، باب رمي جمرة العقبة من بطن الوادي، وتكون مكة عن يساره، ويكبر مع كل حصاة، برقم ١٢٩٦.
(٢) مسلم، برقم ١٢١٨، وتقدم تخريجه.
(٣) أول وقت رمي جمرة العقبة وآخره على النحو الآتي:
أولًا: أول وقت رمي جمرة العقبة: أجمع العلماء على أن من رمى جمرة العقبة بعد طلوع الشمس أجزأه ذلك، بل قال الإمام ابن المنذر في كتابه الإجماع، ص ٧٢: «وأجمعوا على أنه إن رمى جمرة العقبة يوم النحر بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس أنه يجزئ».
واختلفوا في أول الوقت الذي يجوز فيه رمي جمرة العقبة إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: أول وقت رمي جمرة العقبة بعد منتصف الليل [وقيده بعضهم بعد غروب القمر، كما صحّ عن أسماء بنت أبي بكر ﵂]، وبهذا قال الشافعي، وأحمد، وعطاء، وابن أبي ليلى، وعكرمة بن خالد، كما ذكره ابن قدامة في المغني، ٥/ ٢٩٥، وقال النووي في شرح المهذب: «وبه قال عطاء، وأحمد، وهو مذهب أسماء بنت أبي بكر ﵂، وابن أبي مليكة، وعكرمة بن خالد، واستدلوا بحديث عائشة ﵂، قالت: «أرسل النبي ﷺ بأمِّ سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت» [أبو داود، برقم ١٩٤٢، والنسائي، برقم ٣٠٦٦]، وقال ابن حجر في بلوغ المرام: «إسناده على شرط مسلم، وقال الشيخ عبد القادر الأرنؤوط في تحقيقه لجامع الأصول،
٣/ ٢٦٣: «إسناده حسن». [وانظر: أضواء البيان للشنقيطي، ٥/ ٢٧٦، فقد نقل عن الإمام النووي تصحيحه في شرح المهذب، ثم قال الشنقيطي: «ولا يخفى أن رواية أبي داود المذكورة ظاهرها الصحة».
قال شيخنا الإمام ابن باز ﵀: «لا يجوز رمي جمرة العقبة قبل منتصف الليل من ليلة النحر، وكذلك طواف الإفاضة»، وقال ﵀: «الصحيح أن رمي جمرة العقبة في النصف الأخير من ليلة النحر مجزئ للضعفة وغيرهم، ولكن يشرع للمسلم القوي أن يجتهد حتى يرمي في النهار اقتداء بالنبي ﷺ؛ لأنه ﷺ رمى جمرة العقبة بعد طلوع الشمس» [مجموع فتاوى ابن باز،
١٦/ ١٤٣، وكان يفتي كثيرًا: بأنه يجوز الرمي بعد منتصف الليل، والأفضل بعد غروب القمر، ولكن الأفضل للأقوياء أن يرموا بعد طلوع الشمس، اقتداء بالنبي ﷺ، قال شيخنا ابن باز ﵀: «وحديث ابن عباس ﵄: «لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» [أخرجه أحمد، برقم ٢٠٨٢، ٠٨٩، و٢٥٠٧، و٢٨٤١، و٣٠٠٣، و٣١٩٢، و٣٢٠٣، وأبو داود، برقم ١٩٤٠، والنسائي، ٥/ ٢٧١، برقم ٣٠٦٤ والترمذي، برقم ٨٩٣] ضعيف لانقطاعه بين الحسن العرني وابن عباس، وعلى فرض صحته فهو محمول على الندب جمعًا بين الأحاديث، كما نبَّه على ذلك الحافظ ابن حجر ﵀). [انظر: مجموع فتاوى ابن باز، ١٦/ ١٤٣، ١٧٥، ٢٢٢، ١٧/ ٢٩٢، ٢٩٤، ٢٩٦، ٣٧٧، ٢٥/ ٢٣١].
وقال الإمام ابن قدامة ﵀: «... ولرمي هذه الجمرة [أي جمرة العقبة] وقتان: وقت فضيلة، ووقت إجزاء؛
فأما وقت الفضيلة فبعد طلوع الشمس، قال ابن عبد البر: أجمع علماء المسلمين على أن رسول الله ﷺ إنما رماها ضحى ذلك اليوم، وقال جابر ﵁: «رمى رسول الله ﷺ الجمرة يوم النحر ضحىً، وأما بعد فإذا زالت الشمس» [رواه مسلم، برقم ٣١٤ - (١٢٩٩)] إلى أن قال: «لأن رميها بعد طلوع الشمس يجزئ بالإجماع، وكان أولى.
وحديث ابن عباس: «لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» [أبو داود، برقم ١٩٤٠، وغيره، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ١/ ٥٤٥]، وكذا حديثه: «كان رسول الله ﷺ يقدم ضعفاء أهله بغلس ويأمرهم - يعني - لا يرمون الجمرة حتى تطلع الشمس» [أخرجه أبو داود، برقم ١٩٤١، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ١/ ٥٤٦] يحمل إذا كان صحيحًا على الاستحباب كما تقدم.
وأما وقت الجواز فأوله نصف الليل من ليلة النحر، ... ثم استدل بحديث عائشة ﵂ في رمي صفية ﵂ قبل الفجر، وبحديث أسماء، وأنها نزلت من مزدلفة بعد غروب القمر، ثم رمت قبل صلاة الفجر، وقال: لأنه وقتٌ للدفع من مزدلفة، فكان وقتًا للرمي، ثم قال في الأخبار في الرمي بعد طلوع الشمس: «والأخبار المتقدمة محمولة على الاستحباب». [المغني، ٥/ ٢٩٤ - ٢٩٥].
القول الثاني: ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن رمي جمرة العقبة يبتدئ من بعد طلوع الشمس، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، واحتجوا بقول النبي ﷺ: «خذوا عني مناسككم ...» [مسلم، برقم ١٢١٨، والبيهقي بلفظه، ٥/ ١٢٥]، وبحديث ابن عباس، وفيه: «... لا ترموا الجمرة حتى تطلع المشس» [أبو داود، برقم ١٩٤٠، والنسائي، ٥/ ٢٧١، والترمذي، برقم ٨٩٣، وتقدم الحكم عليه].
القول الثالث: أول وقت رمي جمرة العقبة للضعفة بعد طلوع الفجر، ولغير الضعفة بعد طلوع الشمس، وهو قول لبعض أهل العلم، واختاره ابن القيم في زاد المعاد، ٢/ ٢٥٢، قال ابن القيم ﵀: «وفي المسألة ثلاثة مذاهب: أحدها: الجواز بعد نصف الليل مطلقًا للقادر والعاجز، كقول الشافعي وأحمد رحمهما الله: [قال شيخنا ﵀ تعليقًا على هذا المذهب: وهذا هو الصواب، لكن بعد نصف الليل، والأقوياء الأفضل لهم تأخير الرمي إلى بعد طلوع الشمس]. والثاني: لا يجوز إلا بعد طلوع الفجر، كقول أبي حنيفة ﵀، والثالث: لا يجوز لأهل القدرة إلا بعد طلوع الشمس، كقول جماعة من أهل العلم، والذي دلت عليه السنة إنما هو التعجيل بعد غيبوبة القمر، لا نصف الليل، وليس مع من حدَّه بالنصف دليل، والله أعلم» [زاد المعاد، ٢/ ٢٥٢]. ويرى العلامة ابن عثيمين ﵀: أنه لا يدفع أحد من مزدلفة، ولا يرمي إلا بعد أن يصلي الفجر ما لم يكن ضعيفًا، أو صاحب ضعيف، ومع ذلك لو دفع بعد نصف الليل فإنه لا يأثم، والمسألة من باب الأفضلية [الشرح الممتع، ٧/ ٣٦١].
