Rahman da Shaytan
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
Nau'ikan
المفهوم الديني للتاريخ
إن ثنائية الفكر الديني والفكر العلماني
1
هي ثنائية حديثة نسبيا، ولا تعود في أصولها إلى ما قبل عصر النهضة الأوروبية، ولعل أفضل طريقة لتعريف أحدهما وفهمه هي مقابلته بالآخر وتوصيف الفروق الجذرية بينهما.
ينظر الفكر الديني إلى الوجود، كونا وطبيعة وحياة، على أنه مؤلف من مستويين: الأول مادي متبد في كل ما حولنا من مظاهر حية وجامدة، والثاني غيبي يقع وراء المادة وتبدياتها المتنوعة. الأول حادث ومتغير وقابل للفناء، والثاني قديم وثابت وأزلي. الأول واقع في إسار الزمن والتاريخ، والثاني يقع وراء الزمن والتاريخ ولكنه يتدخل فيهما ويحقق مقاصده من خلالهما. ويستتبع ذلك أن معنى تاريخ الكون والإنسان يكمن خارج هذا التاريخ لا في جدليته الداخلية الخاصة، لأن هذا التاريخ مسير من قبل قدرة علوية توجهه وفق غايات خبيئة على الأفهام آنا وبادية لها آنا آخر.
أما الفكر العلماني فينظر إلى الوجود، كونا وطبيعة وحياة، في مستوى واحد هو المستوى المادي المتبدي، فالمادة قائمة بذاتها، أزلية بطبيعتها، وتعمل وفق قوانينها الخاصة، وهذه القوانين كانت قادرة منذ البدء على تشكيل الكون والوصول به إلى صورته الحالية، وعلى توليد الحياة التي توجت بالإنسان وبالوعي الإنساني صانع الحضارة. أي إن الفكر العلماني قد أحل قوانين التطور وأفعال الإنسان، باعتبارها محركا للتاريخ، محل مشيئة وأفعال الألوهة، مستبعدا بذلك وجود غائية أو معنى خارج جدلية التاريخ نفسه.
ينطلق الفكر الديني في تصوره للبدايات من اللحظة التي خرجت عندها الألوهة من كمونها وتجلت في الزمان وفي المكان الدنيويين، مبتدئة فعالياتها في الأزمنة الميثولوجية الأولى، أزمنة الخلق والتكوين، عندما أطلقت الزمان ومدت المكان وتواشجت مع تاريخ الكون وتاريخ الإنسان. فهنا تتحول الألوهة من مفهوم نظري إلى مفهوم عملي، وتتجلى في شخصية ذات إرادة وقصد وفعل، وفي إله يعلن عن نفسه في سياق زمني تاريخي، مبتدئا تاريخا مقدسا يشتمل على فعاليات الألوهة ومنعكساتها في العالم وفي المجتمع الإنساني. وهنالك ثلاثة أنماط لصيرورة هذا التاريخ المقدس في الفكر الديني للثقافات العليا: النمط الأول هو التاريخ المفتوح، حيث يسير الزمان من لحظة البدايات نحو مستقبل مفتوح بلا نهاية. والنمط الثاني هو التاريخ الدوري المتناوب حيث يسير الزمان في دارات مغلقة يتبع بعض بعضا إلى ما لا نهاية، ومع اكتمال كل دارة ينهار الكون القديم ليبتدئ كون جديد مع انطلاق الدارة الثانية. والنمط الثالث هو التاريخ الدينامي الذي يتطور بشكل خطي منذ لحظة الخلق، عبر عدد من المراحل إلى لحظة النهاية حيث ينتهي التاريخ وتنفتح الأبدية، ويتم تحويل العالم القديم، بعد عملية تطهير شاملة إلى حالة من الكمال تليق بخلق الله. هنا تنتهي ثنائيات المقدس والدنيوي، والله والعالم، والروح والمادة، والغيبي والمنظور، والخير والشر، وتذوب أطرافها في وحدة لا ازدواجية فيها إلى الأبد.
