Rahman da Shaytan
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
Nau'ikan
وأخيرا، فقد أدرك مؤلفو أسفار الأنبياء هذا المأزق الأخلاقي للتوراة مثلما أدركوا المأزق التوحيدي، فحاولوا إنقاذ ما تبقى من القيم الأخلاقية التوراتية، عندما راحوا يؤكدون على السلوك الأخلاقي في مقابل الطقوس. نقرأ في سفر إشعيا: «لماذا لي كثرة ذبائحكم، يقول الرب: اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات ... البخور هو مكرهة لي، رأس الشهر والسبت ونداء المحفل. لست أطيق الإثم والاعتكاف، رءوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي، صارت علي ثقلا مللت حملها، فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم، وإن كثرتم الصلاة لا أسمع. أيديكم ملآنة دما. اغتسلوا تنقوا اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني» (1: 11-17). وأيضا: «من يذبح ثورا فهو قاتل إنسان، من يذبح شاة هو ناحر كلب، من يصعد تقدمة يصعد دم خنزير. من أحرق بخورا فهو مبارك وثنا. بل هم اختاروا طرقهم وبمحرقاتهم سرت أنفسهم» (66: 3). ويسير عاموس على النهج نفسه في إعلاء الأخلاق فوق الطقوس: «اطلبوا الخير لا الشر لكي تحيوا ... بغضت، كرهت أعيادكم ولست ألتذ باعتكافاتكم. إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرضى، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع. وليجر الحق كالمياه، والبر كنهر دائم» (5: 14، 21-24). أما حزقيال فيصحح سلوك إله التوراة الذي كان يفتقد ذنوب الآباء في الأبناء، عندما يقول على لسان إلهه: «ما لكم أنتم تضربون هذا المثل في إسرائيل قائلين الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأبناء ضرست. حي أنا، يقول الرب: لا يكون لكم من بعد أن تضربوا هذا المثل في إسرائيل ... النفس التي تخطئ هي التي تموت ... الابن لا يحمل من إثم الأب» (18: 2-4، 20).
ولكن هذه النداءات الواهية المتفرقة في أسفار الأنبياء، لم تكن كافية لحل إشكالية الأخلاق التي بقيت قائمة، مثلها مثل إشكالية التوحيد، حتى اختتام تدوين الأسفار القانونية. (3) الشيطان الحاضر الغائب
إن عدم توصل الأيديولوجيا التوراتية إلى صياغة معتقد واضح متسق حول وحدانية الإله وأخلاقيته، وتقصيرها عن بلوغ مفهوم الكمال والخير المطلق في شخصية ذلك الإله، الذي بقي يتصرف حتى النهاية كزعيم قبلي مدفوع بردود أفعاله الآنية وبعواطفه الفطرية مثل الغضب والغيرة، قد دفع بالشيطان إلى دائرة الظل عبر أحداث الرواية التوراتية. فإله التوراة هو صانع الخير وصانع الشر في آن معا، وها هو النبي إشعيا يقدم لنا ما يمكن اعتباره خلاصة تجربة شعب التوراة مع إلهه: «أنا الرب وليس آخر. مصور النور وخالق الظلمة. صانع السلام وخالق الشر. أنا صانع كل هذا» (45: 76). ونقرأ في سفر يشوع بن سيراخ: «الخير والشر، الحياة والموت، الفقر والغنى من عند الرب ... الظلال والظلمة خلقا مع الخطأة» (11: 14-16). وأيضا: «أنا، أنا هو الرب وليس إله معي. أنا أميت وأحيي. سحقت وإني أشفي، وليس من يدي مخلص. إني أرفع يدي إلى السماء وأقول: حي أنا إلى الأبد. سللت سيفي البارق وأمسكت بالقضاء يدي، أرد نقمة على أضدادي وأجازي مبغضي. أسكر سهامي بدم ويأكل سيفي لحما بدم القتلى والسبايا ومن رءوس قوات العدو» (التثنية، 32: 39-42). وبذلك يتم دمج الإله والشيطان في شخصية واحدة هي شخصية يهوه الذي نراه يلعب الدورين ببراعة، رغم أن العناصر الشيطانية في شخصيته تطغى على العناصر الإلهية. فأي إله هذا الذي تسكر سهامه بالدم ويأكل سيفه اللحم مغمسا بدم القتلى والسبايا ورءوس قوات العدو؟ وأي إله هذا الذي يشبهه مقطع آخر بالعملاق الذي تعتعه السكر فراح يضرب ذات اليمين وذات الشمال: «ثم استيقظ الرب كنائم، ومثل الجبار الذي رانت عليه الخمر، فضرب أعداءه إلى الوراء، جعلهم عارا أبديا» (المزمور 78: 65-66). وأي إله هذا الذي يخرج من أنفه دخان ومن فمه نار آكلة: «ارتجت الأرض وارتعشت. أسس الجبال ارتعدت وارتجت لأنه غضب، صعد دخان من أنفه ونار من فمه أكلت، جمر اشتعلت منه» (المزمور 18: 7-8). وأي إله هذا الذي يحف به كلما خرج شيطان الوبأ وشيطان الحمى: «قدامه ذهب الوبأ وعند رجليه خرجت الحمى ... وقف وقاس الأرض، انظر، فرجف الأمم» (حبقوق 3: 4-6).