ثانيًا: آخر وقت رمي جمرة العقبة يمتد إلى غروب الشمس يوم النحر، قال الإمام ابن قدامه في المغني، ٥/ ٢٩٥: «قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقتٍ لها، وإن لم يكن مستحبًا لها»؛ ولحديث ابن عباس ﵄ قال: كان النبي ﷺ يُسأل يوم النحر بمنى، فيقول: «لا حرج»، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ فقال: «اذبح ولا حرج»، وقال: رميت بعدما أمسيت؟ فقال: «لا حرج» [البخاري، برقم ١٧٣٥، بلفظه، ومسلم، برقم ١٣٠٧].
قال الحافظ ابن حجر ﵀ في فتح الباري، ٣/ ٥٦٩ في قوله: «رميت بعدما أمسيت» أي بعد دخول المساء، وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتدَّ الظلام، فلم يتعيَّن لكون الرمي المذكور كان بالليل»، فإن غربت الشمس يوم النحر وهو لم يرمِ جمرة العقبة، فقد اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: يجوز الرمي ليلًا، وهو قول عبد الله ابن عمر ﵄، وبه قال الإمام مالك وأصحابه، والإمام الشافعي، ومحمد بن المنذر، ويعقوب، واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
١ - حديث ابن عباس ﵄، قال: «كان النبي ﷺ يُسأل يوم النحر بمنىً فيقول: «لا حرج»، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ فقال: «إذبح ولا حرج»، وقال: رميت بعدما أمسيتُ؟ فقال: «لا حرج» [البخاري، برقم ١٧٣٥]، قالوا: فقد صرّح النبي ﷺ بأن من رمى بعدما أمسى لا حرج عليه، واسم المساء يصدق بجزء من الليل [أضواء البيان للشنقيطي، ٥/ ٢٨٢].
٢ - ما روى مالك في الموطأ في كتاب الحج، باب الرخصة في رمي الجمار، ١/ ٤٠٩، عن نافع مولى ابن عمر: «أن ابنة أخٍ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة، فتخلفت هي وصفية حتى أتتا من بعد أن غربت الشمس من يوم النحر، فأمرهما عبد الله بن عمر أن ترميا الجمرة حين أتتا ولم ير عليهما شيئًا»، قال العلامة عبد المحسن بن حمد العباد البدر في كتابه تبصير الناسك،
ص ١٤٥: «بإسناد صحيح»، فقال أصحاب هذا القول: فقد أمر ابن عمر زوجته صفية بنت أبي عبيد وابنة أخيها برمي الجمرة بعد الغروب، ورأى أنهما لا شيء عليهما في ذلك، وذلك يدل على أنه علم من النبي ﷺ: أن الرمي ليلًا جائز. [أضواء البيان للشنقيطي، ٥/ ٢٨٥].
القول الثاني: لا يجوز الرمي ليلًا، بل إن غربت الشمس يوم النحر وهو لم يرمِ، فإنه يؤخر رمي جمرة العقبة حتى تزول الشمس من الغد ثم يرميها، وبهذا قال أبو حنيفة، وهو مذهب الإمام أحمد، قال الإمام ابن قدامه في المغني، ٥/ ٢٩٥: «فإن أخرها إلى الليل لم يرمِ حتى تزول الشمس من الغد، وبهذا قال أبو حنيفة وإسحاق ...»، وردّ أصحاب هذا القول على من استدل بحديث: «رميت بعدما أمسيت» فقالوا: إن مراد السائل بقوله: «بعدما أمسيت» يعني به بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل، قالوا: والدليل الواضح على ذلك: أن حديث ابن عباس المذكور فيه: كان النبي ﷺ يُسأل يوم النحر بمنى ... الحديث، فتصريحه بقوله: «يوم النحر» يدل على أن سؤاله وقع في النهار، والرمي بعد الإمساء وقع في النهار؛ لأن المساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، ٣/ ٥٦٩: «رميت بعدما أمسيت» أي بعد دخول المساء»، وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتدّ الظلام لم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل»، وقال ابن منظور في لسان العرب: «المساء بعد الظهر إلى صلاة المغرب، وقال بعضهم إلى نصف الليل».
فأجاب أصحاب القول الأول بأجوبة منها:
الجواب الأول: أن قول النبي ﷺ: «لا حرج» بعد قول السائل رميت بعدما أمسيت؟ يشمل لفظه نفي الحرج عمن رمى بعدما أمسى، وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، ولفظ المساء عام لجزء من النهار وجزء من الليل.
الجواب الثاني: أنه ثبت في بعض روايات حديث ابن عباس ﵄ المذكور ما هو أعم من يوم النحر، وهو صادق قطعًا بحسب الوضع اللغوي ببعض أيام التشريق، ومعلوم أن الرمي فيها لا يكون إلا بعد الزوال، فقول السائل في بعض أيام التشريق: رميت بعدما أمسيت؛ لا ينصرف إلا إلى الليل، لأن الرمي فيها بعد الزوال معلوم، فلا يسأل عنه صحابي، فعن ابن عباس ﵄، قال: كان رسول الله ﷺ يسأل أيام منى؟ فيقول: «لا حرج»، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: «لا حرج»، فقال رجل: رميت بعدما أمسيت؟ قال: «لا حرج»، [النسائي، برقم ٣٠٦٧، وصححه الألباني في صحيح النسائي، ٢/ ٣٥٩]، فقوله في هذا الحديث الصحيح: أيام منى بصيغة الجمع صادق بأكثر من يوم واحد، فهو صادق بحسب وضع اللغة، ببعض أيام التشريق، والسؤال عن الرمي بعد المساء فيها لا ينصرف إلا إلى الليل، كما تقدم [أضواء البيان، للشنقيطي، ٥/ ٢٨٤].
الجواب الثالث: هو ما تقدم في موطأ الإمام مالك عن ابن عمر في الدليل الثاني من أدلة القائلين بجواز الرمي ليلًا.
فالراجح جواز الرمي ليلًا، فيرمي من فاته الرمي لجمرة العقبة قبل غروب الشمس، ليلًا، عن اليوم الذي غابت شمسه، فيرمي عن جمرة العقبة ليلة الحادي عشر، وهو الذي يفتي به شيخنا ابن باز ﵀، ويرجحه منذ دهر طويل [انظر: مجموع الفتاوى له:١٧/ ٢٩٩، ٣٠١، ٣٧٧].
ثالثًا: جمهور العلماء على أن رمي جمرة العقبة واجب يجبر بدم، وخالف عبد الملك الماجشون من أصحاب مالك الجمهور، فقال: هو ركن، واحتج الجمهور بالقياس على الرمي في أيام التشريق [أضواء البيان للشنقيطي، ٥/ ٢٨٧].
رابعًا: أجمع العلماء على أنه لا يرمي من الجمرات يوم النحر إلا جمرة العقبة [أضواء البيان، ٥/ ٢٨٧].
1 / 10
الجمار الثلاث إلا بعد الزوال فعن جابر ﵁ قال: «رمى رسول الله ﷺ يوم النحر ضحىً وأما بعدُ فإذا زالت الشمس»، هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري معلقًا: «رمى النبي ﷺ يوم النحر ضحىً، ورمى بعد ذلك بعد الزوال» (١)، وجمرة العقبة هي الأخيرة مما يلي مكة (٢).