يتصل بهذه المفاهيم الثلاثة للتاريخ الديني في الثقافات العليا، ثلاثة أشكال اعتقادية في طبيعة الألوهة وعلاقتها بالعالم وهي: المعتقد الربوبي، والمعتقد الحلولي «وحدة الوجود»، والمعتقد الألوهي. سوف نتوقف قليلا عند هذه الأشكال الاعتقادية الرئيسية قبل الانتقال إلى شرح المفاهيم الثلاثة للتاريخ. (1) المعتقد الربوبي
يقوم المعتقد الربوبي في طبيعة الألوهة وعلاقتها بالعالم على الفصل التام بين الألوهة وخلقها، واعتبارهما من طبيعتين مختلفتين لا اتصال بينهما رغم أن واحدهما هو نتاج الآخر. رغم أن الإله (أو الآلهة) قد خلق العالم بجميع مظاهره المادية والحيوية والروحية، إلا أنه مستقل عنه ومفارق له على كل صعيد. ورغم أنه قد أسس، في الزمان الأولي، لجميع أسباب الحضارة الإنسانية ولجميع المؤسسات الاجتماعية الكفيلة بوضع الإنسان على سكة التاريخ، إلا أنه لا يتدخل في مسار هذا التاريخ بشكل منهجي، وليس لديه خطة توجهه وفق مقاصد معينة ونحو أهداف بعيدة مرسومة. كما أنه لا يؤسس لصلة وحي دائم بينه وبين خلقه. قد تتدخل القدرة الإلهية في بعض الأحداث الجسام، أو تعلن عن حضورها في العالم من خلال الكوارث الطبيعانية كالطوفان المدمر أو الأعاصير التي تخرب ما بناه الإنسان، إلا أن مثل هذا التدخل عرضي ولا يسير على خطة محكمة مسبقة. يضاف إلى ذلك أن سلسلة التدخلات لا تنتظم في تتابع يفصح عن رابطة بينها، ولا تنم عن تكشف تدريجي لمقاصد محددة.
وينجم عن مفارقة الألوهة واستقلالها عن خلقها عدم اتصافها بالعدالة، وبالتالي عدم ممارسة هذه العدالة على الأرض وبين الناس، من هنا فإن أعمال الفرد في الحياة الدنيا لا تلقى مكافأة أو عقابا في الحياة الثانية، ولا وجود لبعث أو حساب أو لعالم آخر أفضل من الأول، فالآلهة وحدها هي الخالدة، أما مصير البشر فإلى موت يتبعه وجود شبحي في العالم الأسفل المظلم، الذي تئول إليه كل الأرواح بعد مفارقة أجسادها. إن الخط الصارم الحاد الذي يفصله عن عالم الألوهة يجعل الإنسان أسير شرطه الأرضي، ولا يعطيه أي أمل بتدخل الآلهة من أجل خلاصه وتحويل وجوده إلى مستوى أعلى قريب من وجودها، ناهيك عن انعدام أي فكرة عن تحويل العالم المادي بأكمله إلى حالة أسمى وأرقى من الوجود، من هنا تقوم العلاقة الطقسية بين الإنسان والألوهة باعتبارها الوسيلة الوحيدة للاتصال بين العالمين المتمايزين، فمن خلال الطقس، وخصوصا طقس الذبائح والقرابين، يعمل الإنسان على استرضاء القوى العلوية وحثها على تحقيق أغراضه الدنيوية، واتقاء غضبها غير المفهوم أو المسوغ من وجهة نظره. أما الأخلاق فشأن دنيوي تنظمه الجماعة ولا علاقة له بالآلهة التي لا تتصف بالخير ولا تأبه لتحقيقه بين الناس. (2) المعتقد الحلولي
Shafi da ba'a sani ba