Rahman da Shaytan
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
Nau'ikan
الطقوس والعبادات
كانت الديانة الأصلية التي أسس لها زرادشت ديانة بسيطة لا تعتمد إلا القليل من الطقوس والشكليات الدينية، وفيما عدا الأساطير القليلة الأساسية المتعلقة بنشأة عالم الخير وعالم الشر، وتلك المتعلقة بالمخلص ونهاية الزمن لم يكن للميثولوجيا دور في المعتقد الزرادشتي، وحتى هذه الموضوعات الأسطورية الأساسية لم تعالج في أناشيد الغاثا بأسلوب القص الميثولوجي، وإنما بالإشارات الموجزة والصور الشعرية البالغة التأثير، الأمر الذي ترك شخصياتها أقرب إلى المفاهيم المجردة منها إلى الشخصيات المجسدة.
دعا زرادشت المؤمنين إلى خمس صلوات في اليوم، تقام عند الفجر والظهيرة والعصر والمغرب ومنتصف الليل، وتتخذ صلاتا الظهيرة ومنتصف الليل أهمية خاصة، لأن منتصف النهار هو الوقت الذي تكون فيه قوى النور في ذروة سيطرتها على العالم، الذي يشبه عندها ما كان عليه في كمال البدايات. أما منتصف الليل فهو الوقت الذي تكون فيه قوى الظلام في ذروة فعالياتها، فيقوم المؤمنون لإيقاد النار دعما لقوى النور ولترتيل الصلوات. وتسبق الصلاة عملية الوضوء التي تتضمن غسل الوجه واليدين والقدمين، بعد ذلك يقف المصلي منتصبا مسبل الذراعين في حضرة أهورا مزدا، ويتلو في صلاته مقاطع خاصة من أناشيد الغاثا، كان زرادشت نفسه يتلوها في صلاته، ولكن بمرور الوقت وغياب لهجة الغاثا القديمة عن الاستخدام اليومي، عمد الكهنة إلى إضافة نشيد طقسي منظوم بلهجة أكثر حداثة يدعى الياسنا، ويتألف من فصول قصيرة تحاكي في بنيتها أسلوب الغاثا. وبينما تكون عينا المصلي مثبتتين على النار المقدسة أمامه، يقوم بحل شاله ويمسك به بكلتا يديه، وفي نهاية الصلاة يقوم المصلي بإعادة الشال إلى وسطه فيلفه ثلاث مرات، ثم يعقده من الأمام ومن الخلف، إشارة إلى عناصر الأخلاق الزرادشتية الثلاثة. وهذا الشال هو الشارة التي يميز بها الزرادشتيون أنفسهم، كما أن حله وإعادة ربطه هو عمل طقسي يرمز إلى تمسك المؤمن بتعاليم النبي وتذكرها على الدوام.
تتجلى بساطة الديانة الأصلية التي بشر بها زرادشت في غياب الهياكل والمعابد والمذابح. فلقد منع زرادشت تشييد المعابد، لأن الله موجود في كل مكان، ويمكن التوجه إليه بالصلاة في أي مكان طاهر، كما منع النبي صنع الصور والمنحوتات لأهورا مزدا ولبقية الكائنات القدسية السماوية، لذا قد خلت المراكز الحضرية للمملكة الأخمينية من المعابد الضخمة التي عرفتها بقية ممالك المنطقة المشرقية، كما سار الملوك الأخمينيون الأوائل على خطى المعلم في تحريمهم للتماثيل والصور، فكانت الصلوات تقام في البيوت أو في أماكن مفرزة للعبادة الهواء في الطلق ومزودة بموقد للنار المقدسة. وقد ذكر المؤرخ الإغريقي هيرودوتس (485-425ق.م.) أن الفرس كانوا يحتقرون المعابد ويرون فيها خطيئة، لأن الله الذي لا تسعه السماوات والأرض لا يسكن في بيت مصنوع بيد الإنسان. ويصف الجغرافي والمؤرخ الإغريقي سترابو (64ق.م.-23م) بقايا معبد أقامه الملك قورش (557-528ق.م.)، فيقول بأنه كان عبارة عن تلة في الهواء الطلق، محاطة بجدار يصعدها المؤمنون للصلاة. ولكن أردشير الثاني (401-359ق.م.)، الذي جاء بعد قورش بنحو قرن ونصف القرن، خرج على هذه التقاليد، وكان أول من بنى المعابد الضخمة على الطريقة البابلية، وصنع صورا للكائنات السماوية، وهذا ما تبينه لنا آثار العاصمة الفارسية القديمة.
استطاع أردشير الثاني استمالة فريق من الكهنة إلى معابده، فراحوا يقودون فيها الصلوات، إلا أن فريقا آخر عارض ذلك ورأى فيه انتهاكا للمعتقدات التقليدية. وقد بدأ الكهنة المعارضون، وبدعم من الجماهير المؤمنة، يردون على هذا الإجراء بإقامة معابد لهم تتصدرها شعلة النار المقدسة بدلا من تماثيل الآلهة، وبذلك ظهرت لأول مرة معابد النار في إيران، وشيئا فشيئا أخذت نار المعبد تكتسب قدسية خاصة بها، بعد أن كانت مجرد رمز للألوهة الخافية، وأخذ أهل الديانات الأخرى يصفون الزرادشتيين بأنهم عبدة النار، ومثل هذا الوصف لم يرد في كتابات المؤرخين الذين تحدثوا عن إجلال الإيرانيين للنار دون أن يصلوا حد القول بعبادتها. لقد قاد نشوء معابد النار إلى إحداث تغييرات عميقة في الديانة الزرادشتية، فبعد البساطة التي ميزت الممارسات الدينية في السابق، انتشرت المعابد الدينية الضخمة والباذخة، ونشأت طبقة جديدة من الكهنة المتفرغين لطقوس النار، التي زادت تعقيدا مع الزمن وبعدا عن بساطة الطقوس الأصلية، وقد عرفت هذه الطبقة من كهنة النار تاريخيا باسم ماجي، وباليونانية ماجوس، وبالعربية مجوس.