ثم ينحر هديه، أو يذبحه إن كان عليه هدي.
رابعًا: الحلق أو التقصير، والحلق أفضل
إذا فرغ الحاج من ذبح هديه أو نحره لمن كان له هدي حلق رأسه أو قصَّره، والحلق أفضل للرجل؛ لأن النبي ﷺ دعا بالرحمة والمغفرة للمحلقين ثلاث مرات وللمقصرين مرة واحدة؛ لحديث عبد الله بن عمر
﵄: أن رسول الله ﷺ قال: «رحم الله المحلقين»، قالوا: والمقصرين يا
_________
(١) متفق عليه: البخاري معلقًا مجزومًا به، كتاب الحج، باب رمي الجمار، قبل الحديث رقم ١٧٤٦، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وقت استحباب الرمي، برقم ٣١٤ – (١٢٩٩).
(٢) جمرة العقبة لها خصائص اختصت بها على سائر الجمرات على النحو الآتي:
١ - ترمى يوم النحر. ٢ - صباحًا. ٣ - ترمى من أسفلها. ٤ - لا يوقف عندها للدعاء. ٥ - تستقبل حال الرمي. ٦ - أحد ما يحلّ به الحاج. ٧ - قطع الحاج التلبية إذا رماها. [فتاوى العلامة محمد بن إبراهيم ﵀، ٦/ ١٥].
1 / 15
رسول الله، قال: «رحم الله المحلّقين»، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: «رحم الله المحلقين»،قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «والمقصرين» (١).
وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله: «اللهم اغفر للمحلقين»، قالوا: يا رسول الله والمقصرين، قال: «اللهم اغفر للمحلقين»، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: «اللهم اغفر للمحلقين»، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: «والمقصِّرين» (٢).
أما المرأة فليس عليها إلا التقصير تأخذ من كل قرن قدر الأنملة أو أقل.
وبعد رمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير يباح للمحرم كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء، ويُسمَّى هذا التحلل الأول (٣).
_________
(١) متفق عليه: البخاري، كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال، برقم،١٧٢٧،ومسلم، واللفظ له، في كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، برقم ٣١٨ – (١٣٠١).
(٢) متفق عليه: البخاري، كتاب الحج، باب الحلق والتقصير عند الإحلال، برقم ١٧٢٨، ومسلم، واللفظ له، في كتاب الحج، باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير، برقم ١٣٠٢.
(٣) مسائل مهمة في التحلل على النحو الآتي:
المسألة الأولى: اختلف العلماء ﵏: هل الحلق نسك أم لا؟ على قولين:
القول الأول: الحلق والتقصير نسك لا بد من فعله في الحج، والعمرة، فهو واجب من واجبات الحج، وواجب من واجبات العمرة، يثاب على فعله، ويستحق العقاب من تركه [قاله ابن تيميه في شرح العمدة، ٢/ ٥٤١]، قال الإمام ابن قدامة ﵀ في المغني، ٥/ ٣٠٤: «والحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة، في ظاهر مذهب أحمد، وقول الخرقي، وهو قول مالكٍ، وأبي حنيفة، والشافعي»، وبيَّن الإمام ابن قدامة أن هذا القول هو الأصح؛ فإن النبي ﷺ أمر به، فروى ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحل»، [البخاري، برقم ١٦٢٣، ومسلم برقم ١٢١١]، وعن جابر ﵁ أن النبي ﷺ قال: «أحلوا من إحرامكم بطوافٍ بالبيت، وبين الصفا والمروة، وقصِّروا» [البخاري، برقم ١٤٦٦، ومسلم، برقم ١٠٠٥] وأمره يقتضي الوجوب؛ ولأن الله تعالى وصفهم به، بقوله سبحانه:
﴿مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾ [سورة الفتح: ٢٧]، ولو لم يكن من المناسك لما وصفهم به، كاللبس، وقتل الصيد؛ ولأن النبي ﷺ ترحَّم على المحلقين ثلاثًا، وعلى المقصرين مرة، ولو لم يكن من المناسك لما دخله التفضيل، كالمباحات؛ ولأن النبي ﷺ وأصحابه فعلوه في جميع حججهم وعمرهم، ولم يخلَّوا به، ولو لم يكن نسكًا لما داوموا عليه، بل لم يفعلوه إلا نادرًا؛ لأنه لم يكن من عاداتهم فيفعلوه عادة، ولا فيه فضل فيفعلوه لفضله ...» [المغني لابن قدامه،
٥/ ٣٠٥ – ٣٠٦ بتصرف].
وقال الشنقيطي ﵀ في أضواء البيان، ٥/ ٥٨٨: «التحقيق أن الحلق نسك، وأنه أفضل من التقصير».
القول الثاني: الحلق والتقصير ليس بنسك، وإنما هو إطلاق من محظور كان محرَّمًا عليه بالإحرام، فأطلق فيه عند الحل، كاللباس والطيب وسائر محظورات الإحرام، وهذا القول رواية عن أحمد، فعلى هذه الرواية لا شيء على تاركه، ويحصل الحلُّ بدونه، ووجه ذلك: أن النبي ﷺ أمر بالحل من العمرة قبله، فروى أبو موسى قال: قدمتُ على رسول الله ﷺ، فقال لي: (بمَ أهللتَ؟) قال: قلت: لبيك بإهلالٍ كإهلال رسول الله ﷺ، قال: «أحسنت»، فأمرني فطفت بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم قال لي: «أحلّ» [البخاري، برقم ١٦٠٩، ومسلم، برقم ١٢٢١].
وعن جابر ﵁ أن النبي ﷺ لما سعى بين الصفا والمروة، قال: «من كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة» [مسلم، برقم ١٢١٨]، وعن سراقه: أن النبي ﷺ قال: «إذا قدمتم فمن تطوَّف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حلَّ إلا من كان معه هدي» [أخرجه أحمد، برقم ١٥٤١٩، وأبو داود، برقم ١٨٠١،والدارِمِي، برقم ١٨٥٧، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم ١٥٧٣]؛ ولأن ما كان محرمًا في الإحرام إذا أبيح كان إطلاقًا من محظور، كسائر محرّماته [المغني، ٥/ ٣٠٦].
والصواب أن الحلق والتقصير نسك في الحج والعمرة، وواجب من واجبات الحج، وواجب من واجبات العمرة، وعلى من تركه دمٌ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ عن هذا القول: «واعلم أن هذا القول غلط على المذهب ليس عن أحمد ما يدل على هذا، بل كلامه كله دليل على أن الحلق من المناسك [شرح العمدة، ٢/ ٥٤١].
وقال العلامة الشنقيطي: «وأظهر القولين عندي: أن الحلق نسك» [أضواء البيان، ٥/ ٢٨٨]
وقال العلامة محمد بن عثيمين ﵀ في الشرح الممتع: ٧/ ٣٦٦: «والصواب: أنه نسك، وعبادة وقربة لله، والدليل على هذا: أن النبي ﷺ «دعا للمحلقين والمقصرين»، ولا يدعو إلا بشيء مطلوب شرعًا.
ونقل ابن مفلح في الفروع، ٦/ ٥٧ اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه نُسُكٌ، ويحلُ قبله، وذكر جماعة على أنه نسك في حلّه قبله روايتين.