ومع ذلك فإن الشيطان لم يكن غائبا تماما رغم ضآلة دوره وقلة حيلته، وهو يظهر شريكا ليهوه أحيانا وتابعا له في أحيان أخرى ينفذ مهاما معينة. ففي الأسفار الخمسة يدعى عزازيل، ويبدو أشبه بالجن التي تسكن البوادي والقفار، وهو يقتسم قربان الخطيئة مع يهوه. نقرأ في سفر اللاويين: «ويأخذ هارون التيسين ويوقفهما أمام الرب لدى باب خيمة الاجتماع، ويلقي على التيسين قرعتين قرعة للرب وقرعة لعزازيل، ويقرب هارون التيس الذي خرجت عليه القرعة للرب ويعمله ذبيحة خطيئة، وأما التيس الذي خرجت عليه القرعة لعزازيل يوقف حيا أمام الرب ليفكر عنه ليرسله إلى عزازيل في البرية» (اللاويين، 16: 5-10). ونجده في سفر القضاة وما تلاه تحت اسم بليعال، والذي يعني بالعبرية الشرير عديم الفائدة. نقرأ في سفر القضاة عن سبط بنيامين الذي كان رجاله لوطيين يصطادون الغرباء ويعتدون عليهم: «وفيما هم يطيبون قلوبهم إذا برجال المدينة رجال بني بليعال أحاطوا بالبيت قارعين الباب، وكلموا الرجل صاحب البيت الشيخ، قائلين: أخرج الرجل الذي دخل بيتك فنعرفه
5
فخرج إليهم الرجل صاحب البيت وقال لهم: لا يا إخوتي لا تفعلوا شرا بعدما دخل هذا الرجل بيتي لا تفعلوا هذه القباحة» (19: 22-23). ونجد هنا نموذجا عن أخلاق عامة الناس في الرواية التوراتية، مما لم نتعرض له عندما عرضنا لسلوك الشخصيات الرئيسية في الرواية. هذا ويرد الاسم بليعال في عدة مواضع أخرى في الإشارة إلى الشيطان، ففي سفر الملوك الأول يغتصب الملك آخاب كرما للمدعو نابوت اليزرعيلي ويلفق له تهمة تودي بحياته، ثم يأتي بشهود زور من بني بليعال (الملوك الأول 21). وقد استخدم مؤلفو العهد الجديد الاسم بليعال للدلالة على الشيطان. يقول بولس الرسول: «وأية شركة للنور مع الظلام، وأي اتفاق للمسيح مع بليعال» (كورنثة الثانية، 6: 14-15). كما استخدمت الأسفار غير القانونية الاسم أيضا ومنها نصوص قمران، كما سنرى في الفصل القادم.