طقوس الموت
شغلت طقوس الموت حيزا هاما من الطقوس الزرادشتية بعد عصر النبي، وهي تقوم على نظرة زرادشت إلى الموت على أنه ناتج من نواتج فعاليات الشيطان في العالم. فأجساد الأحياء تنتمي إلى عالم أهورا مزدا، أما جثث الموتى فإلى عالم أنجرا ماينو، فهي خبيثة ونجسة، لا فرق بين جثة إنسان وجيفة حيوان، ولا بين جثة إنسان صالح وجثة إنسان شرير. إن لمس أية جثة هو مصدر للنجاسة، وعلى من احتك بها أن يطهر نفسه بالماء، كما أن أي جزء مقتطع من جسم الحي مثل قصاصات الشعر والأظافر هو جزء ميت، ويجب عدم الاحتكاك به، وبالمثل أيضا فإن نفس الزفير الذي يطلقه الكائن الحي من رئتيه هو هواء ملوث بالموت، على عكس نفس الشهيق الذي يحمل الحياة، لهذا كان كهنة النار يضعون كمامات قماشية على أفواههم عندما يقتربون من الشعلة المقدسة. وجميع الحيوانات التي تتغذى على الجثث، مثل النمل والذباب والكلاب والضباع وما إليها هي حيوانات نجسة يجب قتلها أينما وجدت لأنها وكلاء للشيطان. وقد قاد تابو الموت هذا إلى إفراز جماعة من الاختصاصيين بشئون التخلص من الجثث، وهم الذي يقومون بطقوس الجنازات ويعرفون كيف يطهرون أنفسهم عقبها. أما عن الدفن، فإن صرامة تابو الموت كانت تحظر وضع الموتى على تراب الأرض مباشرة كي لا تلوثه، فكانت الجثة تسجى على مصطبة حجرية في سفح جبل أو في منطقة نائية مهجورة، حيث تترك مكشوفة في العراء حتى تتحلل بتأثير العوامل الطبيعية أو انقضاض الجوارح عليها، وبعد فترة كافية لتحلل الجسد تدفن العظام تحت التراب في انتظار يوم النشور.
قواعد الطهارة
لم تضاه الزرادشتية قبلها ملة في الحفاظ على طهارة الجسم واللبس والمأكل، ويأتي حرص الزرادشتي المبالغ به على النظافة من اعتقاده بأن الفساد والتحلل والعفونة وكل أنواع القذارة هي من عمل أنجرا ماينو. من هنا فإن النظافة والبعد عن الاحتكاك بكل ما هو قذر وملوث شأن يعادل الصلاة والعمل الطيب، لأن في التزام قواعد الطهارة محاربة لقوى الشيطان ووقوفا إلى جانب الرحمن، وبذلك يستطيع الإنسان المساهمة في محاربة الشر الكوني من خلال أدائه لأصغر واجباته اليومية.
لا يمكن سرد قواعد النظافة جميعها التي راكمتها الشريعة الزرادشتية عبر العصور، وإنما يفي بالغرض التعرض لأهمها، وهي المتعلقة بالطعام والماء والنار والدم، فالطعام ينبغي أن يحضر وفق قواعد صارمة تمنع احتكاكه بأي مصدر للقذارة، كما ينبغي أن يؤكل في خشوع مثلما تؤدى الطقوس الدينية، لأن كل مكوناته هي بشكل أو آخر من مخلوقات الله الأخرى. وأما الماء فيجب التأكد من كونه نظيفا وطاهرا، وأنه قد نضح من مصدر غير ملوث قبل استهلاكه في الشرب والطبخ والاغتسال. وفيما يتعلق بالنار المنزلية أو النار الطقسية، فإن وقودها يجب أن يقتصر على القش والعيدان والحطب، وألا يحرق فيها الروث والقمامة وما إليها، وبدلا من حرق فضلات المنازل، فإنها تنقل إلى أماكن بعيدة خاصة، حيث تجري معاملتها بالسوائل الحمضية. ويشكل الدم مصدرا للنجاسة في حال سيلانه من الجسم، لأن هذا السيلان هو شكل من أشكال اختلال الحالة الفيزيولوجية السليمة للكائن الحي، وعرض من أعراض اقتحام قوى المرض والموت، وعلى المتلوث تطهير نفسه بوسائل شتي تختلف باختلاف كمية الدم ومكان الجرح وملابسات الإصابة، كما أن على النساء في فترة الطمث عدم ممارسة الطبخ والأعمال المنزلية، ومراعاة عدد من قواعد الغسل والطهارة.
Shafi da ba'a sani ba