Matafiya Musulmi a Karni na Tsakiya
الرحالة المسلمون في العصور الوسطى
Nau'ikan
ومن الطريف أن عبد اللطيف سجل في رحلته رأيا في قيمة الآثار قد يظن بعضهم أنه غريب على المسلمين في العصور الوسطى. أجل، فقد كتب هذا الرحالة:
وما زالت الملوك تراعي بقاء هذه الآثار، وتمنع من العيث فيها والعبث بها، وإن كانوا أعداء لأربابها. وكانوا يفعلون ذلك لمصالح: منها لتبقى تاريخا يتنبه به على الأحقاب ... ومنها أنها تدل على شيء من أحوال من سلف وسيرتهم وتوافر علومهم وصفاء فكرهم وغير ذلك. وهذا كله مما تشتاق النفس إلى معرفته وتؤثر الاطلاع عليه.
ولكنه أضاف إلى ذلك أن القوم في عصره كانوا يخربون الآثار ويكسرون الأصنام، ويدخلون إلى المقابر بحثا عن الكنوز وسعيا وراء الذهب المدفون مع الموتى. والحق أن ما كتبه البغدادي عن المقابر الأثرية وما يوجد فيها لا يختلف كثيرا عما وصلت إليه الحفائر العلمية في العصر الحاضر، أي: بعد وفاة البغدادي بسبعمائة سنة ونيف، بل إن الفصل الطويل الذي عرض فيه لآثار مصر فيه من دقة الوصف وشدة الإعجاب ما يبدو كأنه بقلم عالم من علماء الآثار المحدثين. •••
أما ما ذكره البغدادي عن حوادث مصر سنة 595 وسنة 598ه فوصف تقشعر لهوله الأبدان، إذ اشتد القحط حتى أكل الفقراء لحم الميتة والكلاب: بل «تعدوا إلى أكل صغار بني آدم». ولم يفت الرحالة أن يلاحظ أن فريقا من الناس استغل هذه الشدة العظمى على حساب الطبقات الفقيرة في الشعب، فأثبت في أخبار رحلته أن «مما يقضي منه العجب أن جماعة من الذين ما زالوا مجدودين سعدوا في دنياهم هذه السنة. فمنهم من أثرى بسبب متجره في القمح. ومنهم من أثرى بسبب مال انتقل إليه بالإرث. ومنهم من حسنت حاله لا بسبب معروف».
وروى عبد اللطيف قصصا مروعة عن الجوع والوباء وتصيد الناس، وأثر هذا كله في الانصراف إلى الضلالة والشهوات. وكأنه شعر بما يحمله بعضها من طابع المبالغة فقال: «ولو أخذنا نقص كل ما نرى ونسمع لوقعنا في التهمة أو في الهذر. وجميع ما حكيناه مما شاهدناه لم نتقصده ولا تتبعنا مظانه، وإنما هو شيء صادفناه اتفاقا، بل كثيرا ما كنت أفر من رؤيته لبشاعة منظره.» والمعروف أن مصر ابتليت بمثل هذا القحط عدة مرات في تاريخها الطويل. وحسبنا أن المقريزي، شيخ المؤرخين المصريين في العصور الوسطى، ألف كتاب «إغاثة الأمة بكشف الغمة»، بحث فيه المجاعات التي نزلت بمصر منذ أقدم العصور إلى سنة (808ه/1405م)، فتقصى أسبابها، وأشار إلى الأساليب الممكنة لعلاجها.
والحق أن البغدادي كان دقيق الملاحظة في كل ما دونه في رحلته عن أرض مصر ومناخها ونباتها وحيوانها، ومن ذلك قوله: «إن أرض مصر رملية لا تصلح للزراعة، لكنه يأتيها طين أسود علك فيه دسومة كثيرة يسمى الإيليز؛ يأتيها من بلاد السودان مختلطا بماء النيل عند مده، فيستقر الطين، وينضب الماء، فيحرث ويزرع. وكل سنة يأتيها طين جديد، ولهذا يزرع جميع أراضيها ولا يراح شيء منها، كما يفعل في العراق والشام.»
ولاحظ عبد اللطيف أن مصر لم يكن بها فراريج عن حضان الدجاج إلا نادرا؛ فقد كان في البلاد كثيرا من معامل الفروج، وكان القوم يتقنون صناعة حضانة الفراريج، ويتخذونها صناعة ومعيشة يتجر فيها ويكتسب منها، وقد أسهب الرحالة في وصف طريقة المصريين في بناء تلك المعامل واستخدام زبل البقر حتى لا يبقى فيها منفس للبخار.
ورأى البغدادي أن كثيرا من الناس يدخلون الهرم الأكبر، وذكر أن الطريق المسلوك في هذا الهرم زلاقة تفضي إلى قلعة فيها ناووس من حجر، ولاحظ أن مدخل الهرم ليس الباب المتخذ له في أصل البناء، وإنما منقوب نقبا صودف اتفاقا، وأعجب ببناء الأهرام إعجابا عظيما فقال: «وقد سلك في بناء الأهرام طريق عجيب من الشكل والإتقان، ولذلك صبرت على ممر الزمان، بل على ممرها صبر الزمان، فإنك إذا تبحرتها وجدت الأذهان الشريفة قد استهلكت فيها، والعقول الصافية قد أفرغت عليها مجهودها، والأنفس النيرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها لها، والملكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل مثلا هي غاية إمكانها، حتى إنها تكاد تحدث عن قومها وتخبر بحالهم وتنطق عن علومهم وأذهانهم وتترجم عن سيرهم وأخبارهم، وذلك أن وضعها على مخرط يبتدئ من قاعدة مربعة وينتهي إلى نقطة، ومن خواص الشكل المخروط أن مركز ثقله في وسطه، وهو يتساند على نفسه، ويتواقع على ذاته، ويتحامل بعضه على بعض؛ فليس له جهة أخرى خارجة عنه يتساقط عليها، ومن عجيب وضعه أنه شكل مربع قد قوبل بزواياه مهاب الرياح الأربع؛ فإن الريح تنكسر سورتها عند مصادمتها الزاوية، وليست كذلك عندما تلقى السطح.»
ولم يكن البغدادي سائحا عابرا، بل كان يبحث ويتفهم. فنراه، مثلا قد سمع أن في القرية المجاورة للأهرام قوما اعتادوا ارتقاء الهرم بدون عناء، فاستدعى أحدهم وأعطاه شيئا من النقود وطلب إليه أن يصعد إلى قمته وأن يقيس أبعاده عندها، ولكنه لم يطمئن بعد ذلك إلى قياسه، فدون رأيه في خطأ هذا القياس، وعلق عليه بقوله: «وإن ساعدت المقادير توليت قياسه بنفسي.»
وأشار البغدادي إلى المغارات الموجودة على ضفة النيل الشرقية جنوبي القاهرة وقال: إنها «مقابر كثيرة العدد كبيرة المقدار عميقة الأغوار متداخلة وفيها ما هو ذو طبقات ثلاث، وتسمى المدينة، حتى لعل الفارس يدخلها برمحه ويتخللها يوما أجمع، ولا ينهيها، لكثرتها وسعتها وبعدها، ويظهر من حالها أنها مقاطع حجارة الأهرام».
Shafi da ba'a sani ba