المسألة الثانية: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في مسألة التحلل من الحج على أقوال:
القول الأول: التحلل الأول يحصل بمجرد رمي جمرة العقبة، فيحل له كل شيء إلا النساء، وبه قال الإمام أحمد في رواية عنه، والإمام مالك، وعطاء، وأبو ثور؛ لحديث عائشة ﵂، قالت: قال رسول الله ﷺ: «إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حلَّ له كلُّ شيءٍ إلا النساء» [أبو داود، برقم ١٩٧٨، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ١/ ٥٥٤]، وقول ابن عباس ﵄، قال: «إذا رميتم الجمرة فقد حلَّ لكم كلُّ شيء إلا النساء»،فقال له رجل: يا ابن عباس والطيب؟ فقال: «أما أنا فقد رأيت رسول الله ﷺ يُضمِّخُ رأسه بالمسك، أفطيب ذلك أم لا؟»،وهذا لفظ ابن ماجه، وأما لفظ النسائي، فقال: «فعن ابن عباس قال: «إذا رمى الجمرة فقد حلَّ له كلُّ شيء إلا النساء» قيل: والطيبُ؟ قال: «أما أنا فقد رأيتُ رسول الله ﷺ يتضمَّخ بالمسك، أفطيب هو؟» [ابن ماجه، كتاب المناسك، باب ما يحل للرجل إذا رمى جمرة العقبة، برقم ٣٠٤١، والنسائي، كتاب مناسك الحج، باب ما يحل للمحرم بعد رمي الجمار، برقم ٣٠٨٤، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، ٣/ ٥٣، وفي صحيح النسائي، ٢/ ٣٦٤]، وأخرجه أحمد، ٥/ ٢٧٦، برقم: ٣٢٠٤، وقال محققو المسند، ٥/ ٢٧٦: «صحيح لغيره، رجاله ثقات رجال الشيخين غير الحسن بن عبد العزيز فمن رجال مسلم، وهو ثقة إلا أنه لم يسمع من ابن عباس»، ورواه أحمد أيضًا مرفوعًا٤/ ٥، برقم ٢٠٩٠، ولكن فيه الحسن العرني كذلك، وله شاهد عن عائشة ﵂، قالت: «طيبت رسول الله بيدي بذريرة لحجة الوداع للحلِّ والإحرام: حين أحرم، وحين رمى جمرة العقبة يوم النحر قبل أن يطوف بالبيت»، [أحمد، ٤٣/ ١٩٠، برقم ٢٦٠٧٨، وقال محققو المسند، ٤٣/ ١٩٠: «إسناده صحيح على شرط الشيخين»، وقال الإمام النسائي ... عن عائشة ﵂، قالت: «طيبت رسول الله ﷺ، لحرمه حين أحرم، ولحلِّه بعدما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت» [النسائي، برقم ٢٦٨٦، وصححه الألباني في صحيح النسائي، ٢/ ٢٥٦] قال الألباني في إرواء الغليل، ٤/ ٢٣٨، عن إسناد الإمام أحمد، وإسناد النسائي هذا: «وإسنادهما صحيح على شرط الشيخين» [وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم ٢٣٩].
وقد رجّح هذا القول الإمام ابن قدامه في المغني، ٥/ ٣١٠، فقال: «وعن أحمد أنه إذا رمى جمرة العقبة، فقد حلَّ، وإذا وطئ بعد جمرة العقبة فعليه دم، ولم يذكر الحلق، وهذا يدل على أن الحِلَّ بدون الحلق [يعني التحلل الأول]، وهذا قول عطاء، ومالك، وأبي ثور، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ لقوله: [ﷺ] في حديث أم سلمة ﵂: «إن هذا يوم رُخِّص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلُّوا – يعني من كل ما حُرمتم منه - إلا النساء ..» [أبو داود، برقم ١٩٦٩، في كتاب المناسك، باب الإفاضة في الحج، وقال الألباني في صحيح أبي داود، ١/ ٥٦٠: «حسن صحيح».
قال شيخنا ابن باز في مجموع الفتاوى، ١٧/ ٣١٦: «... التحلل الأول يحصل برمي جمرة العقبة عند جمع من أهل العلم، وهو قولٌ قويٌ، وإنما الأحوط هو تأخير التحلل الأول حتى يحلق المحرم، أو يقصرّ، أو يطوف الإفاضة، ويسعى إن كان عليه سعي بعد رمي جمرة العقبة، ومتى فعل الثلاثة المذكورة حلّ التحلّل كله، والله ولي التوفيق».
القول الثاني: التحلل الأول لا يحصل إلا برمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير، فإذا فعل ذلك حلَّ له كله شيء إلا النساء، وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي، والإمام أحمد في الرواية الأخرى، قال الإمام ابن قدامة ﵀ في المغني، ٥/ ٣٠٧: «... المحرم إذا رمى جمرة العقبة ثم حلق حلَّ له كلُّ ما كان محظورًا بالإحرام إلا النساء، هذا الصحيح من مذهب أحمد ﵀، نصَّ عليه، في رواية جماعة، فيبقى ما كان محرمًا عليه من النساء: من الوطء، والقبلة، واللمس، لشهوة، وعقد النكاح، ويحلُّ له ما سواه، هذا قول ابن الزبير، وعائشة، وعلقمة، وسالم، وطاوس، والنخعي، وعبيد بن الحسن، وخارجة بن زيد، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وروي أيضًا عن ابن عباس ﵄).
وعن أحمد أنه يحلُّ له كل شيء إلا الوطء في الفرج، لأنه أغلظ المحرمات، ويُفسدُ النسك بخلاف غيره»، وقال المرداوي في الإنصاف لمعرفة الراجح من الخلاف، ٩/ ٢١٣: «وظاهر كلام أبي الخطاب، وابن شهاب، وابن الجوزي ... حلُّ العقدِ، وقاله الشيخ تقي الدين، وذكره عن أحمد، وعنه إلا الوطء في الفرج»، وفي الاختيارات الفقهية لابن تيمية، ص ١٧٥: «يحلُّ للمحرم بعد التحلل الأول كلُّ شيء حتى عقد النكاح، وهذا منصوص أحمد إلا النساء».
وقال ابن قدامة في المغني، ٥/ ٣٠٩: «وظاهر كلام الخرقي ها هنا: أن الحلَّ إنما يحصلُ بالرمي والحلق معًا، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وقول الشافعي، وأصحاب الرأي»، واستدلوا بحديث عائشة ﵂ قالت: قال رسول الله ﷺ: «إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء» [أحمد، ٤٢/ ٤٠، برقم ٢٥٠٣، قال محققو المسند، ٤٢/ ٤٠: «صحيح دون قوله: «وحلقتم»، وهذا إسناد ضعيف لضعف حجاج بن أرطأة»، وقال الألباني في إرواء الغليل، ٤/ ٢٣٥، برقم ١٠٤٦: «وضعيف بزيادة «وحلقتم»، قال ابن قدامه في المغني، ٥/ ٣١٠: «وترتيب الحل عليهما دليل على حصوله بهما؛ ولأنهما نسكان يتعقبهما الحلُّ فكان حاصلًا بهما، كالطواف والسعي في العمرة»، وأما التحلل الثاني فيحصل بالطواف بالبيت والسعي لمن كان عليه سعي.