وقد يشير المحرر التوراتي إلى الشيطان دون ذكر اسمه صراحة، فهو «المهلك» الذي يرسله يهوه في مهمات القتل والدمار، نراه في صحبته عندما مر على بيوت المصريين ليضربهم في سفر الخروج، وذلك بعد أن أمر العبرانيين بوضع شارة مرسومة بالدم على أبوابهم لكي يميزهم عن المصريين: «إن الرب يجتاز ليضرب المصريين، فحين يرى الدم على العتبة العليا والقائمتين يعبر الرب عن الباب ولا يدع المهلك يدخل بيوتهم ليضرب» (12: 23). ويقول إشعيا بأن يهوه قد خلق المهلك لمهام الخراب والتدمير: «وأنا خلقت المهلك ليخرب» (54: 16). وبه يهدد النبي إرميا أهل يهوذا وأورشليم: «قد صعد الأسد من غابته، وزحف مهلك الأمم، خرج من مكانه ليجعل أرضك خرابا. تخرب مدنك فلا ساكن» (4: 7). والنبي ناحوم يعد الشعب بكف أذى المهلك: «هو ذا على الجبال مبشر مناد بالسلام، عيدي أعيادك يا يهوذا، أوفي نذورك، فإنه لا يعود يعبر فيك أيضا المهلك. قد انقرض كله» (1: 15).
وهو الروح الرديء الذي يرسله يهوه فيتلبس من يخطئ أمامه، وقد أرسل مثل هذا الروح فحل في جسد شاؤل : «وذهب روح الرب من عند شاؤل وبغته روح رديء من قبل الرب» صموئيل الأول (16: 14). «وكان في الغد أن الروح الرديء من قبل الرب اقتحم شاؤل وجن في وسط البيت» (18: 10). وهذا يعني وجود صلة شراكة بين يهوه والشياطين التي تعمل تحت إمرته. وكان يسوع فيما بعد يخرج مثل هذه الأرواح الرديئة من أجسام المجانين فيشفون، وهم يدعون العهد الجديد بالأرواح النجسة والأرواح الشريرة والشياطين.
وهو الوباء والحمى اللذان يسيران أمام إله الغضب: «جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان له لمعان كالنور، قدامه ذهب الوبا، وتحت رجليه خرجت الحمى ... بغضب خطرت في الأرض، بسخط دست الأمم» (حبقوق، 3: 3-12)، وفي سفر طوبيا يدعى إزموداس (طوبيا، 3: 8) مثلما يدعى أيضا بالشيطان (طوبيا، 6: 8 و8: 2-3). وعندما يذكر بالاسم «الشيطان» (وهو بالعبرية شطن، ويعني المقاوم والمعاند) نجده واحدا من بطانة يهوه الخاصة والمقربة، مكلفا بأداء مهام شريرة يوكلها إليه الرب، كما نجد أن الاثنين متفقان أحيانا ومختلفان في أحيان أخرى. ففي المزمور 109 نجد كاتب المزمور يدعو ربه لكي يقيم من عنده شيطانا على خصمه يفسد عليه حياته: «فأقم عليه شريرا، وليقف شيطان عن يمينه، إذا حوكم فيخرج مذنبا، وصلاته فلتكن خطيئة. ليكن بنوه أيتاما وامرأته أرملة» (6-9). وفي سفر زكريا ينتهر الرب الشيطان لأنه وقف عن يمين الكاهن يهوشع ليقاومه: وأراني الملاك الكاهن العظيم يهوشع قائما قدام الرب، والشيطان قائم عن يمينه ليقاومه. فقال الرب للشيطان: لينتهرك الرب يا شيطان، لينتهرك الرب الذي اختار أورشليم (3: 1-2).
في سفر أيوب نجد أن يهوه والشيطان متفقان تماما بخصوص النيل من العبد الصالح أيوب، وهما يعقدان رهانا فيما بينهما بشأنه. وهنا تتضح لنا بجلاء شخصية الشيطان في التوراة ومكانته ومهامه، فهو ملاك أسود موكل من قبل يهوه بأمر الشر، ويجول مع بقية الملائكة في الأرض يستقي أخبارها ويرفع تقاريره إلى معلمه، وهو رغم تبعيته الظاهرية إلا أنه قادر على خداع سيده، ودفعه لاتخاذ قرارات غير صائبة بناء على معلومات كاذبة يقدمها إليه. وإليكم القصة نسوقها مع بعض التفصيل نظرا لأهميتها في الكشف عن الجوانب الشيطانية في شخصية يهوه.
Shafi da ba'a sani ba