قال العلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع، ٧/ ٣٦٥: «الذي يظهر لي أنه لا يحل إلا بعد الرمي والحلق، والدليل قول عائشة ﵂: «كنت أطيب رسول الله ﷺ لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» [البخاري، برقم ٢٥٩، ومسلم برقم ١١٨٩]، ولو كان يحل بالرمي لقالت: ولحله قبل أن يحلق، فهي ﵂ جعلت الحلَّ ما بين الطواف والذي قبله، والذي قبله هو الرمي، والنحر، والحلق، ولا سيما وأن النبي ﷺ قال: «إن معي الهدي فلا أحل حتى أنحر» [البخاري، برقم ١٥٦٦، ومسلم، برقم ١٢٢٩]، فالصواب أنه لا يحل التحلل الأول إلا بعد الرمي والحلق».
وتقدم أن شيخنا ابن باز بيّن أن الأحوط أن لا يحل التحلل الأول إلا بعد الرمي والحلق، أو فعل اثنين من ثلاثة. [انظر: مجموع فتاوى ابن باز، ١٦/ ٢٢٤، ١٧/ ١٣١، ٣٢٧، ٣٥٤، ٣٥٥، ٣٥٨، و٢٥/ ٢٣١، ٢٤٠].
القول الثالث: التحلل الأول يحصل بفعل اثنين من ثلاثة: هي رمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة، فإذا فعل اثنين من هذه الثلاثة: تحلّل التحلّل الأول، وحلّ له كلُّ شيء إلا النساء، وإن فعل الثالث تحلل التحلل الثاني، وبهذا يحلُّ له كل شيء حتى النساء، وبهذا قال الإمام الشافعي كما نقله العلامة الشنقيطي في أضواء البيان، ٥/ ٢٨٩، وهو رواية عن الإمام أحمد، كما قاله ابن مفلح في الفروع، ٦/ ٥٧، قال: «وهل يحصل التحلل الأول باثنين من رمي، وحلق، وطواف، واختاره الأكثر، أو بواحد من رمي، وطواف، والثاني بالباقي، فيه روايتان، فعلى الثانية الحلق إطلاق من محظور، وفي «التعليق» نسك كالمبيت بمزدلفة، ورمي يوم الثاني والثالث، واختار الشيخ أنه نسك».
وقال المرداوي في تصحيح الفروع، ٦/ ٥٧: «... يحصل التحلل الأول باثنين: من رمي، وحلق، وطواف، وهو الصحيح ... والرواية الثانية: يحصل التحلل [أي الأول] بواحد من رمي وطواف»، وهذا على القول بأن الحلق ليس بنسك، والصواب أنه نسك كما تقدم.
وقال الإمام ابن قدامة في الكافي، ٢/ ٤٤٥: «يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة: الرمي، والحلق، والطواف، ويحصل التحلل الثاني بالثالث، إن قلنا إن الحلق نسك، وإن قلنا ليس بنسك حصل التحلل الأول بواحد من اثنين، وهما الرمي والطواف، وحصل التحلل الثاني بالثاني»، وتقدم أن الصواب أن الحلق نسك.
وقال شيخنا ابن باز في مجموع الفتاوى، ١٧/ ٣٥٤: «يقصد بالتحلل الأول: إذا فعل اثنين من ثلاثة: إذا رمى، وحلق أو قصر، أو رمى، وطاف وسعى إن كان عليه سعي، أو طاف وسعى، وحلق أو قصر، فهذا هو التحلل الأول، وإذا فعل الثلاثة: الرمي، والطواف، والسعي إن كان عليه سعي، والحلق أو التقصير، فهذا هو التحلل الثاني، فإذا فعل اثنين فقط: لبس المخيط، وتطيب وحلَّ له كل ما حرم عليه بالإحرام ما عدا الجماع، فإذا جاء بالثالث حل له الجماع». وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا رمى الجمرة يوم العيد يحصل له التحلل الأول، وهو قول جيد، ولو فعله إنسان فلا حرج عليه إن شاء الله، ولكن الأولى والأحوط أن لا يعجل حتى يفعل معه ثانيًا بعده: الحلق أو التقصير، أو يضيف إليه الطواف والسعي إن كان عليه سعي ..».
المسألة الثالثة: القدر الذي يكفي في الحلق أو التقصير في الحج والعمرة: اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجب حلق جميع الرأس أو تقصير جميعه للرجال، أما النساء فيقصرن من جميع الرأس قدر الأنملة، وبهذا قال الإمام أحمد، وأصحابه، والإمام مالك وأصحابه، ولا يلزم في التقصير تتبع كل شعرة، بل يكفيه أن يأخذ من جميع الرأس، وبعضهم يقول: يكفيه قدر الأنملة في التقصير من جميع الرأس، والمالكية يقولون: يقصره إلى القرب من أصول الشعر. قال العلامة الشنقيطي ﵀ في أضواء البيان، ٥/ ٥٨٩: «... أجمع جميع علماء الأمة على أن التقصير مجزئ، ولكنهم اختلفوا في القدر الذي يكفي في الحلق والتقصير ...» إلى أن قال: «وقال مالك، وأحمد، وأصحابهما يجب حلق جميع الرأس أو تقصير جميعه، ولا يلزمه في التقصير تتبع كل شعره ...».
وقال العلامة ابن مفلح في الفروع، ٦/ ٥٤: «وإن قصر فمن جميه نصَّ عليه، قال شيخنا [يعني ابن تيمية] لا من كل شعرة بعينها».
القول الثاني: يكفي حلق ربع الرأس أو تقصير ربعه بقدر الأنملة، وبه قال أبو حنيفة [أضواء البيان، ٥/ ٥٨٩].
القول الثالث: يكفي في الحلق والتقصير ثلاث شعرات فصاعدًا؛ لأن ذلك يصدق عليه أنه حلق، أو قصر؛ لأن الثلاث جمع، وبه قال الإمام الشافعي وأصحابه. [أضواء البيان،
٥/ ٥٨٩]. وذكر ابن مفلح في كتابه الفروع عن الإمام أحمد رواية ٦/ ٥٤، بقوله بعد أن ذكر وجوب حلق الجميع أو تقصيره قال: «وعنه أو بعضه، فيجزئ ما نزل عن رأسه».
قال العلامة الشنقيطي ﵀ في أضواء البيان، ٥/ ٥٨٩: «وأظهر الأقوال عندي أنه يلزم حلق جميع الرأس، أو تقصير جميعه، ولا يلزم تتبع كل شعره في التقصير؛ لأن فيه مشقة كبيرة، بل يكفي تقصير جميع جوانب الرأس مجموعة أو مفرقة، وأنه لا يكفي الربع ولا ثلاث شعرات خلافًا للحنفية، والشافعية؛ لأن الله تعالى يقول: «مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ»، ولم يقل بعض رؤوسكم «وَمُقَصِّرِينَ» أي رؤوسكم؛ لدلالة ما ذكر قبله عليه، وظاهره حلق الجميع أو تقصيره، ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه؛ .. ولأن النبي ﷺ لما حلق في حجة الوداع حلق جميع رأسه ..» [مسلم، برقم ١٣٠٥، من حديث أنس ﵁، وروى البخاري عن ابن عمر ﵄: «حلق رسول الله في حجته» [البخاري، برقم ١٧٢٦]، ولا شك أن حلق بعض الرأس دون بعض قد نهى عنه رسول الله ﷺ، فإنه قد نهى عن القزع [البخاري، برقم ٥٩٢٠، ٥٩٢١، ومسلم، برقم ٢١٢٠]، [انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، ٧/ ٣٥٣، وفتح الباري لابن حجر، ١١/ ٥٥٨، وحاشية الروض المربع، ١/ ١٦٢]، وقد قال النبي ﷺ: «احلقوه كله أو اتركوه كله» [النسائي، برقم ٥٠٦٣، وصححه الألباني في صحيح النسائي، ٣/ ٣٥٩].
المسألة الرابعة: الحلق أفضل من التقصير بالنسبة للرجال، أما النساء فليس عليهن حلق، وإنما عليهن التقصير، فيجب على المرأة في الحج أو العمرة أن تقصِّر من جميع رأسها قدر الأنملة؛ لأنه يصدق عليه أنه تقصير، من غير منافاة لظاهر النصوص؛ ولأن شعر المرأة من جمالها؛ لحديث ابن عباس ﵄، قال: قال رسول الله ﷺ: «ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير» [أبو داود، برقم ١٩٨٤،١٩٨٥،وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود،١/ ٥٥٥].
المسألة الخامسة: حكم حلق المرأة رأسها: لا يجوز لخمسة أمور على النحو التالي:
١ - الإجماع على عدم حلقهن في الحج، قال ابن المنذر في الإجماع، ص ٧٥: «وأجمعوا أن ليس على النساء حلق».
٢ - أحاديث جاءت بنهي النساء عن الحلق، عن علي، وعثمان، وعائشة، وهي يعضد بعضها بعضًا [أضواء البيان، ٥/ ٥٩٥ - ٥٩٧].
٣ - أنه ليس من عمل نساء الصحابة ومن بعدهم، وفي الحديث: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» [البخاري، برقم ٢٦٩٧، ومسلم، واللفظ لمسلم، برقم ١٧١٨].
٤ - حلق النساء تشبه بالرجال وهو حرام «لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال» [البخاري، برقم ٥٨٨٥].
٥ - حلق النساء مثلة، والمثلة لا تجوز؛ لأن شعر رأس المرأة من أحسن أنواع جمالها، وحلقه تقبيح لها، وتشويه لخلقها [أضواء البيان ٥/ ٥٩٧، قال الشنقيطي في الأضواء، ٥/ ٥٩٨: «وبهذا تعلم أن العرف الذي صار جاريًا في كثير من البلاد بقطع المرأة شعر رأسها إلى قرب أصوله سنة إفرنجية مخالفة لما كان عليه نساء المسلمين، ونساء العرب قبل الإسلام، ومن جملة الانحرافات التي عمت البلوى بها في الدين والخلق، والسمت ...».
وأما ما جاء عن أزواج النبي ﷺ من ذلك، فأما ميمونة على تقدير صحة حلقها فالحلق لضرورة المرض، لتمكين آلة الحجم من الرأس، وأما حديث مسلم «وكان أزواج النبي ﷺ يأخذن من رؤوسهن حتى يكون كالوفرة»، والوفرة ما جاوز شحمة الأذنين على قول ابن سيده، فتقصير أزواج النبي ﷺ رؤوسهن بعد وفاته ﷺ؛ لأنهن كن يتجملن له في حياته، ومن أجمل زينتهن شعرهن، أما بعد وفاته فلهن حكم خاص بهن لا تشاركهن فيه امرأة من نساء جميع أهل الأرض، وهو انقطاع أملهن انقطاعًا كليًا من التزويج، ويأسهن منه اليأس الذي لا يمكن أن يخالطه طمع. انظر التفصيل في [أضواء البيان، ٥/ ٥٩٩ – ٦٠١].
1 / 16
فإذا تحلل التحلل الأول: استحب له أن يتطيب؛ لقول عائشة ﵂: «كنت أطيب رسول الله ﷺ لإحرامه حين يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» (١).
ويستحب له أن يتنظف ويلبس أحسن ثيابه.
ثم يطوف طواف الإفاضة، ويسعى إن كان عليه سعيٌ.
ثم يرجع الحاج إلى منى بعد طواف الإفاضة والسعي ممن عليه سعيٌ، فيبيت بها ليلة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، إن أراد التأخر.
_________
(١) متفق عليه: البخاري، برقم ١٥٣٩، ومسلم، برقم ١١٨٩، وتقدم تخريجه في الإحرام.
1 / 23
المبحث الرابع: رمي الجمرات أيام التشريق وآدابه
أولًا: الرمي أيام التشريق واجب من واجبات الحج عند جماهير العلماء، للأدلة الآتية:
الدليل الأول: حديث جابر ﵁ - قال: «رأيت النبي ﷺ يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: «لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه» (١).
الدليل الثاني: رمي النبي ﷺ في أيام التشريق الجمار الثلاث بعد الزوال، وقد قال: «خذوا عني مناسككم لعلِّي لا أراكم بعد عامي هذا» (٢).
الدليل الثالث: أمر الله تعالى بذكره في أيام التشريق، فقال ﷿: ﴿وَاذْكُرُوا الله فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ (٣)،فالحجاج مأمورون بذكر الله في منى، وليس في منى ذكر ينفرد به الحج إلا ذكر الجمار؛ لحديث عائشة ﵂، ترفعه: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» (٤).
_________
(١) مسلم، برقم ١٢١٨، وتقدم تخريجه.
(٢) البيهقي في السنن الكبرى، ٥/ ١٢٥.
(٣) البقرة، الآية: ٢٠٣.
(٤) أحمد، برقم ٢٤٥١، ٤٠/ ٤٠٨، ورقم ٢٤٢٦٨، ورقم ٢٥٠٨٠، وأبو داود، برقم ١٨٨٨، والترمذي، برقم ٩٠٢، وابن خزيمة، ٤/ ٢٢٢، برقم ٢٧٣٨، وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح»، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود، ص١٤٨، وحسن إسناده الأرنؤوط في تحقيقه لجامع الأصول، ٣/ ٢١٨، وقال الأعظمي في تحقيقه لصحيح ابن خزيمة، ٤/ ٢٢٢: «إسناده صحيح»، وتقدم تخريجه في واجبات الحج.
1 / 24
قال العلامة الشنقيطي ﵀: «اعلم أن الرمي في أيام التشريق واجب يجبر بدم عند جماهير العلماء، على اختلافٍ بينهم في تعدد الدماء فيه، وعدم تعددها، ولا خلاف بينهم أنه ليس بركن؛ لأن الحج يتمّ قبله، ويتحلّل صاحبه التحلّل الأصغر، والأكبر، فيحلُّ له كل شيء حرم عليه بالإحرام، فحجّه تام إجماعًا قبل رمي أيام التشريق، ولكن رميها واجب يجبر بدم، لأن النبي ﷺ رماها، وقال: «لتأخذوا عني مناسككم» (١) (٢).
وكان شيخنا ﵀ يفتي كثيرًا: أن من ترك رميَ الجمار فعليه دم؛ لأنه ترك واجبًا من واجبات الحج يجبر بدم لفقراء الحرم بمكة (٣) (٤).
_________
(١) مسلم بنحوه، برقم ١٢١٨.
(٢) وقد ذكر العلماء شروطًا لصحة الرمي منها الشروط الآتية:
الشرط الأول: أن يكون المرمي به حصى؛ لقول الرسول ﷺ، وفعله.
الشرط الثاني: أن يكون الرمي مقصودًا بفعله، فلو رمى في الهواء لا يقصد رمي الجمرة فوقعت الحصاة في المرمى لم يجزه؛ لأنه لم يقصده، ولو رمى إنسانًا فوقعت الحصاة في ثوبه فنفضها فوصلت إلى المرمى لم تجزه، فلا بد من نية مطلق الرمي لقوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات».
الشرط الثالث: وقوع الحصى في المرمى في الحوض في مجتمع الحصى.
الشرط الرابع: غلبة الظن أو العلم بوقوع الحصى في المرمى.
الشرط الخامس: تفريق الرميات، فلو رماها دفعة واحدة لا تجزئ، وتعتبر واحدة فقط.
الشرط السادس: ترتيب رمي الجمرات، فيبدأ بالصغرى، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، لفعل النبي ﷺ وقوله: «لتأخذوا عني مناسككم» انظر: كتاب رمي الجمرات وما يتعلق به من أحكام، للدكتور شرف بن علي الشريف، ص ٦١ - ٧٢.
(٣) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، ١٦/ ١٧٣، ١٧/ ٣٦٩، ٣٧٩، ٢٣/ ٤٦٠.
(٤) قال الحافظ بن حجر في الفتح، ٣/ ٥٧٩ في حكم رمي الجمار أيام التشريق: «وقد اختلف فيه: فالجمهور على أنه واجب يجبر تركه بدم، وعند المالكية سنة مؤكدة، فيجبر، وعندهم رواية: أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه ...».
وقال العلامة الشنقيطي، في أضواء البيان، ٥/ ٢٩٣: «اعلم أن الرمي في أيام التشريق واجب يجبر بدم عند جماهير العلماء على اختلاف بينهم في تعدد الدماء ...».
1 / 25
ثانيًا: وقت الرمي أيام التشريق: أوله وآخره على النحو الآتي:
١ - أول وقت الرمي أيام التشريق: بعد الزوال، ومن رمى قبل الزوال فلا يصح رميه، بل رميه باطل، وتجب عليه الإعادة في أيام التشريق بعد الزوال، فإن انتهت أيام التشريق ولم يعد، فإنه يجب عليه دم، لجبر هذا النقص، للأدلة الآتية:
الدليل الأول: رمى النبي ﷺ بعد الزوال، قال جابر ﵁: «رمى النبي ﷺ يوم النحر ضُحىً، ورمى بعد ذلك بعد الزوال»، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: «رمى رسول الله ﷺ الجمرة يوم النحر ضُحىً، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس» (١).
فهذا فعل النبي ﷺ، وهو قدوتنا وأسوتنا، وقد قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا﴾ (٢).
قال الإمام النووي ﵀ في شرحه لحديث جابر: «المراد بيوم النحر
_________
(١) البخاري معلقا مجزومًا به، كتاب الحج، باب رمي الجمار، قبل الحديث رقم ١٧٤٦، وأخرجه مسلم موصولًا في كتاب الحج، باب بيان وقت استحباب الرمي، برقم ١٢٩٩.
(٢) سورة الأحزاب، الآية: ٢١.
1 / 26
جمرة العقبة؛ فإنه لا يشرع فيه غيرها بالإجماع، وأما أيام التشريق الثلاثة فيرمي كل يوم منها بعد الزوال، وهذا المذكور في جمرة يوم النحر سنة باتفاقهم، وعندنا يجوز تقديمهُ من نصف ليلة النحر، وأما أيام التشريق فمذهبنا، ومذهب مالك، وأحمد، وجماهير العلماء أنه لا يجوز الرمي في الأيام الثلاثة إلا بعد الزوال؛ لهذا الحديث الصحيح ...» (١).
الدليل الثاني: أمرنا النبي ﷺ أن نأخذ عنه مناسك الحج، فنعمل كما عمل ﷺ،فعن جابر ﵁،قال: رأيت النبي ﷺ يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: «لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلِّي لا أحجّ بعد حجَّتي هذه» هذا لفظ مسلم، ولفظ البيهقي: «خذوا عني مناسككم لعلّي لا أراكم بعد عامي هذا»،ولفظ النسائي قال جابر: رأيت رسول الله ﷺ يرمي الجمرة وهو على بعيره، وهو يقول: «يا أيها الناس خذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلّي لا أحج بعد عامي هذا» (٢)،ولفظ ابن ماجه: «... لتأخذ أمتي نسكها
_________
(١) وتمام كلام النووي، ٩/ ٥٣: «... وقال طاوس، وعطاء: يجزئه في الأيام الثلاثة قبل الزوال، وقال أبو حنيفة، وإسحاق بن راهويه، يجوز في اليوم الثالث قبل الزوال، دليلنا: أنه ﷺ رمى كما ذكرنا، وقال: «لتأخذوا مناسككم»، واعلم أن رمي جمار أيام التشريق يشترط فيه الترتيب، وهو أن يبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة ...» [شرح النووي، ٩/ ٥٤]، وقال الحافظ ابن حجر، في الفتح، ٣/ ٥٨٠: «وفيه دليل على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال، وبه قال الجمهور، وخالف فيه عطاء وطاوس فقالا: يجوز قبل الزوال مطلقًا، ورخص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال، وقال إسحاق إن رمى قبل الزوال أعاد إلا في اليوم الثالث فيجزئه».
(٢) مسلم، برقم ١٢٩٧، والبيهقي، ٥/ ١٢٥، والنسائي، برقم ٣٠٦٢.
1 / 27
فإني لا أدري لعلي لا ألقاها بعد عامي هذا» (١).
قال الإمام النووي ﵀: «لتأخذوا مناسككم ...» فهذه اللام لام الأمر، ومعناه خذوا مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي: من الأقوال، والأفعال، والهيئات، هي أمور الحج وصفته، وهي مناسككم، فخذوها عني، واقبلوها، واحفظوها، واعملوا بها، وعلِّموها الناس، وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج، وهو نحو قوله ﷺ في الصلاة: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (٢)، وقوله ﷺ: «لعلي لا أحج بعد حجتي هذه» فيه إشارة إلى توديعهم، وإعلامهم بقرب وفاته ﷺ، وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلم أمور الدين، وبهذا سميت حجة الوداع، والله أعلم» (٣).
الدليل الثالث: حديث ابن عباس ﵄، قال: «كان رسول الله ﷺ يرمي الجمار إذا زالت الشمس» (٤).
الدليل الرابع: حديث عائشة ﵂ حين ذكرت أن النبي ﷺ طاف طواف الإفاضة، قالت: «... ثم رجع إلى منى فمكث بها لياليَ أيام
_________
(١) ابن ماجه، كتاب المناسك، باب الوقوف بجمع، برقم ٣٠٢٣، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، ٣/ ٤٧.
(٢) البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة وكذلك بعرفة، برقم ٧٨٥.
(٣) شرح النووي على صحيح مسلم، ٩/ ٥٠.
(٤) الترمذي، كتاب الحج باب ما جاء في الرمي بعد الزوال، برقم ٨٩٨، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، ١/ ٤٦٣.
1 / 28
التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبِّر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى، والثانية فيطيل القيام، ويتضرّع، ويرمي الثالثة، ولا يقف عندها» (١).
الدليل الخامس: حديث ابن عمر ﵄، فعن وبَرَة قال: «سألت ابن عمر ﵄، متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه، فأعدتُ عليه المسألة، قال: كُنَّا نتحَيَّن (٢) فإذا زالت الشمس رمينا» (٣).
قال الحافظ ابن حجر ﵀: «قوله: «متى أرمي الجمار؟» يعني في غير يوم الأضحى، قوله: «إذا رمى إمامك فارمه» يعني الأمير الذي على الحج، وكأن ابن عمر خاف عليه أن يخالف الأمير فيحصل له منه ضرر، فلما أعاد عليه المسألة لم يسعه الكتمان فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النبي ﷺ، وقد رواه ابن عيينة عن مسعر بهذا الإسناد فقال فيه: «فقلت له: أرأيت إن أخَّر إمامي» أي الرمي، فذكر الحديث» (٤)، وهذا دليل على أن أصحاب النبي ﷺ كانوا ينتظرون ويترقَّبون زوال الشمس فلا يرمون قبله، ولو كان الرمي جائزًا قبله لم ينتظروا (٥).
الدليل السادس: حديث عبد الله بن عمر ﵄، فعن نافع: أن عبد الله
_________
(١) أبو داود، كتاب المناسك، باب في رمي الجمار، برقم ١٩٧٣، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ١/ ٥٥٢.
(٢) كنا نتحيّن: أي نطلب الحين: وهو الوقت.
(٣) البخاري، كتاب الحج، باب رمي الجمار، برقم ١٧٤٦.
(٤) فتح الباري لابن حجر، ٣/ ٥٨٠.
(٥) رمي الجمرات، للدكتور شرف الشريف، ص٩١.
1 / 29
بن عمر كان يقول: «لا تُرمى الجمار في الأيام الثلاثة حتى تزول الشمس» (١).
الدليل السابع: حديث عمر بن الخطاب ﵁ -، أنه قال: «لا تُرمى الجمرة حتى يميل النهار» (٢).
الدليل الثامن: حديث عائشة ﵂ عن النبي ﷺ أنه قال: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» (٣)، وهذا يدلّ على أن جميع العبادات توقيفية لا يقبل منها إلا ما كان مشروعًا، أو أقره الشرع المطهر (٤).
الدليل التاسع: أن الرمي لو كان قبل الزوال في أيام التشريق جائزًا، لفعله النبي ﷺ -؛ فيه من فعل العبادة في أول وقتها؛ ولما فيه من تطويل الوقت حتى يتسع وقت الدعاء عند الجمرة الأولى والوسطى؛ لأن ابن مسعود ذكر عن النبي ﷺ أنه دعا بمقدار قراءة سورة البقرة (٥).
الدليل العاشر: أن الرمي لو كان قبل الزوال جائزًا؛ لبادر إليه الرسول ﷺ -؛لما فيه من التَّيسير على أمته، وقد كان ﷺ يأمر أمته بالتيسير، فيقول: «يسِّروا ولا تُعسِّروا» (٦).
_________
(١) موطأ الإمام مالك، كتاب الحج، باب رمي الجمار، ١/ ٤٠٨،برقم ٢١٧، والبيهقي في السنن، ٥/ ١٤٩.
(٢) البيهقي في السنن الكبرى، ٥/ ١٤٩.
(٣) متفق عليه: البخاري، برقم ٢٦٩٧، ومسلم، برقم ١٧١٨، وهذا لفظ مسلم، أما لفظ البخاري فهو: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وتقدم تخريجه.
(٤) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، ١٦/ ١٤٤.
(٥) الشرح الممتع لابن عثيمين، ٧/ ٣٨٤.
(٦) متفق عليه: البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي ﷺ يتخولهم بالموعظة، برقم ٦٧، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير، برقم ١٧٣٤.
1 / 30
و«ما خُيِّر رسول الله ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا» (١).
وقد كان يقول: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به» (٢).
ومعلوم يقينًا أن الحرّ كان شديدًا جدًا في عام حجة الوداع حتى في وقت الضُّحى بعد ارتفاع الشمس، والدليل على ذلك حديث أم الحصين ﵂، قالت: «حججت مع رسول الله ﷺ حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة: أحدهما يقود راحلته والآخر رافعٌ ثوبه على رأس رسول الله ﷺ من الشمس ...» وفي لفظ: «... والآخر رافع ثوبه يستره من الحرِّ حتى رمى جمرة العقبة» (٣)، وحديث جابر ﵁،وفيه: «أنه ﷺ نزل في القبة التي ضُرِبَتْ له بِنَمِرة حتى زالت الشمس ...» (٤).
وهذا يدل على شدّة الحرِّ في أول النهار، ومعلوم عند جميع الناس أن وقت زوال الشمس وبعده بقليل يكون أشدَّ حرًّا من أول النهار، وقد بيَّن النبي ﷺ أن الحكمة من النهي عن الصلاة حتى تزول الشمس هو: أن جهنم حينئذٍ تُسْجَرُ (٥)، وبعد الزوال يكون الحرُّ في الغالب قد اشتدَّ
_________
(١) متفق عليه: البخاري، كتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله، برقم٦٤٠٤، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في التجاوز في الأمر، برقم ٢٣٢٧.
(٢) مسلم، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم، برقم ١٨٢٨.
(٣) مسلم برقم، ١٢٩٨، وتقدم تخريجه في محظورات الإحرام.
(٤) مسلم، برقم ١٢١٨، وتقدم تخريجه
(٥) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، بَاب إِسْلَامِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، برقم ٨٣٢.
1 / 31
على الأرض، وقد أمر ﷺ بالإبراد بصلاة الظهر، في شدّة الحرِّ (١).
فلما كان الرسول ﷺ يتعمَّد أن يؤخِّر الرمي حتى تزول الشمس مع أنه أشقُّ على الناس دلَّ هذا على أن الرمي قبل الزوال في أيام التشريق لا يجوز ولا يجزئ (٢).
الدليل الحادي عشر: أن الرسول ﷺ بادر بالرمي حين زالت الشمس، فرمى قبل أن يصلّي الظهر، وكأنه ﷺ يترقَّب زوال الشمس ليرمي ثم ليصلِّي الظهر، ولو كان الرمي جائزًا قبل الزوال لفعله ﷺ ولو مرة واحدة بيانًا للجواز، أو فعله بعض الصحابة، وأقرَّه النبي ﷺ (٣).
حتى في اليوم الثالث عشر يوم النفر لم يرمِ إلا بعد الزوال، وهو يريد أن يصلّي بالمحصب «الأبطح» صلاة الظهر، وهذا يدل دلالة قاطعة أنه لو كان جائزًا لعجّل الرمي قبل الزوال، والله تعالى المستعان.
الدليل الثاني عشر: عمل جميع الصحابة بلا استثناء في حياة النبي ﷺ وبعد مماته، فكلّهم يرمون في حجهم في أيام التشريق بعد الزوال، وقد حج مع النبي ﷺ من المدينة خلق كثير، بلغ عددهم كما ذكر العلماء: مائة وثلاثين ألفًا (٤).
وقد بيّن جابر بن عبد الله ﵄ في صفة حجة الوداع، أن
_________
(١) متفق عليه، البخاري، مواقيت الصلاة، بَاب الإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، برقم ٥٠٢، مسلم، المساجد ومواضع الصلاة، بَاب اسْتِحْبَابِ الْإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ لِمَنْ يَمْضِي إِلَى جَمَاعَةٍ وَيَنَالُهُ الْحَرُّ فِي طَرِيقِهِ، برقم ١٤٣٠.
(٢) الشرح الممتع، لابن عثيمين، ٧/ ٣٨٤.
(٣) المرجع السابق، ٧/ ٣٨٥.
(٤) انظر: فتح الملك المعبود في شرح سنن أبي داود، ٢/ ١٠٥.
1 / 32